في أولى مراحل «السلم الأهلي» التي شهدها لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، أي بعدما صمتت المدافع و«اهتدت» الأطراف المتحاربة وقرّرت جميعها العودة إلى «كنف» الديموقراطية، نشأت خرافة لبنانية مفادها أنّ «المناطق فتحت على بعضها». أن تفتح المناطق على بعضها، هذا يعني إزالة القيود التي تحول أمام «ابن المنطقة» وتمنعه الخروج من منطقته والتوجّه إلى منطقة «أخرى». فـ«المناطق المفتوحة» يعني امّحاء الحدود الفاصلة التي فرضها واقع الحرب، وتجلّيًا لحرّية الحركة كما يحلو للمرء أن يتحرّك ساعة يشاء. ولعلّ صمت المدافع، وبطالة القنّاصين، واضمحلال «المعابر» قد كرّست، ظاهريًا، تلك الخرافة القائلة أنّ «المناطق فتحتْ على بعضها».
فكان «العبور»، والتجوال، والتعاطي مع المسافات دليلًا على انتهاء القطيعة، أي على انتهاء الحرب؛ الحرب التي تقطع الأوصال، وتُغلق لا تَفتَح. غير أنّ المناطق التي فتحت على بعضها، تبيّن لاحقًا، أنّ انفتاحها اقتصر على الجغرافيا، أي في حركة الذهاب والإياب حيث الطريق مفتوحة؛ فـ«أبناء المناطق» بمعظمهم، بقوا أسرى «الغيتو» الثقافيّ والسياسيّ الخاصّ بهم، أمّا من فكّ قيوده الآسرة وقام بتبديل قناعاته وفقًا لقناعات «المنطقة الأخرى»، فكان انتقاله انتقالًا أيديولوجيًا أكثر مما هو انتقالٌ مجانيٌّ تفرضه «المناطق المفتوحة» لسكّانها في الأحوال الطبيعية. كأنَّ الخطوط الهندسية التجريدية التي ترسم حدود المناطق محمَّلةٌ بمضامين ثقافية عميقة، وقد بقيَتْ منغلقةً على ذاتها في عقول أصحابها، عصيّةً على كلّ محاولات الانفتاح والتحرّر، بالتالي على محاولات التجاوز والتعالي على ما كان سببًا في الانغلاق، وعلى ما كان في ما مضى حائطًا مسدودًا. فـ«القادم مِن» لم يحتكّ مع «الذاهب إلى»، ولربّما أقصى احتكاكٍ حصل بينهما جرى داخل سيارة الأجرة، في تلك الدردشة المملّة بين الراكب في سيارة الأجرة مع سائقها؛ هنا التقى أولاد المناطق ببعضهم البعض، حيث حكايات سائق الأجرة «المذهلة» راحت تُلقى على مسامع الراكب الذي تلقّفها بدهشة، وهي أخبارٌ متكرِّرةٌ يرويها كلّ سائق، ودهشة يتلقّاها كلّ راكب، وعلى هذا النحو، وعلى وقع هذه الحكايات المملّة، يمرّ العمر على الحياة السياسية والاجتماعية في هذا البلد (سائق التاكسي في المخيال اللبناني يصبو إلى هوميروس، وحكاياته وأخباره تشكّل ملحمة إلياذة).
هكذا بقِيَ الشخص «القادم من» والشخص «الذاهب إلى» غريبين في وطن واحد، يتعاملان مع بعضهما ككياناتٍ عرضيةٍ، عابرة، لكنّها في الآن عينه، كياناتٌ خطيرةٌ تمثّل تهديدًا وجوديًا على بعضها البعض، فبإمكان الواحد بحسب الاعتقاد الشائع، أن يُفضي إلى إفناء الآخر بين ليلةٍ وضحاها. ليس من الغرابة إذًا أن يكون هناك ثمنٌ يجب دفعه، وهو أشبه بالخنوع لكي يتحقّق التعايش بين «المناطق» ونتجنّب كارثة إراقة الدماء. ولأنّ «السلم الأهلي» اتضح أنه خرافةٌ أخرى لا تختلف كثيرًا عن خرافة «المناطق التي فتحتْ على بعضها»، بقي سائدًا الخطاب المتطرِّف الذي دسّ مصطلح «تطهير» (تطهير بيروت من اليسار والفلسطينيين) في المعجم السياسي، وطبّع مع الإبادة كضرورة من ضرورات «البناء الوطني». وكلّما تقدّم الزمن على حاملي هذا الخطاب، كلما ترسّختْ قناعتهم بإعادة «إغلاق المناطق على بعضها» والتلويح بهذا الخيار، مرة تحت مقولة «لا يشبهوننا» ومرّات تحت مقولة «هؤلاء إيرانيون»؛ وهذه ضريبة، بل خوّة، أرادوا فرضها على من لم يرض دفع ثمن الإقرار بقوى أمر الواقع- التي هي ميليشيات الحرب- ولم يوافق على الخنوع لأيديولوجيا تريد بسْط سيطرتها بالقوة، بل تعامل مع لبنان باعتباره خارج سياق الحرب الأهلية ولم تحدّه أوهام المناطق التي فصلتها الحرب عن بعضها البعض.مَن يتابع مقابلات الياس حنكش و«اليمينيين الوسطيين» من أمثاله يخلص إلى أنّ المراد قرار يشبه الـ1559 على المستوى الثقافي
في مرحلة التسعينيات، في أولى مراحل «السلم الأهلي» وصولًا إلى 14 آذار (مارس) 2005، كان الخطاب المتطرِّف إيّاه يحتفي ببعض الوجوه «اليسارية» التي ترأسّت في زمن الحرب بلديّة إحدى البيروتين. كان خطاب «اليساريين» هؤلاء نابعًا من عقدة ذنبٍ دفينة؛ أفرطوا في تقديم الاعتذارات، وتوسّلوا الغفران من «اليمينيين» الذين لم يبادلوهم الندم العميق ذاته، ولم يعلنوا بدورهم عن التوبة. ثمّة رغبةٌ «ثقافية» مختبِئة في طيّات الخطاب السياسي عند هؤلاء اليمينيين اليوم؛ رغبة محمومة في الانتقام ممن يعتبرونهم «خصومهم الأشرار»، في مرحلة ما بعد الحرب. رغبة تتوق إلى التعامل مع «حزب الله» وجمهوره بالطريقة نفسها التي تعامل فيها مع «اليساريين» سابقًا، في أنّ «حزب الله» مجبرٌ على تقديم «واجب» الاعتذار إليهم، وترداد الحججِ ذاتها التي قدّمها اليسار لحظة «اهتدائِه» كفعل التوبة: كانت «حرب الآخرين على أرضنا»، ولقد «حمّلْنا لبنان أكثر مما يَحتمِل»، ويجب «العودة إلى لبنان»...
من يتابع مقابلات الياس حنكش، أو من يقرأ نبيل بو منصف و«اليمينيين الوسطيين» من أمثاله، ومن يصغي إلى نواب (النكتة) «التغييريين»، يخلص أنّ المراد من المرحلة التي تلي هذه الحرب، قرار يشبه الـ1559 على المستوى الثقافي: تجريد «حزب الله» وجمهوره من فكرة المقاومة، وتقديم في المقابل الطاعة، الولاء والامتثال لا إلى فكرة «لبنان أولًا» التي تتلحَّف بوهم الحياد والنأي بالنفس كشكل من أشكال الاهتمام بشؤوننا كأبناء وطن واحد، بل إلى نزعة كيانية شمعونية، ترى البلد من منظار ثقافوي، حيث يكون النظر من عدسات ثقافة «منطقة» واحدة؛ تروم خصخصة وبيع كل ما تبقَّى في هذه الدولة من أصول وممتلكات وشجر أرز، وفتح المناطق، بالأحرى الحدود، على... «أحد».
سنجد داخل صفوف هؤلاء اليمينيين جناحًا أكثر تطرّفًا، غير أنّ تطرفهم هذا لهو دفع للحقيقة نحو أقاصيها، حيث تبدو رغباتهم (الثقافية) الدفينة عندئذٍ، مرئية وواضحة وشفافة. والحال، أنّ هؤلاء يتطلَّعون في اليوم التالي لهذه الحرب إلى إجراء «محاكمة» لـ «حزب الله » وجمهوره على نسق محاكمة آيخمان. لقد سبق أن كتبت جوديث بتلر بعد السابع من أكتوبر، مرافعةً إنشائيّةً عبثيّة، تمركزت حول «أخلاقيات» العمل المقاوم، أرادت فيها وضع معايير وسُنن لـ«ممارسة المقاومة»، وإنّ دعوتها الساذجة تلك حضرت خارج إطار المقال، كأنها إصدار لأحكامٌ جزائيّة؛ آنذاك، حاكمت بتلر العنف الممارس وحكمت على المقاومين بتهمٍ «تنويرية» يوتوبية، فجاء المقال كإدانة لما «ارتكبته» حماس.
لم يكن المقال إذًا سوى محاكمة. جوديث بتلر ويورغن هابرماس وكل قضاة «التنوير» الذين حضروا فلسفيًا في حرب غزة، غائبين عن حربنا هذه؛ يوجد إيلي خوري وآخرون ممّن نفضّل عدم ذكر أسمائهم. هؤلاء على قناعةٍ بأنّ إسرائيل تنوب عن العالم الشجاع الحرّ، وأنّ المحور يعني دول المحور أي النازيين، ثمّ ليس هناك من حلّ سوى الذهاب نحو «المحاكمة»، وإيجاد صيغة جديدة ينجم عنها نموذج «الابن الضال»، وهو «حزب الله » الذي «قرّر التخلّي عن ولاية الفقيه والعودة إلى كنف الوطن». فإذا كان «اليساري المذنِب» يساريًّا صالحًا، ومع هذا اليساريّ فقط، بوسعهم التعايش وتجنّب كارثة إراقة الدماء، فعلى المقاومة وجمهورها الذهاب نحو نموذج مشابه: «الابن الضال»، وهو عودة «حزب الله » وجمهوره إلى «المنطقة الحرّة»، والاعتذار من «أب» هذا الكيان، والإمعان في خدمتهِ لأنّه أبٌ أولًا، وللتكفير عن «الذنوب» ثانيًا. لكن كلّ هذه الرغبات ليست سوى أوهامٍ هائمةٍ تطوف لحظة الحروب، لا تختلف عن الحكايات الممِلّة، الفانتازية، التي يرويها سائقُ الأجرة لزبائنه.