نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» مقالًا احتفاليًا بمجنّدات إسرائيليات دخلن الجنوب اللبناني قبل أسابيع، لتنفيذ مهمات تشمل جمع المعلومات الاستخباراتية، وتحديد موقع المقاومين، وإنشاء قوائم للأهداف. إلا أنّهن أُجبرن على الخروج هربًا!
مشاهد حمل النساء للسلاح، تتبعها تعليقات ذكورية، كما تنبع منها قوة وصلابة، وخصوصًا لفكرة مفادها أنّ الحرب على الجميع، والقتال واجب على الجميع. لكن ليست كل امرأة مقاتلة بطلة، فكما يمكن للرجال أن يكونوا مجرمين وقتلة، كذلك الأمر بالنسبة إلى النساء، بعيدًا من أسطورة رومانسية مفادها أنّ المرأة كائن عاطفي وحسّاس.
نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» مقالًا احتفاليًا بمجنّدات إسرائيليات في جنوب لبنان، كنّ ضمن مجموعة تمركزت بالقرب من الحدود السورية في منطقة جبل الشيخ، ودخلن الجنوب اللبناني قبل أسابيع، لتنفيذ مهمات تشمل جمع المعلومات الاستخباراتية، وتحديد مقاتلي الحزب، وإنشاء قوائم للأهداف، وتوجيه النيران من القوات الأرضية والجوية لضرب بنية الحزب في الجنوب.
قالت المجندات إنّهن دخلن سيرًا على الأقدام، ومشين قرابة الكيلومتر ونصف الكيلومتر داخل الجنوب، وأقمن موقعًا ميدانيًا، وتفاخرن بأنهن دخلن مناطق، لم تطأها القوات الإسرائيلية منذ حرب تموز عام 2006، وأنهن أول فريق قتالي نسائي يدخل لبنان. ورغم أنّهن خططن للبقاء أكثر من 24 ساعة، إلا أنّهن أُجبرن على الخروج هربًا بعد 12 ساعة.
تُعرف إسرائيل بكونها الكيان الوحيد في العالم الذي يفرض التجنيد الإجباري على الرجال والنساء، وتشكل النساء 35 في المئة من «الجيش»، وتتولى النساء 20 في المئة من المناصب القيادية العليا. وأنشأت إسرائيل أول وحدة قتالية مختلطة الجنس، هي كتيبة «كاراكال» في عام 2000. وتطور دور النساء في «الجيش» الإسرائيلي في العقود الماضية عبر التجنيد الإجباري، إذ يُطلب من النساء اليهوديات الخدمة في صفوف جنود الاحتلال لسنتين عند بلوغهن سنّ الـ 18 عامًا. وتوسعت مشاركة النساء في الوحدات القتالية، مثل سلاح الجو، ووحدات المشاة المختلطة، والدوريات الحدودية. كما يلعبن دورًا كبيرًا في المواقع الإدارية، والتقنية، والاستخباراتية، ووحدات السايبر، والترجمة، والتحليل الاستخباراتي.
هذا الدور يعني بطبيعة الحال، مشاركة النساء في عمليات القتل والإبادة، لكن لا تتم محاسبتهن، في تكرار لنماذج تاريخية وعالمية، منعت المحاكمة عن نساء شاركن في الحروب وعمليات قتل جماعية، لأنهن فقط نساء!
ظهر الدور الإجرامي للنساء في الحروب في حروبٍ عدة، من الهولوكوست إلى الإبادة الجماعية في البلقان ورواندا، والحرب اليوغوسلافية، وغيرها. لم تحاكم هؤلاء النساء، إلا في حالات محددة، لما يحيط بصورة من المرأة من هالة وقدسية حول كونهن مسالمات وبريئات، ما يحول دون اعتبارهن مجرمات حرب.
تاريخيًا، تكرّست النساء كمدنيّات بريئات، وقد تعزّز هذا الاتجاه مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325، الذي ينصّ على أنّ النساء والأطفال يشكّلون الغالبية العظمى من المتضررين بشكلٍ سلبيّ في الصراعات المسلحة. شكل هذا القرار حمايةً قضائية للنساء، من تهم جرائم حرب بموجب القانون الدولي، فيما لعبت محاكمات أخرى دورًا في تحييد النساء عن المحاسبة، كما جرى في المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ (1945 إلى 1946) التي أسّست لنهج تحييد النساء، على اعتبار أنّ الموظفات والسكرتيرات وغيرهن من الموظفين المشابهين في الحكومة النازية، لم يشكلن تهديدًا على المجتمع الألماني بعد الحرب. لكن في الواقع، انخرط ثلث النساء الألمانيات في نشاط الحزب النازي، ولم تحاكم سوى 26 امرأة في ألمانيا والنمسا، من أصل قرابة 500 ألف شاركن في الحرب.
ومن بين المتّهمات في محاكمات ألمانيا الغربية هيلدي فيرنيك وهيلين فيكزوريك، اللتان حُكِم عليهما بالإعدام بتهمة تسميم المرضى ذوي الاحتياجات الخاصة، بفعل عملهما كممرّضتين في برنامج القتل الرحيم النازي، فيما بُرِّئت عدد من النساء الأخريات من جرائم مماثلة.
أما إيرنا واليش، فكانت تعيش حياة رفاهية في شقتها في فيينا، يوم صنّفها مركز «سيمون فيزنتال» عام 2007، كإحدى مجرمات الحرب النازية، وتوفيت قبل انتهاء التحقيقات في جرائمها في معسكر «مايدانيك» للموت. وفي العام 2015، وجّهت 260 ألف تهمة بالمشاركة في القتل إلى امرأة ألمانية تبلغ 91 عامًا، لدورها في معسكر «أوشفيتز» كعاملة تلغراف.
الفظائع التي شهدتها البشرية كانت أيضًا في جمهورية صربسكا (كيان قانوني يمثّل جزءًا من البوسنة والهرسك)، وقد حوكمت الرئيسة السابقة للبوسنة بيليانا بلافسيتش، بتهمة ارتكاب جرائم حرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، بين عامَي 1993 و2017. وإلى جانب سلفها رادوفان كاراديتش، وقائد القوات المسلحة وقائد الجيش راتكو ملاديتش، تركز دورها في التسبّب في مقتل ما يقرب من 50 ألف مسلم وكرواتي بوسني. وجّهت المحكمة إلى بلافسيتش تسع تهم، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والتواطؤ في ارتكاب الإبادة الجماعية، والاضطهاد على أسس سياسية وعرقية ودينية، والإبادة، والترحيل، والأفعال اللاإنسانية، والقتل المتعمد، والقتل كجريمة ضد الإنسانية، والقتل باعتباره انتهاكًا لقوانين الحرب.
قبل بدء محاكمتها في العام 2002، اعترفت بلافسيتش بتهمة تتعلّق بالاضطهاد على أُسس سياسية وعرقيّة ودينيّة للتطهير العرقي لغير الصرب. وخلال المحاكمة، قدم فريق الدفاع بلافسيتش كشخصية نادمة ووقورة استُبعدت من عدد من القرارات الرفيعة المستوى التي اتخذها أقرانها الذكور. وعلى الرغم من مكانتها كرئيسة، فقد أخذت المحكمة في الحسبان أنّ بلافسيتش «لم تكن في الصف الأول من القادة لجمهورية صربسكا وقوّاتها المسلحة ». وحكمت المحكمة على بلافسيتش بالسجن 11 عامًا في سجن سويدي، وأُطلق سراحها لحسن سلوكها بعد قضاء ثلثي عقوبتها. أما المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، فمثلت أمامها متهمةٌ واحدة، هي وزيرة الأسرة وتنمية المرأة السابقة في رواندا بولين نيراماسوهوكو. وعلى عكس وزارتها، لعبت نيراماسوهوكو دورًا محوريًا في خطة الإبادة، التي وضعها النظام، عبر توجيه ميليشيا إنتراهاموي في مقاطعة بوتاري، وإدارة حاجز طريق بمساعدة ابنها، أرسين شالوم نتاهوبالي، والتحريض عبر مكبّرات الصوت على قتل الرجال التوتسي، واغتصاب وقتل النساء التوتسي. وقد زارت البلاد كلّها لتُشرف بنفسها على التزام مكاتب الحكومة المحلية بخطة الحكومة للإبادة الجماعية. وبعد اعتقالها في كينيا، حوكمت في محاكمة جماعية مع خمسة من المتهمين الذكور.
خلال المحاكمة، قدم فريق الدفاع الحِجج نفسها التي قدمها فريق بلافسيتش، وقالوا إنها امرأة متديّنة وأم حنون ومدافعة عن نساء وأسر رواندا. لكنّ المحكمة رفضت تحييدها عن المسؤولين الحكوميين الآخرين المتورطين في الإبادة الجماعية. ونتيجة لهذا، باتت نيراماسوهوكو، حتى الآن، المرأة الوحيدة التي أدينت من قبل محكمة دولية بتهمة الإبادة الجماعية والاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية.
وإذا كانت هذه النماذج تظهر ضرورة محاكمة مجرمات الحرب، إلا أنّها لا تشمل كل النساء، بل تحصرها بالمسؤولات الحكوميات الرفيعات المستوى، اللواتي أصدرن توجيهات للآخرين لارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. ويستبعد هذا الإجماع، الذي يستند إلى حد كبير إلى محاكمات نورمبرغ، المساءلة عن آلاف النساء من الرتب الأدنى اللواتي ارتكبن جرائم حرب. وغالبًا ما تُعفى مرتكبات الجرائم من المجنّدات والموظفات من المحاكمة، باعتبارهن ضحايا لأيديولوجيات وممارسات سياسية أبوية.
قيّدت النازية في ألمانيا هويات النساء في المجال الخاص، وحُصر دور النساء في الإنجاب وتربية أطفال أنقياء عرقيًا. وعملت الطبيعة الشوفينية للقومية الصربية على تقليص دور النساء إلى «أمهات الأمة». وعلى نحو مماثل، كانت الوصايا العشر للهوتو ترفع النساء الهوتو كزوجات وأمهات مثاليات. كما أشادت بنساء الهوتو وحثّتهن على اليقظة والحرص على أن يتجنّب أزواجهن وإخوانهن وأبناؤهن أي علاقات مع نساء التوتسي. تولّد هذه الأيديولوجيات لدى الجناة الإناث في المجتمعات شديدة التمييز بين الجنسين، هويات معقدة كضحايا وجناة، وأحيانًا الاثنين معًا. ويكمن الخطر في أنّ الكثير من النساء لن يعاقبن على جرائمهن، خصوصًا المجندات الإسرائيليات.
في آب (أغسطس) الفائت، نشرت «سي. إن. إن» صورًا لأسرى فلسطينيين يتعرضون للتعذيب في معتقل «سدي تيمان»، وتعرضوا للاغتصاب والصعق بالكهرباء والضرب المتكرر. وبحسب شهادات الأسرى، فقد تعرضوا للاغتصاب من قبل مجندات، منهن في سنّ المراهقة. كما وثقت منظمات حقوقية تورّط مجندات في الاعتداء على أطفال فلسطينيين أثناء عمليات الاعتقال أو التفتيش، إضافةً إلى التعذيب النفسي والإهانة أثناء الاستجواب أو في المعتقلات. وتشير «هيومان رايتس ووتش» إلى أنّ المجندات شاركن في عمليات قتل ضد الفلسطينيين، سواء أثناء المداهمات أو عبر استهداف مباشر في المواجهات، كما شاركن في إطلاق النار على مدنيين، بمن فيهم أطفال، بالإضافة إلى توثيق حالات القتل بدم بارد تحت مبرّرات أمنية واهية. هذه الانتهاكات تمثل جزءًا من سياسة أوسع تستخدم العنف المفرط لتحقيق السيطرة، ما يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية والإنسانية.
وأفادت منظمة «كسر الصمت» الإسرائيلية عن شهادات لمجنّدات حول ممارسات عنيفة تشمل الإهانة والتعذيب ضد الفلسطينيين، وخصوصًا عند الحواجز العسكرية. وتحدثت إحدى المجنّدات عن كسر يد فتى فلسطيني بطريقة وحشية على أيدي الجنود بعد اعتقاله، وفي قطاع غزة، وثّقت تقارير «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان»، حالات إعدامات ميدانية واستهداف منازل المدنيين، واستخدام القوة المفرطة كأسلوب لترهيب السكان وتهجيرهم قسرًا. ورغم كل هذا التوثيق والانتهاكات العلنية، تبقى هؤلاء المجندات، وزملاؤهن الذكور، متفلتين من أي محاسبة ومساءلة، كما حدث في كل المجازر والإبادات السابقة.