لم يعد صوت الرئيس التونسي، قيس سعيد، صادحًا، كما كان عليه أيام حملته الانتخابية الأولى في العام 2019، حيث صرخ بكل وضوح بأن التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة وخيانة عظمى، إذ إن الصوت الرسمي التونسي ضد العدو الصهيوني، بحسب ما يلاحظ منذ فترة، خفت على نحو واضح، وخصوصًا مع بدء العدوان على لبنان. ووفقًا لمراقبين، فإن هذا الأمر يحمل تفسيرَين: إما أن الرئيس بدّل قناعاته تلك، أو أنه يرزح تحت ضغط دولي كبير يمنعه من أن يندّد بالأهوال التي يمر بها قطاع غزة ولبنان.
ولا يبدو أن الأحداث التي مرت بها المنطقة على امتداد السنة، فضلًا عن أطماع دولة الاحتلال وحلفائها في تونس، سواء المادية أو الاستخباراتية، كانت كافية لتدفع السلطات التونسية إلى تبني مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم مرور عقد من الجدال حول القانون المشار إليه، وإرجاء التصويت عليه لمرات عدة. وعلى خط مواز، بدا ملحوظًا أن الصمت أصبح مفروضًا أيضًا على النشطاء؛ إذ نفّذت السلطات عدة ملاحقات وتحقيقات دُعِي إليها هؤلاء عقب التحركات المساندة لفلسطين ولبنان، والمناهضة للعدوان الإسرائيلي، والمطالبة بسن مشروع قانون تجريم التطبيع. وسجّلت آخر تظاهرة خرج فيها النشطاء والطلبة والتلاميذ ووجوه سياسية ونقابية وإعلامية معروفة لإحياء الذكرى الأولى لعملية «طوفان الأقصى»، عنفًا أمنيًا غير مبرر ضد المشاركين فيها، بدا أن غايته إيصال رسالة بانتهاء زمن التحركات والاحتجاجات مهما كانت القضية.
وإذ زعمت وزارة الداخلية أن المتظاهرين هم من بادروا بالعنف على أعوان الأمن المكلفين بتأمين المكان، وأنهم قاموا بخروقات للقانون تستوجب الملاحقة القانونية، فقد أكّد المشاركون في وقفة إحياء ذكرى «طوفان الأقصى»، أن الأخيرة لم تشهد مظاهر مخلّة بالقانون، بل ظلت في نطاق سلمي شارك فيه، على نحو خاص، المنتمون إلى «الحملة الوطنية لدعم فلسطين» و»حملة مقاطعة ومناهضة التطبيع». وتؤكد الحملة الأخيرة نفسها، من خلال تصريحات أعضائها، أن ما استفزّ السلطات التونسية ودفعها إلى ملاحقة المحتجين، هو اتهامهم المباشر للسفارات الموجودة في تونس بالتواطؤ في الحرب، ومحاولة ترويض التونسيين وتربيتهم على تقبل الكيان وأذرعه، عبر تمكين الأخيرين من الدخول إلى تونس بجوازاتهم غير الإسرائيلية وحشرهم في التظاهرات الثقافية.
أبعد من ذلك، حذّرت الحملة، في أكثر من مناسبة، من أن أبواب الدعم الثقافي ودعم المجتمع المدني عبر المنح والتمويلات، صارت بوابة للسفارات لفرض سياسة التطبيع. واعتبرت أنه طالما تتغاضى السلطة الرسمية عن هذه التصرفات، وتسمح للسفارات باستضافة أسماء مشبوهة، ولا تسنّ قانونًا يجرّم هذه الأفعال، فلا يمكن أن يتم ردع تلك السفارات والمنظمات المانحة. وكانت تظاهرة إحياء ذكرى «الطوفان»، مرّت على غرار أغلب التظاهرات التي سبقتها، عبر شارع الحبيب بورقيبة، حيث تحتل السفارة الفرنسية نصف الشارع، وعبر مركز الثقافي الفرنسي في الشارع المجاور. وأمام المقرين، رفع المتظاهرون شعارات المقاطعة، واتهموا فرنسا بالتغطية على الإرهاب الإسرائيلي، وذكّروها بنفاقها الحقوقي عندما تشيح بوجهها عن المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون، وتنطلق في إعطاء الدروس في حقوق الإنسان لبقية شعوب العالم. وفي هذا السياق، أكدت مصادر أن السفارة الفرنسية هي التي تقدّمت بالشكوى ضد بعض المتظاهرين، ولكنها سرعان ما تراجعت نتيجة الدعم الشعبي الذي لقيه الموقوفون.
وكانت المؤسسة القضائية التونسية دعت، الأسبوع الماضي، سبعة نشطاء تابعين للحملة في أكثر من جهة في البلاد للتحقيق معهم بتهم مختلفة، راوحت بين الإساءة إلى الغير والاعتداء على منشآت دبلوماسية، فيما دعي الناشط غسان البوغديري للتحقيق أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، بعد نشره تدوينة تتحدث عن وجوب تصفية سفراء الاحتلال كواجب شعبي نصرة للمقاومة. وجاءت هذه التدوينة تعليقًا على اغتيال الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصرالله، حيث اعتبر البوغديري أنه كما كانت لإسرائيل الوقاحة في أن تغتال من تريد في أي مكان، فإن من حق المقاومة أن ترد الصاع بنفس الطريقة وتستهدف سفراء الكيان والدول المتواطئة معه. وقبيل توجّهه إلى التحقيق، تساءل البوغديري، الذي أُطلق سراحه أخيرًا، عمّا وصفه بالتواطؤ الذي يدفع دولة إلى محاكمة مواطنيها على مواقف اتخذوها لنصرة شعب شقيق، بينما لا تحرك ساكنًا إزاء ما يحدث من إرهاب صهيو-أميركي وإبادة وتهجير.