حين بدأ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كتبت مديرة البرامج في منظمة كود فور سَينس أند سوسايتي (Code for Science and Society) غير الربحية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، ميلياكو نيوابويزي، لزملائها عبر منصة سلاك: "مرحبًا... أشاهد عددًا من عمليات الإبادة الجماعية حول العالم"، وذكرت فلسطين والسودان والكونغو وآرتساخ. وأضافت: "عمليات الإبادة هذه كلها لها ارتباط وثيق بصناعة التكنولوجيا". وشددت على أنه يجب "كود فور سَينس أند سوسايتي"، التي تتمثل مهمتها المعلنة في "تعزيز قوة البيانات لتحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية لجميع الناس"، أن تعلن على الأقل أنها "تدعم المطالب بوقف إطلاق النار" في غزة. وسألت زملاءها: "هل يمكننا مناقشة هذه المسألة في اجتماعنا المقبل؟". وافق 6 من الزملاء الـ12.
هذه المحادثة البسيطة ستؤدي إلى استقالة كل أفراد المؤسسة الأساسيين تقريبًا، وطرد اثنين منهم، بينهم نيوابويزي نفسها في سبتمبر/ أيلول الماضي.
ماذا حصل؟ عارض مجلس إدارة المنظمة والمدير التنفيذي بيانًا كتبه الموظفون عن العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة ودور التكنولوجيا في ما يحصل هناك وفي أماكن أخرى، مشيرين إلى مخاوف مثل "المسؤولية الائتمانية". ما حصل في المنظمة المذكورة شديد الأهمية، وفق ما أكده مراقبون لصحيفة ذا غارديان البريطانية الثلاثاء، وذلك نظرًا للمكانة البارزة للمنظمة في مجال التكنولوجيا ذات المصلحة العامة، وهو مجال صغير وجديد نسبيًا.
توفر المنظمة ما يُعرف باسم "الرعاية المالية الشاملة" لنحو 15 مشروعًا تقنيًا، التي تحصل بدورها على تمويلها من جهات قوية مثل مؤسستي فورد وماك آرثر ومؤسسات المجتمع المفتوح التابعة لجورج سوروس. وباعتبارها راعيًا ماليًا شاملًا، تستخدم المنظمة وضعها غير الربحي لإدارة منح وتبرعات المشاريع، بالإضافة إلى تقديم خدمات مثل الموارد البشرية والاستشارات الاستراتيجية، حتى تتمكن المشاريع من التركيز على مهامها. في المقابل، تدفع المشاريع 15 في المائة من أموالها للمنظمة التي تعمل بميزانيتها الخاصة البالغة 20 مليون دولار. وفي حين أن موظفي المشاريع التي ترعاها المنظمة يتلقون رواتبهم منها، إلا أنهم ليسوا من موظفيها الأساسيين، ولا يشاركون في مهامها اليومية أو يساعدون في تشكيل مستقبلها. فقط الموظفون الأساسيون يساعدون في إنشاء الخطة الاستراتيجية للمنظمة، على سبيل المثال.
كان الاسم الأكثر شهرة تحت مظلة الرعاية المالية للمنظمة هو تيمنيت غيبرو. بصفتها رائدة في البحث في الأخلاقيات في مجال الذكاء الاصطناعي، رفعت غيبرو مكانة المنظمة عندما أصبحت تحت رعايتها عام 2021. طردتها "غوغل" عام 2020 بعد أن أثارت قضايا التمييز في مكان العمل. جلبت ما يقرب من 4 ملايين دولار في تمويل المنح للمنظمة، لمشروع بدأته يسمى معهد أبحاث الذكاء الاصطناعي الموزع (Dair). خدمت غيبرو في مجلس إدارة المنظمة أيضًا حتى استقالت احتجاجًا على تعاملها مع البيان.
بول بيجار اسم بارز آخر في هذه الأحداث، إذ طرد من مجلس إدارة شركة سيركل سي آي (Circle CI) التي أسسها، بعدما كتب تدوينة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن القصف الإسرائيلي على غزة، عنوانها "لا أستطيع النوم". أسس لاحقًا "تِكنولوجيا من أجل فلسطين"، وهي تحالف من المتخصصين في مجال التكنولوجيا المتطوعين للمساعدة في المشاريع "دعمًا لتحرير فلسطين". بيجار قال إن الأحداث في قطاع التكنولوجيا تعني أنها "تقدمية باستثناء حين يتعلق الأمر بفلسطين".
اعتمدت "ذا غارديان" في تقريرها عن "كود فور سَينس أند سوسايتي" على مقابلات مع ستة موظفين سابقين وعضو مجلس إدارة سابق في المنظمة، وحصلت على عشرات الرسائل عبر تطبيق سلاك والبريد الإلكتروني بين الموظفين والمدير التنفيذي والمدير الأول للعمليات وأعضاء مجلس الإدارة. وطلب معظم الموظفين السابقين عدم الكشف عن هوياتهم.
وفقًا للصحيفة البريطانية، فبعد الرسالة التي نشرتها ميلياكو نيوابويزي عبر "سلاك" الخريف الماضي وموافقة زملائها على طرح موضوع الإبادة الجماعية والتكنولوجيا في اجتماع عام، نشرت المديرة التنفيذية لشركة سيركل سي آي، دانييل روبنسون، ردًا، قالت فيه: "أنا شديدة التشاؤم بشأن قوة وفائدة البيانات التنظيمية. وموقفي هو أن منظمتنا لا ينبغي أن تصدر بيانات عن حروب وصراعات جيوسياسية محددة". ردت عليها نيوابويزي بجفاف: "كنت أشير إلى الإبادة الجماعية، وليس الحرب أو الصراع". ومن هناك ساءت الأمور. إذ قالت روبنسون إن رد نيوابويزي كان "محملًا بافتراضات حول ما أؤمن به". على الرغم من هذه البداية المتعثرة، فقد بدأ الموظفون الأساسيون العمل على صياغة بيان والتصويت عليه. وأكدت لهم روبنسون أنها "لن تحاول إبطاء هذا العمل أو مقاطعته بأي شكل من الأشكال".
بدأ البيان المكون من أربع صفحات و1291 كلمة على النحو الآتي: "يدعو العاملون في كود فور سَينس أند سوسايتي شركاءنا، الحاليين والسابقين والمستقبليين، إلى تصور تحالف نحو عالم خالٍ من الإبادة الجماعية". وأضاف: "نحن ننضم إلى أولئك الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة، وإنهاء الاحتلال الصهيوني". وسردت الوثيقة صعود "التكنولوجيا العسكرية" في السنوات الأخيرة المستخدمة في القمع الحكومي، بما في ذلك استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي في تقنية التعرف إلى الوجه في غزة، واستخدام الصين لتكنولوجيا مماثلة ضد الإيغور، و"الأسلحة الذكية" المستخدمة في السودان. وتطرقت إلى محاولات ولاية جورجيا الأميركية للحد من تكنولوجيا المصدر المفتوح التي تستخدمها الحركة ضد "كوب سيتي"، وهو مركز تدريب للشرطة مثير للجدل في أتلانتا. وأضاف: "جذور الفاشية الحديثة تكمن في الأنظمة القمعية للاستعمار التي تميزت بفظائع العنصرية والتفوق الأبيض". وأقر كاتبو البيان: "في مكاتبنا ومختبراتنا وأماكن عملنا، نلاحظ إلغاء المنصات من جديد للأشخاص والمؤسسات التي تقف مع فلسطين". واختتموا بالقول: "بصفتنا عمالًا في منظمة تدعي بناء عالم أفضل أو أكثر حرية أو إنصافًا أو عادلًا أو "محررًا، نعتقد أن لدينا واجب التحدث ضد عمليات الإبادة الجماعية التي تحدث على مستوى العالم، والقمع الذي يحدث في الولايات المتحدة في أتلانتا".
بحلول 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، صوّت الموظفون الأساسيون على الوثيقة، بأغلبية 10 مؤيدين ومعارض واحد وامتناع واحد عن التصويت. وبعد يومين، أرسلوا بريدًا إلكترونيًا إلى مجلس إدارة المنظمة والمشاريع الخمسة عشر التي ترعاها المنظمة ماليًا، لإبلاغهم بالخطط لإصدار البيان في اليوم التالي. ظهر ذلك اليوم، اتصلت روبنسون بالعديد من كبار الموظفين لإخبارهم أن المجلس "في حالة من الذعر" و"أطلعوها على قانون الشغب"، وفقًا لمصادر مطلعة تحدثت لـ"ذا غارديان". أخبرتهم روبنسون أن "المجلس قلق بشأن مسؤوليتهم الائتمانية". أرادت التأكد من إمكانية إيقاف نشر البيان تلقائيًا في اليوم التالي. قال أحد الموظفين في المكالمة الجماعية: "إذا أوقفنا نشره الآن، فلن ينشر أبدًا".
قبل الساعة 11 مساءً بقليل في 30 نوفمبر 2023، أرسل مدير العمليات الأول آنذاك، جو هاند، واثنان آخران من كبار الموظفين، والذين عملوا جميعًا على البيان، رسالة بريد إلكتروني إلى بقية الموظفين الأساسيين، أوضحوا فيه أن المجلس أعرب عن "مخاوف كبيرة بشأن قدرتهم على تحمّل مسؤولياتهم الائتمانية والحوكمة من دون وقت كافٍ لتقييم تأثير البيان". وكتب هاند: "طلبهم إيقاف إصدار بيان عام حتى نتمكن من الاجتماع. (...) نشارككم هذا التحديث بخيبة أمل شديدة، ونريد أن نظل متفائلين بوجود مسار للمضي قدمًا يعزز علاقتنا بالمجلس مع إصدار البيان الذي شاركنا في تأليفه".
في الرابع من ديسمبر 2023، اجتمع الموظفون وأعضاء المجلس عبر تطبيق زوم. كانت ريا الزين، مديرة الشراكات في المنظمة، واحدة من 16 شخصًا حضروا الاجتماع. وأكدت، وفقًا لمحضر الاجتماع "بصفتها الفلسطينية العربية المسلمة الوحيدة في الفريق، أن محاولة منع البيان ستؤدي إلى قمع التضامن مع وجهات النظر التي لا تُسمع عادةً في هذا المجال". في الاجتماع طلب من الموظفين شرح العملية التي استخدموها لكتابة البيان والتصويت عليه، وكيف رأوا أن البيان يتماشى مع مهمة المنظمة. وقالت إحدى عضوات مجلس الإدارة: "من منظور مجلس الإدارة، نشعر بالاشمئزاز أيضًا إزاء ما يحدث". وأضافت: "نحن نأخذ بالاعتبار أيضًا المنظمة ومسؤوليتها كراعٍ مالي". لكن ريا الزين قالت لـ"ذا غارديان" إن هذا ليس إلا "تلاعبًا".
مع ذلك، فإن هذا "المسار إلى الأمام" الذي كان هاند يأمله في رسالته الإلكترونية لم يظهر. وبعد أقل من أسبوعين، في العاشر من ديسمبر 2023، أعلن المجلس قراره: كان الموظفون أحرارًا في "إصدار البيان على قناة خارجية"، أي على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم أو حسابات أخرى على الإنترنت، ولكن ليس نيابة عن المنظمة. وعلقت نيوابويزي مؤكدة أن الخطوة هذه كانت غير مقبولة لكل من شارك في صياغة البيان: "كان الهدف أن تكون المنظمة وراء البيان". وقال موظف آخر إن القرار "قضى على الغرض كله من الجهد".
كذلك كان رد المجلس "مخيبًا للآمال" بالنسبة إلى إليوت كولبيرت، مدير العمليات الكبير آنذاك، وقد ترك المنظمة في 3 يوليو/ تموز الماضي. وفي 8 يونيو/ حزيران الماضي، طُردت روبنسون هاند، المديرة العليا للعمليات التي دعمت الموظفين في جهودهم لإصدار البيان. وقال العديد من الموظفين إن فصل هاند كان القشة الأخيرة، وهي علامة على أن الأمور من المرجح أن تسوء. وقد قبل معظمهم مكافأة نهاية الخدمة. وظلت نيوابويزي في منصبها لعدة أشهر، حاولت خلالها الحصول على حزمة مكافأة نهاية خدمة أفضل. وفي العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، أرسلت روبنسون إلى نيوابويزي بريدًا إلكترونيًا تبلغها فيه بطردها، ولحقها آخرون.