أوراق إعلامية

تقارير الأمن الفرنسي عن التمويل الصــهيوني المُبكر للإعلام : تسكت عنا ندفع... تـكتب معنا ندفع أكثر!

post-img

تتقاطع معلومات جهاز الأمن الفرنسي عن اختراق الوكالة اليهودية للصحف اللبنانية والسورية مع المعلومات التي نشرها إلياهو ساسون في مذكراته «الطريق إلى السلام» الصادرة باللغة العبرية بعد موافقة الرقابة العسكرية في العام 1978. وسوف أستند إلى ما جاء في تلك المذكرات حول هذا الموضوع كون ساسون أحد أبرز الذين تعاملوا مع أصحاب الصحف.

يذكر ساسون أنه كلّف خير الدين الأحدب بمهمات سياسية عندما كان يتولى رئاسة مجلس الوزراء. وهذا الموضوع لن أتطرق إليه بالتفصيل في هذه العجالة. لكن ملخص ما ذكره ساسون عن اجتماعاته العدة مع الأحدب أن الرجل كان يعمل بالإيجار لمصلحة الوكالة اليهودية، وأن جريدته «العهد الجديد» كانت تتلقى دعمًا ماليًا من الوكالة.

منذ مطلع القرن الماضي، بدأت الصحافة الصادرة في بيروت ودمشق والقاهرة تغطية الاصطدامات بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود. وكان المناخ العام في بلاد الشام معاديًا بشكل جذري لتهويد فلسطين. لذلك قرّرت الوكالة اليهودية تخصيص ميزانية لشراء أصحاب الصحف وإغرائهم بدفع مبالغ مالية لقاء التوقف عن مهاجمة الحركة الصهيونية. بعض تلك الصحف نشرت مقالات كتبها مسؤولون في القسم العربي في الوكالة اليهودية أمثال إلياهو ساسون، هدفها إبراز النواحي الإيجابية للحركة الصهيونية.

في كانون الأول 1919 أصدر ناشطون صهاينة جريدة عبرية - عربية في دمشق سميت «الشرق» بهدف إبراز النواحي الإيجابية للفكرة الصهيونية على أمل أن تكون الصحيفة «جسرًا بين العرب والصهاينة». تولى الصهيوني الدمشقي الناشط موشي تسفي رئاسة تحرير الجريدة وتم شراء مطبعة باللغة العبرية من فلسطين. وأخذت الوكالة اليهودية على عاتقها تمويل الجريدة التي كانت توزع في حلب وبيروت ومصر وإسطنبول وبالطبع فلسطين.

أعطت وزارة الداخلية في الحكومة الفيصلية التي كان يتولاها رضا الصلح رخصة نشر الجريدة في مطلع أيار 1920، وصدر العدد الأول في مطلع تموز 1920. لكن صدورها أحدث صدمة في دمشق، إذ طالب عدد من أعضاء المؤتمر السوري بمنعها كونها تبث دعاية صهيونية. وساندت الطلب شخصيات سياسية بارزة. ولذلك أصدر وزير الحربية يوسف العظمة، قبيل أسبوعين من استشهاده في معركة ميسلون، أمرًا بإقفال الجريدة. وبما أن أولويات الاحتلال الفرنسي بعد سقوط حكومة فيصل كانت مواجهة الوطنيين السوريين، فقد تم تجاهل الطلبات الصهيونية لإعادة إصدار الجريدة. ولذلك تحوّل الجهد الإعلامي الصهيوني أكثر فأكثر إلى شراء أصحاب بعض الصحف العربية.

في بداية العام 1920 اقترح كل من يهوشواع هانكين، مسؤول قسم شراء الأراضي في الوكالة اليهودية، ومساعده موشي شاريت، تأسيس جريدة عربية في مصر توزع مجانًا، وإصدار جريدة عربية في فلسطين، إضافة إلى تقديم مساعدات مالية لصحف عربية. وتم تنفيذ المخطط، وحصلت كل من جريدة «المقطم» في القاهرة وجريدة «المفيد» في دمشق وجريدة «الحقيقة» في بيروت على التمويل. وقد أشارت إلى ذلك الصحيفة الصهيونية «دار هايوم» الصادرة في فلسطين في شباط سنة 1920.

خلال ثورة البراق عام 1929، رأت الوكالة اليهودية أن الصحف التي تصدر في بيروت ودمشق والقاهرة تؤيد نضال الشعب الفلسطيني ضد المستوطنين. لذلك كثّفت نشاطاتها، وعمدت إلى تخصيص ميزانية معينة يتولى كل من إلياهو ساسون وحاييم غالفارسكي توزيعها على بعض أصحاب الصحف مقابل نشر مقالات تؤيد الوجود اليهودي في فلسطين، وفي حال تعذّر النشر، يُستعاض بالتوقف عن مهاجمة نشاطات الصهاينة. وهذا ما رصدته أجهزة الأمن الفرنسية.

كان الرفض الشعبي في فلسطين والدول المجاورة في أوجه بعد ثورة البراق، لذلك وسّعت الوكالة اليهودية تحركاتها الإعلامية والسياسية في الأقطار العربية. وفي هذا السياق أسس الصهاينة عام 1934 في القاهرة وكالة أنباء باللغة العربية سميت «الشرق» بهدف اختراق الصحف العربية بطريقة غير مباشرة، وأسندت مسؤولية إدارتها إلى الناشط الصهيوني ناحوم زيلنسكي. وبدأت الوكالة تزويد الصحف العربية بالأخبار التي كانت تؤمنها لها الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية. وقد عززت «الشرق» حملاتها الإعلامية بموازاة ارتفاع حدة الرفض الشعبي للهجرة اليهودية. وكانت أخبار الوكالة تنشر في الصحف العربية ثم يقوم الصهاينة بترجمتها إلى اللغات الأجنبية بهدف التأثير على توجهات السياسيين والرأي العام في الدول الغربية على أساس أن الأخبار منشورة في صحف عربية.

خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) كثفت الوكالة اليهودية اتصالاتها بالسياسيين وأصحاب الصحف العربية. يتحدّث ساسون بإسهاب عن علاقاته بالسياسيين السوريين واللبنانيين، وعن نجاحاته في شراء ولاء عدد من أصحاب الصحف. وكتب في تقرير في تاريخ 10 كانون الثاني 1938 عن اجتماعه مع إلياس حرفوش صاحب جريدة «الحديث» التي كانت تحصل على تمويل من الوكالة اليهودية. وأشار ساسون إلى أنه كلف حرفوش بمهمات سياسية.

أما عن اجتماعاته مع رئيس الحكومة اللبنانية خير الدين الأحدب، فيقول في تقرير في تاريخ 27 آذار 1938 ما يلي: «بدأت علاقاتي الودية معه قبل حوالى سنتين عندما جئت إليه آنذاك طالبًا موافقته الرسمية كرئيس للحكومة اللبنانية على الاستيطان في حانيتا [من الغريب أن الصهاينة اشتروا حانيتا التي تبعد مئات الأمتار عن حدود لبنان في العام نفسه] قرب الحدود الشمالية».

في تقرير في تاريخ 22 أيار 1938 يذكر ساسون أنه التقى الأحدب مرة ثانية في مرفأ حيفا حيث كان في طريقه إلى باريس، وكلفه بمهمات سياسية عدة مع السلطات الفرنسية.

من ناحية أخرى، يشير الأكاديمي الفلسطيني محمود محارب، الذي اطلع على الأرشيف الصهيوني، في بحث نشرته مجلة «الدراسات الفلسطينية» العدد 78، عام 2009 إلى أن غالفارسكي زار بيروت في كانون الثاني 1930، واجتمع بالأحدب وطلب منه تقديم المساعدة للوكالة اليهودية بنشره مقالات موالية للصهيونية في جريدته. ثم سأله في نهاية الاجتماع عن المبلغ الذي يريده في مقابل خدمته هذه، فأجابه هذا أنه يريد 400 جنيه فلسطيني في السنة. وهو مبلغ اعتقد غالفارسكي أنه مبالغ فيه، «وبعد مفاوضات اتفقا على مبلغ 200 جنيه تدفع على أقساط كل ثلاثة أشهر».

تتضمن مذكرات ساسون رسالة مؤرخة في 2 تشرين الثاني 1939 وجهها إلى موشيه شاريت رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية يبلغه فيها حصيلة زيارته إلى سوريا ولبنان. ومما جاء في الرسالة: «في بيروت التقيت خير الدين الأحدب مرتين، والتقيت ثلاث مرات مع إلياس حرفوش صاحب جريدة «الحديث»، وسمعان فرح سيف مرتين صاحب جريدة «مرآة الأحوال»، وأسعد عقل صاحب «البيرق» مرة واحدة».

يضيف ساسون في رسالته: «خلال الأربعة أيام المنصرمة، نشرت في الصحف البيروتية التالية «الحديث»، «الاتحاد»، «لسان الحال»، «صوت الأحرار» ثماني مقالات ضد اشتراك أعضاء البرلمان اللبناني في المؤتمر البرلماني العربي. وذكرت في هذه المقالات أن النواب الذين سيشتركون في هذا المؤتمر إنما سيشتركون بصفة شخصية ولا يحق لهم التحدث باسم لبنان». وفي مقالة رئيسية طالبت «صوت الأحرار» المؤتمر باتخاذ قرارات «تقضي بوقف الاضطرابات في فلسطين». كما يشير إلى أن الياس حرفوش وعده بأن ينشر خلال اليومين القادمين مقالتين شديدتي اللهجة ضد المؤتمر والداعين إليه.

يكشف ساسون في تقاريره إلى أنه دفع مبالغ إلى الصحف التالية: «الحديث»، «الأحوال»، «الاتحاد»، «لسان الحال»، «صوت الأحرار»، «النداء»، «العهد الجديد»، «بيروت»، «الرابطة»، «النهار»، «البيرق»، و«الأوريان»، و«لا سيري» الصادرتين باللغة الفرنسية... وغيرها.

في تقرير آخر في تاريخ 23 كانون الأول 1940 يقول عن زيارته بيروت: «رأيت بأم عيني أخبار النشرة اليومية التي تصدرها الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية منشورة في قسم كبير من صحف سوريا ولبنان، وفي أماكن بارزة وتحت عناوين ملائمة مع ذكر المصدر».

كانت النشرة اليومية التي يتحدث عنها ساسون من منشورات القسم العربي في الوكالة اليهودية، وكانت تصدر خمس مرات في الأسبوع وترسل مجانًا إلى الصحف والسياسيين ورجال الأعمال والوزارات والنواب في سوريا ولبنان والبلدان العربية.

في زيارة أخرى إلى لبنان وسوريا بعد دخول قوات الحلفاء البلدين، كتب تقريرًا في تاريخ 11 آب 1941، ذكر فيه أنه حذّر من التقاهم من السياسيين اللبنانيين من أي تعاون مستقبلي مع سوريا، وأضاف: «وتوصلت إلى اتفاق مع ثلاث صحف لبنانية (لم يذكر أسماءها) بأن تكتب ضد أي تعاون كان مع السوريين، وأن لا يكتفوا بإقناع الموارنة بذلك بل السلطات الفرنسية والبريطانية أيضًا».

هذا باختصار شديد ما كان يجري قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948. ولا مجال هنا لمزيد من الشرح الموسع. المؤكد أن الاختراق الصهيوني للإعلام العربي عامة والصحف اللبنانية خاصة كان واضحًا وعلى نطاق واسع (أحصى محمود محارب في بحثه 280 مقالًا مدسوسًا في الصحافة العربية). في السابق كانت الوكالة اليهودية تموّل الصحف مقابل التوقف عن معاداة الحركة الصهيونية ونشر مقالات مؤيدة لها. أما اليوم وبعد تطور الإعلام وانتشار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، فقد حلّ مكان التمويل الصهيوني تمويل عربي أو من دول في حلف «الناتو». هذا التمويل جعل الفضاء بغالبيته يكرر السردية الصهيونية للأحداث، وهكذا وفروا على الميزانية الصهيونية المال وتولوا هم اقتناء البشر. ومن يريد التأكد من ذلك فليراقب ما يبث وينشر في الإعلام الإبراهيمي الحالي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد