منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، واجهت شركة ميتا المالكة لمنصتَي فيسبوك وإنستغرام مئات الانتقادات بسبب الرقابة المفروضة على المحتوى الفلسطيني، مقابل التعاطف والترويج للرواية الإسرائيلية. أصدر مركز حملة الفلسطيني، أخيرًا، تقريرًا جديدًا عن الموضوع نفسه.
يكشف التقرير عن نمط مقلق من القمع الرقمي المنهجي الذي تمارسه شركة ميتا ضد المحتوى الفلسطيني على منصات فيسبوك وإنستغرام. ويجمع شهادات مباشرة من صحافيين، ومؤثّرين، ومؤسسات إعلامية فلسطينية، مسلطًا الضوء على قمع ممنهج يؤثر على حرية التعبير والتواصل.
الرقابة الاقتصادية والمهنية
منصات مثل Ask Jerusalem ودوز، والتي تعتمد على التفاعل الرقمي جزءًا أساسيًا من وجودها، تعرضت لتضييقات قاسية منذ بداية العدوان على غزة عبر منصتي فيسبوك وإنستغرام. "دوز" التي كانت تمثل نموذجًا للتفاعل المجتمعي الرقمي، خسرت جزءًا كبيرًا من تأثيرها بسبب سياسات ميتا. حيث كان متوسط وصول المنشورات يصل إلى ملايين المشاهدات شهريًا، إلا أن الحظر والقيود قلص هذا التفاعل بشكل كبير، ما أثر على مصداقية المنصة وعلاقاتها مع الشركاء المحليين والدوليين. وأكدت إدارة "دوز" أن هذا القمع أدى إلى تقليص الإيرادات المادية بشكل ملموس، ما اضطرهم إلى تبني الرقابة الذاتية على المحتوى المنشور. حال "دوز" يشبه آلاف الحالات الأخرى.
رئيس تحرير موقع "بالغراف" علي عبيدات فقد حساباته على فيسبوك وإنستغرام أكثر من 80 مرة منذ العام 2017. ويعاني اليوم قيودا تمنعه من استخدام ميزات رئيسية مثل البث المباشر والتفاعل مع جمهوره. وقد عبّر عن إحباطه قائلًا: "ما زلت أحاول نشر صوتي، لكن القيود تشتت التواصل بيني وبين جمهوري". أما الكاتب والباحث الفلسطيني رازي نابلسي، فتحدث عن معاناته من القيود المتكررة على محتواه الرقمي التي أجبرته على التفكير مرتين قبل نشر أي تعليق سياسي. يقول: "وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت يومًا مساحة للتعبير الحر أصبحت مصدرًا للاختناق".
بالمثل، يتحدث عقيل عواودة، وهو صحافي وناشط فلسطيني، عن تأثير الرقابة الذاتية التي فرضتها سياسة ميتا: "بتُّ أستخدم كلمات مشفرة لتجنب الحذف، ما أفقد روايتي تأثيرها". يشير إلى أن هذا النوع من الرقابة الذاتية ليس سوى شكل آخر من أشكال التمييع للقضية الفلسطينية. أما عدنان برق، صانع محتوى فلسطيني من القدس، ففقد قدرته على البث المباشر على إنستغرام بالرغم من عدم نشره أي محتوى يتعارض مع سياسات ميتا. هذا الإجراء، وفقًا له، أضرّ بعمله مؤثرًا وشخصًا يعتمد على التواصل الرقمي في سرد القصص الإنسانية.
"ميتا" تقمع المؤسسات الإعلامية
تعرضت مؤسسات إعلامية بارزة مثل موقع "عرب 48" و"شبكة راية الإعلامية" لضغوط هائلة. صفحتا "عرب 48" على فيسبوك وإنستغرام لا تزالان تعانيان من قيود وصول حادة، وحذفت "ميتا" منشورات وألبومات كاملة من دون تفسير. تقول مساعدة التحرير في الموقع ديما كبها: "نشعر وكأننا في حرب دائمة مع الخوارزميات". أما شبكة "راية" الإعلامية، فقد فقدت 40% من الـ"ترافيك" على موقعها بسبب القيود، ما أثّر على إيراداتها بشكل كبير. مديرة عام الشبكة هبة الوزني وصفت الوضع بقولها: "نحن مضطرون للعمل على منصات تعمل ضدنا، ما يولد شعورًا بالقهر".
الرقابة أداةً لتضييق الخناق
يعكس التقرير الصادر عن "حملة" سياسات ميتا التمييزية تجاه الفلسطينيين مقارنة بمستخدمي منصات الشركة في دول أخرى. مصطفى قبلاوي، إعلامي فلسطيني، يشير إلى أن تقييد المشاهدات على المحتوى الفلسطيني يعد سلاحًا صامتًا لكنه مدمر. ويقول: "عندما نصنع محتوى بجهود جبارة ويُحرم من الوصول إلى الجمهور، فهذا لا يعني سوى أننا نواجه تمييزًا رقميًا ممنهجًا".
تتحدث الشهادات أيضًا عن الحظر بأثر رجعي، حيث تُحذف منشورات قديمة بدعوى مخالفتها السياسات الجديدة. هذا النهج أثر على مصداقية العديد من الصفحات وأجبرها على اللجوء إلى أساليب معقدة للتحايل على الخوارزميات، مثل فصل الحروف في الكلمات الحساسة. التأثير النفسي والاجتماعي يمتد تأثير سياسات "ميتا" ليشمل الجوانب النفسية والاجتماعية للمستخدمين الفلسطينيين. يعبر وديع عواودة، وهو صحافي فلسطيني، عن شعوره بالإحباط من القيود المفروضة على محتواه، التي تجبره على التخفيف من حدته خوفًا من الحذف. ويقول: "صرت أقلل من النشر لأنني أشعر أنني أشارك في تزوير الواقع". نجمة حجازي، صحافية فلسطينية، تشير إلى أن هذه القيود تؤثر بشكل مباشر على استقلاليتها المهنية وشعورها بالرضا عن عملها. تضيف: "المحتوى الذي أعمل عليه لساعات يجرى حجبه أو تقليص وصوله بشكل متعمد، ما يشوه الرواية الفلسطينية أمام العالم".
من جهة أخرى، يتحدث مثنى النجار، صانع محتوى فلسطيني، عن خسارته حسابات قوية كان يستخدمها لنشر روايته للعالم. النجار وجد نفسه مضطرًا للانتقال إلى منصات بديلة مثل تليغرام، حيث باتت هذه المنصات ملاذًا للعديد من الفلسطينيين للهروب من الرقابة الشديدة على منصات ميتا.
تشدد استنتاجات التقرير على أهمية مواجهة هذه السياسات التي تنتهك الحقوق الرقمية للفلسطينيين. يوضح التقرير أن منصات التواصل الاجتماعي ليست فقط وسيلة للتعبير، بل أصبحت أداة للسيطرة وقمع الأصوات المعارضة. يدعو مركز "حملة" إلى مساءلة ميتا وإجبارها على تطبيق سياسات أكثر شفافية وعدالة. أحد الاقتراحات التي يقدمها التقرير هو إنشاء منصات بديلة تعكس القيم الإنسانية وتضمن حرية التعبير. يتطلب ذلك تعاونًا دوليًا بين الحكومات والمؤسسات غير الحكومية والشركات التقنية لدعم المنصات التي لا تعتمد فقط على الربح المادي بل تضع حقوق الإنسان في المقدمة.
يؤكد التقرير أن سياسات "ميتا" لا تمثل فقط اعتداءً على حرية التعبير، بل تسهم أيضًا في قمع الرواية الفلسطينية وتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته على الساحة الرقمية. مع استمرار النزاعات، يصبح الصوت الفلسطيني هو النافذة الوحيدة للعالم لتوثيق الجرائم والدعوة إلى العدالة. وبحسب "حملة"، فإن إصلاح هذه السياسات التمييزية أمر حتمي. إذ يجب أن تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى أدوات لدعم الحقيقة والعدالة، بدلًا من أن تكون شريكًا في القمع، فحماية الأصوات الفلسطينية ليست خيارًا بل ضرورة إنسانية وأخلاقية، وكل لحظة صمت عن هذه الانتهاكات هي خطوة نحو إدامة الظلم الرقمي، ما يتطلب وقفة جماعية للدفاع عن حقوق الشعوب في التعبير والتواصل بحرية.
بالأرقام
أضاء التقرير على عدد من الإحصائيات والأرقام المرتبطة بقمع المحتوى الفلسطيني على ميتا، هنا أبرزها:
- 69% من انتهاكات الحقوق الرقمية المرتبطة بالرقابة على المحتوى الفلسطيني وُثّقت على منصات ميتا (فيسبوك وإنستغرام). وعتبة الثقة لأنظمة الإشراف الآلي على المحتوى الفلسطيني خُفّضت إلى 25% بدلًا من 80%.
- صفحة "دوز" على فيسبوك كانت تحقق تفاعلًا شهريًا يصل إلى 43 مليون تفاعل في 28 يومًا، ومتوسط وصول منشورات يبلغ 20 مليونًا، قبل أن يجرى حظرها وتقليص تأثيرها.
- شبكة "راية الإعلامية" فقدت بين 30% إلى 40% من حركة المرور (Traffic) على موقعها الإلكتروني بسبب القيود المفروضة على فيسبوك.
- مصطفى قبلاوي، إعلامي فلسطيني، شهد انخفاضًا في مشاهدات منشوراته من 70 ألف مشاهدة إلى 40 ألفًا في أفضل الحالات، وفي أوقات الحروب، تنخفض إلى 15 ألفًا.