يبدو غابرييل غارثيا ماركيز (1927 ـ 2014)، الفائز بنوبل للآداب عام 1982، مُحقًّا برفض أفلمة روايته الملحمية "مئة عام من العزلة" (1967)، وتحويلها إلى نصّ بصري، رغم كونه كاتب سيناريو أيضًا، يروي حكاياته للصورة. لكنّ رأيه يصبّ في الانحياز إلى القارىء الذي يصنع لنفسه تصوّره الخاص للمكان والزمان، في مقارنة عفوية منه بين عالمه وعالم ماركيز.
لمناسبة اقتباس هذه الرواية بصيغة بصرية (مسلسل درامي)، تبثّه "نتفليكس" (2024، موسم واحد، ثماني حلقات)، يُشار إلى أنّ الرواية لا تزال مُرشّحة لمعالجات بصرية موازية كثيرة، أو متقاطعة مع النصّ الروائي الأصلي بمخيال ماركيز نفسه وقلمه.
عربيًا، ربما مرّت رواية "مئة عام من العزلة" في بصر كثيرين ومخيالهم، لكنّها لطالما احتاجت إلى ترجمة: ترجمة المشاعر والأحداث، والأهمّ أسلوب الكتابة الذي يؤثّر بطابعه على أدب أميركا اللاتينية برمّته. بمعنى أنّ هناك وصلة مخيالية مفقودة جزئيًا من ناحيتي اللغة والتصوّر، فالقرّاء في العالم تنقصهم خبرة هذه البيئة الغرائبية، الموصوفة بالواقعية السحرية. عند هذه النقطة تحديدًا، كان لا بُدّ من ترجمة وصف السحرية وربطها بالواقعية، ما دفع أبناء المؤلِّف إلى تحويل النصّ المكتوب إلى رواية بصرية، مع إخضاع سحريّتها إلى شرط الواقع، بما فيها من خيال وتطيّر وتوجّسات، فتُصبح دليلًا إلى مخيال القارىء من دون مصادرة.
في موسم "مئة عام من العزلة" الأول، نحن أمام مسلسل ضخم، واسع الإمكانيات، تُرفع القبعة لصانعي ديكوراته وإكسسواراته، الذين جعلوا التنقّل بين الواقعية والسحرية أمرًا ممكنًا ومُيسّرًا. فإضافة إلى صناعة مكان خلاّب، يوازي الوصف الروائي له، نكتشف أنّه لم تكن هناك استعانة بالمؤثّرات الإلكترونية والخدع البصرية المعتادة في أعمال كهذه، إذْ بُنِيَت أربع مدن متعاقبة بحسب الفترة الزمنية للمكان: قرية كوندو التي اخترعها خوسيه أركاديو بوينديا والأجيال السبعة التي تناسلت عنه. هذه ليست مجرّد إشادة بالديكور والإكسسوار، لأنّها جزء أساسي من اللغة البصرية التي ستُقدَّم إلى مُشاهد عالمي عبر منصّة دولية.
بقدر الأهوال التي عاناها، لقتله جارًا له تبعًا لغريزة عابرة وتكرار الأحلام التي تُشعِر بالذنب، يقرر بوينديا أنْ يهجر قريته، مع زوجته أورسولا وبعض أصدقائه، إلى مكان قرب البحر، يركن إلى الراحة فيه، فيرحلون في تيه، إلى درجةٍ يشعرون فيها بأنّهم يمشون ضمن دوائر، فيستقرّون في مكان بعد إنهاك واستسلام، ثم يُنشىء بلدة يُسمّيها كوندو. طبعًا، هذا الكلام ليس للتذكير بالرواية، بل للإشارة إلى الحوار المليء بالحكمة والمعارف الفولكلورية ذات الأصل التاريخاني، إذْ نُسِج الحوار اتّكاءً على معارف دنيوية، دوّنتها الأديان بصفتها سجلًا اجتماعيًا مُتوَارثًا، نلحظ في طياته البُعد الأسطوري للمعرفة الإنسانية، في ديباجة من المعنى المفخّم للقول الشعبي. فالمشي في دوائر يكتسب فخامته من التيه المعروف في الأساطير والأديان، تمامًا كما يقول الإنسان إنّه لا يستطيع الموت عندما يريد بل حينما يستطيع. جمل "مأثورة" كهذه تتكرّر كثيرًا في الحوار، كأنّها ترتفع به إلى مستوى فنّي آخر.
توازيًا مع هذا، هناك أورسولا، التي لطالما هلعت من هواجس تنتابها: ستلد أطفالًا مُشوّهين كالوحوش. لكنّها تحمل وتلد أطفالًا عاديين، من دون أنْ تنتبه إلاّ بالتجربة إلى أنّ الوحوشيّة ليست باكتمال الجسد فقط، بل في امتدادات الغرائز لحظة تمرّدها على القوانين عندما وجدت، إذْ لا لزوم للتمرّد على شيءٍ غير موجود.
في رحلة التيه هذه، تتشكّل كوندو المدينة من دون قوانين. كأنّ الأحداث أضحت غير مهمّة، حتى على مستوى التقاليد. فضمّ أولاد غير شرعيين إلى الأسرة موضوعٌ عابر، ومنهم تتألّف أجيال عائلة كونديا، التي تمرّدت على نفسها، بعد أنْ وُجدت القوانين التي تحدّد الحقوق بالغلبة.
في هذا كلّه (الحلقات الأربع الأولى)، يحضر مليكاديس الغجري، الذي يفجّر غريزة المعرفة لدى خوسيه بوينديا الأب، فينعزل في مختبره مُتجاوزًا حدود المعارف الشعبية، ويغرق في الجنون، ويُربط إلى شجرة كستناء عتيقة كخزّان للحكمة، ومعيار للمعرفة. يجلس خوسيه مُراقبًا أحداثًا يعرف نتائجها، لكنّه لا يتجاوز نفسه ليشارك فيها، لأنّه يعرف أنّ الأمر الذي بدأ لن يتوقّف قبل انتهائه. إنّها حكمة السير في دوائر تعود لتوظَّف في نصّ مُحكم الترابط. فعندما يُشار إلى أمر أو تفصيل في أي مكان من العمل، يعرف المُشاهد أنّ هناك تكملة له في مكان ما. ربما لهذا السبب يُمكن توقّع إنجاز موسم جديد يتبع الحلقات الثماني المعروضة حاليًا.
"مئة عام من العزلة" محبوك بإحكامٍ واحترافية باهرة، وعلى طريقة ماركيز نفسه، التي شرحها في كتابه "كيف نروي الحكاية"، عن فنّ كتابة السيناريو. فلا شيء في السيناريو إلّا ويمرّ من البؤرة المؤسِّسة للنص. من هنا تمامًا، كان العبور من نصّ تلفزيوني إلى آخر سينمائي، كتابةً (خوسيه ريفيرا وناتاليا سانتا وكاميلا بْرُخِس وألباتروس غونزاليس) وتصويرًا (ماريا ساراسْفاتي إيْريرا). فتحويل نصّ تلفزيوني (بدلالة طوله الزمني على الأقل) إلى آخر سينمائيّ، بمعنى الكثافة والتعبير البصري وجماليات أخرى، ترافق وإبداع المُخرجين ألِكس غارثيا لوبيز ولورا مورا في صناعة تحفة سينمائية مختلفة الصياغة التلفزيونية قلبًا وقالبًا. في هذا، إرساء لنوع حديث في تحديد أزمنة الأفلام السينمائية المُعدّة للعرض في الصالات.
غير مُقنع الاكتفاء بالحلقات الثماني المعروضة حاليًا. فالرواية البصرية لم تغلق الدائرة الدرامية، والحدث بالمعنى السينمائي بدأ في الحلقة الخامسة، مع وصول حاكمٍ إلى المدينة من الدولة المركزية، وبدء الحراك السياسي بين الأحزاب، لنكتشف أنّ تطيّرات أورسولا الأمّ لم تكن أوهامًا عبثيةً، لأنّ الوحوشية ليست مرتبطة بالشكل الخارجي للإنسان أبدًا، ففي أعماقه محاكمة منطقية للتوحّش، وهذا بحدّ ذاته موضوع أثير في الدراما، ربما علينا انتظار حكمه وعبثيّاته.
"مئة عام من العزلة" المسلسل سينضمّ إلى السرديّات النقدية المُرافقة للرواية، إذ لا تكفيه المُطالعات النقدية القصيرة. ولعلّ هذا العمل أتى لتوسيع فهم الرواية، التي أحدثت مُفترقًا في صنعة السرد في العالم.