اوراق خاصة

أهل المقاومة.. إلى جانب المقاومين في السراء والضراء

post-img

حسين كوراني

حققت المقاومة في لبنان عددًا من الانتصارات على "إسرائيل"، منذ اِجتياحها له العام 1982، والفضل الأكبر في ذلك بعد تضحيات رجالها في الميدان، يعود إلى دعم أهل هذه المقاومة وإسنادها لها، والذين صمدوا في أرضهم ورفدوها بأولادهم للقتال معها. لعلّ الانتصار الأخير الذي تحقق في حرب أيلول 2024 ما كان ليحدث لولا مساندة بيئة المقاومة ووقوفها مع رجال الله في الميدان بكل عزيمة وصبر. وما مشاهد الأهالي وهم يدخلون قراهم يوم إعلان وقف إطلاق النار (يوم الأحد 27 كانون الثاني 2025) ووقوفهم في وجه دبابات الاحتلال وسقوط عشرات الشهداء منهم؛ إلا خير دليل على إصرار هذه البيئة للتمسك بالمقاومة.

لقد مرّ على بيئة المقاومة محطّات تاريخية أثبتت فيها أنها السّند والحاضن للمقاومة، كالأم التي تحتضن ولدها وترعاه وتحميه، إذ من دون هذه الأمومة لا يستطيع هذا الطفل أن يستمر في الحياة ويكبر. ومع كل عدوان كان يشنّه الكيان الصهيوني على لبنان، كانت هذه البيئة تثبت أنها السند الصّلب الذي تعتمد عليه المقاومة وقيادتها ومجاهدوها في كيفية التعامل المناسب مع هذا العدوان.

منذ نشأة المقاومة في لبنان وبيئتها أقوى أسلحتها، تَقوى بالمقاومة، والمقاومة تَقوى بها، فهي منها وتدافع عنها، علاقة تبادلية وتكاملية تعمّقت مع مرور الزمن وبلغت ذروتها في الحرب الحالية، من عدد الشهداء، إلى موقف عوائلهم، إلى مشاهد تشييعهم، إلى صمودهم، إلى ثباتهم، إلى وحدة موقفهم وتمسّكهم بخيار المقاومة أكثر من أي وقت مضى. ومن خلف النازحين وأمامهم؛ كانت عوائل الشهداء والجرحى، من آباء وأمهات وزوجات وأبناء وبنات، حاضرين في الساحة لرفد المقاومين بسيل من الدعم المعنوي بعد الدعم بالدم.

أكثر من أربعين عامًا مرّت على هذه المسيرة، وأهل المقاومة يقدمون تضحياتٍ جسامًا، ليس بالّتحاق أولادهم في جبهات القتال فقط، بل كان للنساء والأطفال والشيوخ دورٌ بارز في مقارعة الجنود الصهاينة وهم يدخلون الأراضي اللبنانية، في قرى جنوبية كثيرة تصّدت الأمهات للمحتلين إبان اجتياح 1982، ونزلت إلى الشوارع ووقفت في وجه آلياتهم، وشاركت في تجمعات منددة بهم، حتى وصل الأمر ببعضم أن سكبوا الزيت المغلي على رؤوس جنود العدو وهم يمرون من تحت شرفات منازلهم في بلدة معركة الجنوبية. كما ساعدوا المقاومين في قرى الشريط المحتل، سواء بإيوائهم أو بإعطائهم معلومات عن تحركات العدو. وفي شوارع صيدا أطلق الفتى الشهيد نزيه قبرصلي الرصاص على جيب إسرائيلي وأردى ثلاثة جنود قتلى، وغيرها الكثير من المواقف المشرفّة.

مع دحر الاحتلال الإسرائيلي في أواخر أيار 2000 من الجنوب والبقاع الغربي؛ كان الأهالي يتقدمون المقاومين في سياراتهم ومشيًا على الأقدام لدخول قراهم وطرد ما تبقى من جنود العدو وعملائه من جيش "لحد" في عرس نصر جماهيري لم يشهد التاريخ في العالم العربي مثله من قبل. المشهد نفسه تكرر يوم 26 كانون الثاني 2024 حين تقدم الأهالي لدخول قراهم غير آبهين بتواجد قوات العدو بها، وبالرغم من سقوط عشرات الشهداء والجرحى بينهم لم يتراجوا، وطردوا المحتل من غالبيتها واستعادوها بكل تصميم وعزم أرضهم.

الأهم أن هذه البيئة المضحيّة أمام هول الإجرام الصهيوني طوال عقود من الزمن ما برحت يومًا عن خياراتها الداعمة للمقاومة وللقضية الفلسطينية أيضًا؛ وربما يكون السبب الأهم لهذه التضحيات، والسر الأعظم من ورائها، هو المخزون الثقافي والديني والوجدان العاطفي، وكأن مشهد عوائل الشهداء اليوم لم يمر من قبل، مِن فخر وعزّة وكرامة وإستعداد للتضحية، وكأن بيئة المقاومة تنضج عند كل تجربة جديدة، تُراكِم الوعي، وتُركِّز أكثر على قضيتها المحقة بمقاتلة العدو. وهنا تبرز ثقافة الإنسان ركيزة ثقافة الحياة التي تمتلكها هذه البيئة مقابل ثقافة الموت والخضوع والاستسلام، ثقافة الدفاع عن الأوطان وبناء المستقبل، فما قيمة الإنسان عندما لا يقف مع أخيه الإنسان ولا يُميِّز بين الحق والباطل، لذا تُعد معركة "إسناد غزة" تحديدًا أهم معركة أخلاقية وإنسانية في التاريخ، كونها تحمل عنوان إسناد وتضامن مع شعب يريد العدو الإسرائيلي إبادته من الوجود.

وعليه؛ يدرك خصوم المقاومة وأعداؤها أن بيئتها الحاضنة لن تتخلى عنها ولن تتركها. وباختصار هذه البيئة هي ذاتها ولن تتغير، يدرك أبناؤها أن المقاومة الدرع الوحيد الحامي لهم من أعداء الداخل والخارج. لذلك ينطلق التركيز على بيئة المقاومة من زاوية إدراك أهمية هذه البيئة في تشكيل قوة المقاومة. فهذه القوة ليست فقط في كمية ونوعية السلاح الذي تمتلكه المقاومة، بل في الجمهور الذي، في زمن الحرب، يمدّها بالمقاتلين ويرضى التضحية بالأرواح والممتلكات، وفي زمن السلم بالأصوات التي تعطى له في الانتخابات.

واليوم، المطلوب احتضان هذه البيئة المكلومة المطاردة، والكفّ عن إظهار الشماتة وعن التحريض أو التسويغ للعدو باستهداف المدنيين بحجة وجود سلاح أو مقاومين، ونحن أمام صورة مكتملة العناصر لجبهة متماسكة تحمل رسالة الحياة وتنسجم في تضحياتها مع رسالتها وهويتها الثقافية، وتواجِه الألم بالصبر والثبات والأمل بأن تثمر دماء شهدائها نصرًا نهائيًا على العدو بعد أن انتصرت بروحها وأخلاقها وإنسانيتها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد