ياسر زغيب/ جريدة الأخبار
فلسفة الحياة قائمة على مُعضلة وجودية. هي مُعضلة رغم وضوحها وإدراك الجميع حلّ رموزها وفك شيفرتها، وتتمثل في أن لا حياة أبدية لأحد من البشر في هذه الدنيا، فكُل مولود حتمًا سيموت وكل وثيقة ولادة تُكتب، تعني في فلسفة الحياة، أنّ وثيقة موت قد كُتبت معها أيضًا. هذه المعضلة رغم بداهتها، تبقى عصيّة على الحل، فالبداية ليست خيارًا ذاتيًا للمولود، والنهاية ليست قرارًا ذاتيًا أيضًا. لكن ورغم بداهة المعادلة، يتعاطى البشر مع «ثقافة» الموت والحياة بأشكال متباينة ويتصارعون حدّ الموت، ويتباينون حدّ التناقض والتصادم حول «حب الحياة» و«ثقافة الموت»، وقد أخذ المصطلحان ضجة كبيرة في وسائل الإعلام وبعض الأوساط السياسية في لبنان، من زاوية اعتبار البعض أن فعل المقاومة وتمجيد الشهادة هما ثقافة موت، يقابلهما ثقافة حياة تتمثل في كل ما يتصل بالترفيه الجيد والسيئ بكل أشكالهما. ثم طرحت الأسئلة من نوع، ما هو المعنى الحقيقي لثقافة الموت؟ وهل الحياة مفردة يمكن لأحد أن يضعها في قوقعة الغريزة؟ أم أن الحياة هجر الذات والأنانية إلى الذوبان حتى الشهادة لبقاء القيم التي تُشكل السور الواقي للكرامة الإنسانية؟ وهل يصحّ تسمية بعض أشكال الموت حياةً وبعض أشكال الحياة موتًا؟ أم أن هذه الإشكالية مُغالطة لفظية ولغوية في آن؟ وهل حب الحياة على حساب الكرامة الذاتية والإنسانية حياة أم بهيمية؟
إن اعتماد أسلوب الأبحاث الأكاديمية بوضع تعريف يدّعي اختصار الحقيقة يبدو مملًا ويُمارس التعالي على حقيقة مُمارسة الشعوب وتجاربها، ولكن السرد العابق بأعمق التجارب الإنسانية في حقبات تاريخية مُتعددة الشعوب مختلفة، ومن ثقافة متباينة سيتولى تحقيق المُبتغى بالاعتماد على ما تركته التجارب الإنسانية الكفيلة بتجديد المفهوم الحقيقي للحياة والموت، إضافة إلى شواهد من فلاسفة ومفكرين ومصلحين كان لتجاربهم الفضل في إعطاء المعنى الإنساني للحياة والموت.
1 - مفهوم الحياة الحقيقية في ملحمة جلجامش:
ملحمة جلجامش هي أقدم نص أدبي محفوظ عرفته البشرية، وهي ملحمة أدبية شعرية تحكي قصة سومرية في حضارة بلاد ما بين النهرين قبل نحو خمسة آلاف سنة قبل الميلاد، تروي مغامرات جلجامش الذي كان ملكًا لمدينة «أوروك»، اختلفت القراءات لمقاصد الملحمة نظرًا إلى الصور الخيالية المتضمنة فيها، فقرأها المستشرقون الغربيون قراءات فيها الكثير من الإسقاطات الثقافية الغربية التي لا تتفق مع روح الثقافة للشعوب القديمة، وقرأها بعض العلماء والفلاسفة الشرقيين قراءة أخرى مختلفة اختلافًا كبيرًا، ومرد هذا التباين إلى الكم الكبير من الصور والرموز السيميائية التي احتوتها الملحمة.
تجارب الشعوب السابقة تبين أن كرامة الأوطان وسيادتها واستقلالها لا تُصان على طاولات القمار، ولا تُحفظ في الحوانيت، إنما تُصان بالتضحيات والدماء التي تراق من أوردة المقاومين الذين آمنوا أن الحياة الحقيقية هي التي تعطيك فرصة الابتعاد عن الغرائز، وتحيا بتضحيتك ليحيا الآخرون حياة عز وإباء وحرية
بعيدًا من تباينات المفكرين والأدباء شرقًا وغربًا، فإنّ كل القراءات اتفقت على أن جلجامش كان قوي البنية، جبارًا وعظيم السلطان، الأمر الذي دفع إلى وصفه بأنه نصف إنسان ونصف إله، وفي الوصف أبعاد سيميائية بالغة الدلالة توحي بأنه نصف إنسان لأنه وُلد كما الناس، ويُتوقع أن يموت كما الناس أيضًا، لكنه نصف إله لأنه يرفض الموت، ومصرّ على اكتشاف سر الحياة الأبدية والخلود الذي يرفع عنه الموت، ونتيجة الصراع التقليدي بين السلطتين الدينية والزمنية، أرسلت السلطة الدينية «أنكيدو» الذي تصفه الملحمة بأنه نصف إنسان ونصف وحش ليقتل جلجامش لتصبح السلطة كلها للآلهة وبيدها، وفي الوصف مرة أخرى دلالات ورموز سيميائية بالغة الدلالة فالإنسان الوحش يشبه البشر بشكله، لكنه منقاد كليًا للسلطة الدينية التي سلبته حرية التفكير خارج إرادتها ومصالحها، فأصبح منقادًا لها كما تنقاد الحيوانات لأصحابها. وعليه فإن «أنكيدو» يرمز في دلالاته السيميائية إلى عامة الناس المنقادين من دون وعي وتفكير خلف ما يقوله لهم الكهنة. لكن «جلجامش» الملك، نجح بعد صراع مع «أنكيدو» المُجند من الآلهة والسلطة الدينية، أن يروّضه ويحوّله إلى صديق له.
بعيدًا من الاستغراق في أحداث الملحمة، فإن جلجامش لم يتخلَّ عن أحلامه بالخلود، لذا انطلق مع صديقه الجديد «أنكيدو» في رحلة للبحث عن سر الخلود، وخاضا معًا مغامرات كثيرة وشاقة، كانت أكثرها شراسة مع الوحش الذي أرسلته الإلهة «أنانا» أو «عشتار» للنيل من جلجامش وإرغامه أمام عظمتها، لكن جلجامش يقتل الوحش «همبابا» فتقع عشتار في عشق جلجامش وتسعى إلى إغوائه، لكنه لا يستجيب لها رغم ما تتصف به من جمال وقدرة إغواء، لأنه كان يركز اهتمامه على التوصل إلى اكتشاف سر الخلود.
رغم إصرار جلجامش على البحث عن هذا السر، ورغم مغامراته الشاقة التي تستفيض الملحمة في شرحها، يفشل في التوصل إلى اكتشافه، فيقرر العودة إلى مملكته ليكتب ملحمة رحلته مع الحياة والموت. وتكون الحكمة في القصة، والنتيجة النهائية لرحلة البحث هي: إن المغريات كثيرة والغرائز الفردية التي تعترض البحث عن الحقيقة لا تنتهي، وأن الخلود ليس للأفراد ولا للغرائز ولا للملذات، إنما الخلود للقيم والمدنية (الحضارة)، لذلك أمر ببناء سور حول «أوروك» ليحميها من الزوال ويحفظها من الاعتداء، ويجعلها في مأمن من الغزو والقهر.
2 - سقراط: الموت من أجل القيم هو الحياة:
روايتان في حياة الفيلسوف اليوناني سقراط اكتسبتا شهرة استثنائية، تلحظان معالم فلسفته ومنهجه الفريد من التفكير من جهة، والمعنى الذي أراده للحياة والموت من جهة أخرى. الأولى، تبيّن منهجه في التعامل مع من يُسيئون إليه عن جهل أو قصور، وتقول إن سقراط كان متزوجًا من امرأة حمقاء تدعى «زنتيبي» كانت تعمد إلى إهانته أمام تلامذته بكلمات قاسية ومسيئة، وبصوت مرتفع، إلا أن سقراط كان يبتسم ويقول إنها ترعد، وذات مرة رمته بدلو من الماء البارد انتقامًا منه على سكوته، فابتسم وقال لتلامذته: بعد الرعد لا بد أن تُمطر.
كان سقراط يعمد إلى الاستفادة من هذا السلوك ليعلّم تلامذته على ضبط النفس، وتوجيه الجهد العقلي والنفسي نحو تحقيق الأهداف والتركيز على القضايا الكبرى، وعدم تبديد الحياة على التافه من الأمور والوضيع من التصرفات.
أما الرواية الثانية، فتقول إن سقراط اتخذ من بيته مدرسة مهمتها تشجيع الشباب على التفكير النقدي ورفض المنهج الذي كان سائدًا، والذي يتبنى القول بنسبية القيم والأخلاق، الأمر الذي دفع السلطة إلى اتخاذ القرار بسجنه ثم إعدامه. أثناء سجنه، فتحت السلطة باب السجن له ليهرب، واضعةً المبادئ التي يؤمن بها في كفة، وهربه للنجاة بحياته في كفة ثانية، رفض سقراط الهروب لأن المبادئ التي يؤمن بها تمنعه من ذلك، حتى ولو كانت حياته هي الثمن، لأن فلسفة سقراط تؤمن بأن الأخلاق قيم ثابتة واحترام القوانين واجب.
لم يكن أمام السلطة مفرٌّ من التخلص من سقراط إلا الإعدام، فأجبرته على تجرّع السّم. فعمد إلى شرب السّم، ومات بهدوء، معلنًا أن الحياة الحقيقية في الموت لخلود القيم، ويذكّر هذا الموقف الإنساني المتفاني لسقراط بكلام للإمام علي بن أبي طالب في مخاطبة أتباعه معلنًا أن الموت حياة مع العزة، والعيش موت مع الذلة فقال: «الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين».
3 - السيد المسيح والإمام الحسين مثالان للفداء:
يعتقد الإيمان المسيحي بأن السيد المسيح أتى لخلاص البشرية، وأنه فداها بنفسه مصلوبًا على خشبة، وأصبح صلب المسيح خلاصًا للبشر. ويعتقد المسلمون أو معظمهم على الأقل بأن حفيد نبيهم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب انطلق في ثورة فداء للقيم الإنسانية بدمه ودماء أسرته وخيرة صحبه، ممجدًا الموت على حياة الذلة والخضوع لظلم الظالم وانحراف القيم عن مسارها الإنساني السليم، معلنًا: «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برَما»، فغدت شهادته رمزًا للإصلاح والثورة والكرامة لثائرين أمميين عبر التاريخ، شكّل لهم الحسين قدوة ونبراسًا، من ألمع هؤلاء المفكر والثائر الهندي راجيف غندي الذي قال: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر».
4 - الموت أصالة، والانشغال بالدنيا هروب عند الوجوديين.
الفلسفة الوجودية لا تؤمن بالماورائيات الميتافيزيقية، وتُفسر الحياة البشرية على أساس الوعي الفردي للحياة والوجود والموت، ويعتقد رائد المدرسة الوجودية مارتن هايدغر أنه لكي نفهم الوجود البشري علينا أن نفهم الموت باعتباره «احتمالية نهائية» تُعطي للوجود البشري معناه الحقيقي. ويتبنّى هايدغر في كتابه «الوجود والزمان» أن الإنسان يعيش نحو الموت طوال حياته. فالحقيقة الوحيدة التي لا يناقش فيها أحد هي أن الإنسان يندفع دفعًا نحو الموت. هذا لا يعني أن يُمضي الإنسان حياته منشغلًا به، بل يمكنه الهروب منه عبر الانشغال بالدنيا وغرائز الجسد، إلا أن مواجهة الموت بمشروع واعٍ يمكّن الإنسان من أن يعيش حياة أكثر أصالة وصدقًا.
5 - خلود ستالين غراد تضحية من أجل الحياة:
دخلت مئات المدن دائرة الحرب والدمار في الحرب العالمية الثانية، فلماذا هذا الخلود الأسطوري لمدينة ستالين غراد دون سواها؟ ولماذا باتت تُعد أنموذجًا للتضحية والصمود والمقاومة؟
صمدت ستالين غراد وقاتلت قتالًا باسلًا في مواجهة زحف واسع لمئات الآلاف من الجنود الألمان على مدى سبعة أشهر متواصلة ما بين آب 1942 وشباط 1943، مقدّمةً أكثر من مليون شهيد قرابين على مذبح حريتها وكرامتها وسيادتها. كتبت ستالين غراد بهذا الصمود ثقافة الحياة التي تستحق البقاء، وتحوّلت معركتها الباسلة نقطة التحول في مجرى الحرب العالمية الثانية. فكانت نهايتها بداية النهاية للحرب العالمية الثانية وأول إرهاصات الاندفاعة السوفياتية التي أسقطت دفاعات الجيش النازي ثم انهياره. وليست ساتلين غراد وحدها صاحبة وسام المقاومة، لكنها باتت رمزًا للمدن المقاومة وباتت المدن التي حلمت بالحياة فوّهة البندقية لا من بار الخمارة أو طاولة الكازينو، تتمثل بستالين غراد.
6 - جولة في ذاكرة الأمم:
لا يزال البشر على اختلاف دياناتهم وموروثهم الفكري والثقافي ينسبون أصل الوجود البشري إلى آدم وحواء، ولا زالوا رغم كل اختلافاتهم يمجّدون الفداء الذي قام به هابيل، عندما رفض أن يكون مجرمًا، يقتل أخاه، ويستبيح دمه، فكان ضحية طمع أخيه قابيل الذي استباح دم هابيل طمعًا وحسدًا. وقد رسّخت قصة الفداء هذه أن الموت حفاظًا على الإيمان بحياة الآخر وصونًا لها، أعظم وأرفع من الحياة التي تقوم على الحسد والطمع والاعتداء والخضوع للغرائز والرغبات الذاتية.
المشهد ذاته مع اختلاف الزمان والمكان والشخصيات يتكرر في قصة فداء الذبيح من أبناء إبراهيم، والتي أخذت طابعًا تقليديًا بسيطًا في تفسيراتها الدينية، الأمر الذي أدى إلى تفريغ القصة من محتواها الحقيقي، فالقصة ليست الغاية منها المفاخرة من هم أبناء الذبيح، هل هم أبناء إسحاق أم أبناء إسماعيل؟ بل الحكمة منها أن العظماء، في التاريخ دائمًا هم الذين يضحون بأنفسهم وأبنائهم على مذابح الفداء والتضحية لخلاص البشرية والإنسانية من الروث الفكري والثقافي المقيت. إنّ جوهر قصة الفداء الإبراهيمي تتمثل في تفسيراتها ورموزها السيميائية التي تتلخص في الرواية الآتية: «كانت الشعوب القديمة قبل إبراهيم وفي عصره تعبد الأصنام والأوثان، وتقدم أولادها وأطفالها قرابين على مذابح هذه الآلهة لترضى ولتحقق لها الآمال، جاء إبراهيم وابنه الذبيح ليقولا لكل هؤلاء نحن نريد أن نقدم قربانًا لإلهنا، وخرج إبراهيم مع ولده ليقوم الأب بذبح ابنه – كما هي عادة الشعوب آنذاك - لكنّ إبراهيم عاد وهو يمسك بيد ابنه حيًا وآثار الدماء على سكينه، وعندما سأله الناس لماذا لم تذبح ابنك قربانًا للإله قال لهم: إنّ إلهي رؤوف رحيم لا يرضى أن أذبح ولدي، لذلك استبدله بكبش كبير، ومنذ ذلك الوقت تحوّل الفداء من فداء بالأبناء إلى فداء بالحيوان، الذي يُقدم لحمه للفقراء والمساكين البؤساء في الأرض.
يعجّ الإرث الثقافي الإنساني بشخصيات ماتت قتلًا فوهبت بموتها الحياة لها ولشعوبها، فكانت أنموذج الحياة المصانة بالقيم والحرية الإنسانية. من سقراط إلى السيد المسيح والإمام الحسين بن علي، وتشي غيفارا وعمر المُختار، وصولًا إلى يحيى عياش وعماد مغنية ويحيى السنوار والسيد حسن نصر الله والبعض الآخر الذي عانى العذاب والسجن من أجل الحرية أمثال غاندي وجميلة بو حيرد ونيلسون مانديلا وجورج إبراهيم عبدالله، الذين تُقاس الحياة بهم، والموت والخضوع بخصومهم.
7 - فلسفة الحياة بين نموذجين:
يُدرك الأفراد الوقائع على قدر عقولهم، وبما أنهم يختلفون في قدراتهم العقلية فإنهم حتمًا يختلفون في مستوى فهمهم للحياة وإدراكهم للحكمة منها ومن وجودهم فيها، هذا ما أكدته الشرائع الدينية والقوانين الوضعية والبداهة العقلية، فالشرائع الدينية تؤكد أن الواجبات والتكاليف الدينية تسقط مع فقدان الإنسان قدراته العقلية، وكذلك تفعل القوانين الوضعية على اختلافها، لذلك تسقط الحدود والعقوبات على المختلّين عقليًا.
وتتفق الشرائع السماوية والقوانين الوضعية أيضًا على نزع الوصاية عن الأبناء أو القاصرين من الأطفال إذا كان الوصي عليهم سفيهًا أو متهتكًا يبدّد أموالهم على ملذاته وشهواته وغرائزه، وما يرادف ذلك من سلوكيات تتنافى مع الرصانة والحكمة، كالإدمان المُذهب للوعي والتبذير المبدّد للمال في القمار وألعاب الميسر والتهتّك في أماكن اللهو والعبث والمجون والعربدة، التي أصبحت سلوكًا وميزة لجماعات تتباهى بها على أنها شكل من أشكال حب الحياة.
من الضروري التأكيد هنا أن بعض القوانين الوضعية التي أباحت مثل هذه السلوكيات، وضعت معها ولها قوانين عقابية وردعية، حتى لا تتحول حياة المجتمع بأسره إلى طاولة قمار أو نادٍ للتسكّع وساحة لفقدان الوعي. فقامت بعزل نوادي القمار في أماكن محددة، وجعلت تشريع إقامتها أمرًا معقّدًا، وكذلك لم تسمح بإقامة النوادي الليلية في أوساط الأحياء السكنية أو قرب المدارس والجامعات، كما أنها لم تسمح للثّمِل أن يقود سيارته الشخصية، لأنه وفي هذه الحالة سيعرّض حياته وحياة الآخرين للخطر.
هل من الحكمة أن تُسلّم الشعوب شؤونها العامة وإدارة بلدانها لمن أسقطت الشريعة والقوانين على اختلافها عنهم المسؤولية عن أفعالهم؟ وهل من الإنسانية جعل إطلاق الغرائز حبًا للحياة مقابل جعل الموت دفاعًا عن الأرض والقيم حبًا للموت؟ وهل من يموت من أجل غيره أقدس وأجدر بالحياة أم من يعيش لذاته غير مُبالٍ بغيره؟
إنّ من يُقيم الحياة بميزان الملذات يأخذ معيارًا حيوانيًا للحكم عليها، ومن يُقيم الحياة بميزان الربح والخسارة، فإنه يزن الأمور بميزان التجارة والتجار، علمًا أن حياة الشعوب وكرامتها ومبادئها وقيمها وسيادتها وشرفها وحريتها لا يُمكن أن تُقاس بأي ميزان من الموازين السابقة، فالأحكام في هذه الأمور إما أبيض وإما أسود ولا وجود للوسطية فيها، ومن يُقيم الحروب الوطنية دفاعًا عن هذه القيم والمبادئ على أساس الخسائر المادية والبشرية، إنما يفعل ذلك لضعف في نفسه ونقص في انتمائه، وانهزام أمام عدو أمته، لأن الأهداف العظيمة عادة ما تقابلها تضحيات وأثمان كبيرة، سواءً في الحياة الشخصية الفردية أو في حياة الأمم والدول والشعوب.
تُبين كُل تجارب الشعوب السابقة أن كرامة الأوطان وسيادتها واستقلالها لا تُصان على طاولات القمار، ولا تُبنى في النوادي الليلية، ولا تُحفظ في الحوانيت والخمارات، إنما تُصان بالتضحيات التي يبذلها الشرفاء، وبالدماء التي تراق من أوردة المقاومين الذين آمنوا أن الحياة الحقيقية هي التي تعطيك فرصة الابتعاد عن الغرائز للتفكير فيها فتسمو بإنسانيتك، وتحيا بتضحيتك ليحيا الآخرون حياة عز وإباء وحرية. أما الخائفون الخانعون الذين وقفوا مع الغازي لأرضهم وأوطانهم، فمصيرهم مصير كُل الخونة عبر التاريخ الذين إما كانوا أكياس رمال لحماية المُحتل، وإما أُعدموا برصاص المُقاومين الشرفاء، فزالوا وزال ذكرهم بزوال المُحتل، وكأن للتاريخ مزابل يرقد فيها هؤلاء للعبرة لا للذكرى. هذا هو حال الذين وقفوا وساندوا الاحتلال الألماني لفرنسا، والاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الأميركي لكوبا وفيتنام والعراق وأفغانستان، وهو عينه مصير العملاء الذين كانوا أكياس رمل للمُحتل الإسرائيلي في جنوب لبنان.
أما الذين رفعوا شعارات حب الحياة مُقابل ثقافة الموت معتبرين مقاومة المُحتل ثقافة موت، فهم في ظاهرهم ليسوا عملاء للمُحتل، وفي أعمالهم ليسوا بأحسن حالٍ من الذين تعاملوا معه، فحالهم كحال من ارتضى الدنيء من العيش طلبًا للسلامة، وكحال من ارتضى ذلّ التبعية للغرائز على عز الحرية والتحرر. هؤلاء يُنشدُون حياة لا يفقهون منها سوى الملذات، ويطلبون حياة لا يبتغون منها سوى الحطام البائد، وهم في ذلك مصداق لحكمة للإمام علي بن أبي طالب: «كالبهيمة المربوطة همّها علفها أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها».
وعليه، إن كُل حِكم الحُكماء والفلاسفة القدماء، وكُل ملاحم الشعراء والأدباء، وكُل آراء المُفكرين المُبدعين، وكُل سِيرِ العظماء في تاريخ الشعوب والأمم، وكُل القيم الراسخة في وجدان الجماعات الإنسانية، كُلها تُجمع على أن الفداء والتضحية والرفض للظلم ومُقاومة المُحتل هي لغة العظماء الذين يروون بدمائهم شجرة الإنسانية. أما لُغة الخنوع وحب الحياة لمُجرد العيش دون مُبالاة بالإنسانية المعذبة والظلم الواقع على بني البشر، فهي لغة بهيمية يمجّدها الراعي الذي يعلفُ بهائمه إلى حين الذبح.