اوراق مختارة

حزب الله مقاومة خارج التوقعات

post-img

ياسر زغيب/ جريدة الأخبار

«الانضباط والقيادة وعقيدة القتال تُحوّل جيشًا صغيرًا إلى قُوة لا تُقهر» ـــــ جورج واشنطن

دأبت الأدبيات العسكرية والقتالية على التمييز بين المدارس العسكرية، وأنماط القتال، وأشكال مُتباينة من الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية والقتالية، ليس فقط في الحروب أو الجيوش النظامية، بل في المُنظمات العسكرية وحركات المُقاومة التي تعتمد أنماطًا قتاليةً أكثر مُرونة وحيوية من تلك المُعتمدة في الجيوش الكلاسيكية والتي يُصطلح على تسميتها بـ«حرب العصابات». ورغم كل هذا التباين، فإن الجيوش الكلاسيكية، على اختلاف مدارسها القتالية، كما كُل المُنظمات العسكرية غير الكلاسيكية، بما فيها حركات المُقاومة على اختلاف أنماطها القتالية، اتفقت على حتمية وجود قائد، يتمتع بصفات مُحددة لقيادة المعركة في الميدان، ويستند إلى قيادة عسكرية وسياسية مُتماسكة تحمي ظهر المُقاتلين، وتتولى إدارة شؤون الحرب وكذلك شؤون السياسة لتحقيق الأهداف.

إذ لا المُقاتل جاهزٌ للقتال من دون قيادة، ولا القيادة قادرة على إدارة العملية السياسية من دون القتال والميدان. ظلت هذه القاعدة، ثابتة وديدن كل الحُروب عبر التاريخ، وتكررت وترسخت في أذهان المُدربين والأكاديميين والعسكريين والأمنيين، ثم في أذهان الضباط والقادة الميدانيين وتجاربهم، لذلك يتم التركيز في المعارك على استهداف غُرف القيادة والسيطرة، وقادة الفرق أو الألوية المُتقدمة في المعارك. ومتى قُتل القائد، يتم تحييد مجموعته أو فرقته عن ساحة القتال. وكلما ارتفعت صفة المُستهدف في سلّم القيادة، كُلما صار أثره السلبي أكبر، وينعكس ذلك على مُجريات الميدان، وغالبًا ما يشكل استهداف القائد الأعلى العنصر الأساسي في الانهيار. نادرًا ما كان لهذه القاعدة المتينة استثناء، وهناك شواهد من أعماق التاريخ، كما لديها شواهدها الحديثة. حيث يشكل القائد الميداني، ومعه القيادة العليا العسكرية والسياسية، المدد الحقيقي ماديًا ومعنويًا للمُقاتلين في جبهات القتال وساحات الوغى، ولشرح المقصود، فلا بأس من العودة إلى نماذج من التاريخين القريب والبعيد.

وفاة الإسكندر وأثرها في تمزق جيشه وإمبراطوريته

لم يُقْتل الإسكندر المقدوني في قلب معركةٍ، ولم يسقط أمام حصار يطبق على إمبراطوريته. بل مات ميتةً طبيعية، تاركًا خلفه إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وجيشًا جرارًا تَنهزمُ أمامه أعتى الجيوش. وبعد وفاته في العام 323 ق.م، بدأ تفكّك إمبراطوريته، وتفرّق جيشه بعد أن انهارت الروح المعنوية الجامعة لوحدته، وتحول فِرقًا يتنازعها القادة المعروفون بـ«الديادوكوي»، وأدت حروبهم إلى تفتت وحدة الإمبراطورية، وتَشكُل ممالك منفصلة، كالسلوقيين في آسيا، والبطالة في مصر، والمقدونيين في اليونان، لتسقط أكبر إمبراطورية شهدها التاريخ القديم. مات القائد فاندثرت دولته.

شائعة مقتل النبي مُحمد كادت أن تهزم جيشًا

في معركة أُحُد سنة 3 للهجرة (625 م) كان دين مُحمد لا يزالُ فتيًا يافعًا، وكان المسلمون حديثي عهدٍ بالإسلام بعد جاهلية عمياء، ولا زالوا يَرومون من الغزوِ الغنائمَ، لأنها عادةٌ كانت سائدةً في جاهليتهم، لا بل إن الحروب كانت تُخاض للمكاسب والمغانم لا لغاية أخرى. وقد خاض المُسلمون المعركة بقيادة النبي، ولم تكن عقولهم قادرة على استيعاب الخطط العسكرية، فضلًا عن عدم انصهارهم بمبادئ الرسالة التي آمنوا بها، فلم يلتزموا أوامر قائدهم، وتركوا المعركة في منتصفها ركضًا خلف الغنائم، فما كان من قريش والقبائل إلا استغلال هذا الخلل، فهاجموا جيش المُسلمين، وتمكنوا من تشتيته وتمزيقه، حتى انفرط العقد، وبقي مُحمد ومعه علي بن أبي طالب وثلة قليلة يقاتلون، بينما سيطرت قريش على الميدان. وكان أن أصيب الرسول، لترتفع بعض الأصوات معلنة مقتله. وبمجرد انتشار كلمة «قُتل مُحمد»، حتى انهزم جيش المسلمين منقسمًا إلى ثلاث فرق: أولى قالت لو كان نبيًا لما قُتل، وثانية قالت لماذا نُقاتل وصاحب الرسالة قُتل؟ فارتدّوا وانهزموا، وثالثة قالت نُقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به وهم القلة. هكذا كان حال المُسلمين أمام فرضية مقتل نبيهم، ولأنهم كانوا لا يزالون على شُعبٍ من الجاهلية، وأمام انعدام يقينٍ من صدق ما آمنوا به، إلا قلة قليلة منهم كان لصمودها مع النبي الفضل في إعادة التوازن رغم الخيبة والهزيمة.

اغتيال أرنستو تشي غيفارا شتّتَ المُقاومة البوليفية

ترك الثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا مكاسب السلطة في كوبا، ومضى مواصلًا نضاله من أجل هدفه السامي: تحرير الشعوب من هيمنة الاستعمار، وتحرير العُقول من سطوة الدعاية القائلة بعدم جدوى المُقاومة. وانطلق إلى بوليفيا ليواصل رسالته. قاتل، قاوم، وأوجع العدو وأنهك جيشه. وكان ساعيًا إلى بناء ثقافة المُقاومة وإقناع الناس بجدواها وثمارها، لكن راعيًا بوليفيًا وشى به، لأنه اعتبر أن غيفارا كان يخيف أغنامه. وكانت النتيجة أن صار الثائر الأممي ضحية من يُقاتل من أجلهم، فتمّ اعتقاله واغتياله عام 1967. كان للشيخ والمُفكر المصري محمد رشيد رضا تعليق على ما حصل مع غيفارا، فقال إن «الثائر من أجل مُجتمع جاهل، هو شخصٌ أضرم النار بجسده كي يُضيء الطريق لأعمى». وهو قول يتوافق مع نقد ساخر للأديب اللبناني جبران خليل جبران الذي قال: «أوقدت نارًا ليهتدي بها أعمى، وحملت سيفًا أُقاتل به ظلي». اغتيال غيفارا كان له أثره على حركة المُقاومة البوليفية، وشكّل ضربة قاسية للثوار الذين تراجعت قوتهم وقدراتهم تحت تأثير غيابه، كذلك لشدة الضغط العسكري والسياسي والإرهاب الاجتماعي والاقتصادي الذي مارسه الأميركيون والحكومات الغربية المدعومة منهم. لكن تشي بقي رمزًا للثوار، متخطيًا حدود أميركا اللاتينية، علمًا أن اغتياله انعكس ضربة قاضية على حركة المقاومة التي قادها.

إعدام عمر المختار أعاق تحرير ليبيا عشرين عامًا

قاد عمر المختار المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي، ولسنوات طويلة راكم خبرة كبيرة، وبنى تشكيلات قتالية تحت اسم «مقاومة الصحراء»، فكان ورجاله يشبهون قساوة الصحراء في بأسهم، ومرارة أشواكها في فعلهم، ورمضاء رمالها في إرباكهم للعدو وتشكيلاته العسكرية، وكاد الإيطاليون يبلغون اليأس إلى أن استطاعوا اعتقال عُمر المُختار في الحادي عشر من أيلول من العام 1931، بعد أن تعاون معهم عُملاء وخونة ساعدوا في تحديد مكانه، إذ أبلغ بعض حامية قرية اسلنطة عن مكان تواجده خلال زيارة قام بها إلى مقام الصحابي رويفع بن ثابت في مدينة البيضاء، فحركت القوات الإيطالية مجموعة من الفصائل الليبية والأرتيرية لمطاردته واعتقاله، وبعد نفاد ذخيرته وقتل حصانه، تم اعتقاله على يد أحد الليبيين الذي كان يعرف المختار بصورة شخصية، فناداه سيدي عمر، وفي النداء ما يكفي من الأذى لمسامع المختار فرد عليه المختار بقوله: «عطّك الشر وأبليك بالزر». أعْدِمَ الثائر عمر المختار، واحتفل المُستعمرون بالنصر، وأصيبت المقاومة الليبية بضربة مُوجعة، وتراجع الفعل المقاوم، وتفككت الكتائب التي كانت تقاتل تحت لواء المختار، وإن استمر بعضها في المُواجهة المُسلحة مع القوات الإيطالية، إلا أن الافتقاد إلى قائد فذ كالمختار أضعف قدرة المقاومين على إعادة تنظيم مقاومة فاعلة، وتأخر الاستقلال الليبي عن الاحتلال الإيطالي أكثر من عشرين عامًا، حين نالت ليبيا استقلالها عام 1951 بفعل عوامل شتى من بينها إرث المُختار النضالي.

«القاعدة» وأسامة بن لادن… نهاية مُتزامنة

على مدى ثلاثة عقود، انشغل العالم بتنظيم «القاعدة» وقائده أسامة بن لادن. وبغض النظر عن واقع التنظيم الإشكالي مُنذ تأسيسه حتى أفول نجمه، فقد شكّل التنظيم وزعيمه رأس حربةٍ ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. وصار عدوًا عالميًا للولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية التسعينيات حتى اغتيال بن لادن في الثاني من أيار 2011. مع ما حملت تلك المرحلة من عمليات وأحداث وحروب كانت «القاعدة» سببًا أساسيًا ومُباشرًا فيها، من هجوم 11 أيلول 2001، إلى احتلال أفغانستان في العام 2001، ثم احتلال العراق عام 2003، وما جرى من أحداث دامية في عدد من دول العالم كانت القاعدة المتّهَم الأوّل فيها استهدفت المصالح الأميركية والغربية، لكن وما إن أُعلن عن اغتيال مؤسس التنظيم وقائده، أسامة بن لادن، حتى بدأت صورة التنظيم بالضمور، ونجمه بالأفول. فصار بن لادن هو «القاعدة»، وصارت «القاعدة» هي بن لادن. ولعله التنظيم الوحيد الذي كان الأبرز عالميًا في حياة زعيمه، لكن لم يبقَ منه راية بعد مقتله. وفي رؤية متأنية لـ«القاعدة» وأخواتها التي انتشرت كالنار في الهشيم، ثم خمدت كأنها لم تكن، يُستنتج أن الرؤى والأيديولوجية الضيقة الأُفق التي تعتمد ترتيبًا مقلوبًا للأولويات، تبدو كمن بنى بناء من دون سلالم، وعندما انتهى البناء من عمله، وجد نفسه في القمة لكن لا سبيل له للنزول سوى الانتحار.

حزب الله أمة في مقاوم

يُمكن القول بداهة، إن حركات المقاومة التي قامت داخل فلسطين وخارجها، وخصوصًا في لبنان، مثّلت رافدًا لمقاومة حزب الله التي أطلقها الشهيدان السيدان عباس الموسوي وحسن نصرالله ومجموعة من رفاقهما. ومع الوقت، برزت إشكالية على صورة تحدٍّ عند العدو، وتمجيد عند الصديق، لكنها كانت دومًا عنوانًا حار الباحثون في فهمه: كيف لمقاومة ناشئة وبإمكانات محدودة جدًا أن تهزم الجيش الذي وُصف بأنه لا يُقهر؟ وكيف لها أن تفعل ذلك به مرة تلو أخرى على مدى أكثر من أربعين سنة؟ وكيف لهذه المقاومة أن تُعاكس سُنن التاريخ وقواعد المدارس العسكرية إذ يُصبح فيها قتل القائد (واستهداف القادة) عنصرًا باعثًا على القتال والتطوير والتجديد؟

تقضي الأمانة التاريخية القول إن حزب الله نشأ، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، كرد فعلٍ على العدوان، وفعل مقاومة لاحتلاله، وكان رافعًا لشعار يختصر كُل أهدافه: «إزالة إسرائيل من الوجود». شكّل شعار تحرير فلسطين بوصلة الحزب في كُل حركته. كان عنوانًا أساسيًا في الدورات التدريبية على اختلافها، وفي الفرضيات القتالية، والتربية الكشفية، وأساسًا في الشعارات الدينية والبوسترات الإعلامية، والتحالفات السياسية. حتى صار كل من يعرف حزب الله، يدرك بأن لديه غايتان: أداء ما يُسميه الحزب تكليفه الشرعي أمام الله، وتحرير فلسطين. وهو يرى في الأمرين، تمهيدًا لدولة العدل الإلهي التي يُقيمها الإمام الثاني عشر من أئمة الشيعة محمد بن الحسن العسكري (المهدي) الذي يعتقد عُموم الشيعية الإمامية أن الله ادخره لإقامة دولة عادلة آخر الزمن مهمتها إنهاء الظلم وإقامة العدل. كان الحزب وأتباعه ومناصروه يعتقدون بأن غاياته حقائق آتية لا محالة، وأنه يجب العمل وبذل الجهد لتحقيقها. وكانت قيادة الحزب، يتقدّمها الشهيد السيد نصرالله، لديها إيمان غيبي بحتمية حصول ذلك.

لكن ذلك لم يكن يحول دون العمل المرحلي والتراكمي، وإعداد العُدة على قاعدة تراكم القوة والخبرة والكفاءة والإمكانات والإنجازات بما يُؤدي إلى تحرير فلسطين، والتمهيد لدولة العدل الإلهي. وبما أن قيادة الحزب كانت تُصرح بأن الأجيال القادمة سترى تحرير القدس وستُصلي في القدس المُحررة، فإن هذا الهدف كان هدفًا واقعيًا ملموسًا في نظر هذه القيادة وتقديراتها، لذلك جعلت من مهمة تحرير القدس، قطب الرحى في أيديولوجية الحزب وغاياته المنشودة. وعمل الحزب على ترجمة ذلك في:

- في شعارات الحزب: «حربًا حربًا حتى النصر زحفًا زحفًا نحو القدس».

- في عقيدته الدينية والسياسية: وتمثّلت أبهى تجلياته يوم قال السيد نصر الله: «نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك القدس وفلسطين».

- في قياداته: حيث تماهى هؤلاء مع فلسطين. فغدا القائد العسكري في الحزب عماد مغنية يُعرف بـ«حاج فلسطين» وصار الحزب ينعى الشهداء بأنهم «شهداء على طريق القدس».

- وفي أعماله المدنية: لقد تعمدت المجالس البلدية التي فاز فيها حزب الله في مُختلف المُدن والقرى، بتحديد المسافة بين كل شارع فيها وبين القدس.

- في إعلام الحزب: لم يكن مصادفة أن يضبط الإعلام ساعته ومواعيد نشراته الإخبارية على ساعة القدس وتوقيتها.

- في الثقافة والجهاد: كرّس الحزب أرض الجهاد التي ترمز إلى كربلاء في ثقافة الشهادة عند حزب الله، باعتبارها أيضًا أكناف بيت القدس التي ستبقى أرض رباط وجهاد إلى حين ظهور المهدي المنتظر أو تحرير القدس.

- في العمارة والفنون والأنشطة الإعلامية: تقدمت القدس كل ما يليها. فيحضر مُجسم القدس في مُقدمة المسيرات والتظاهرات، وفي تسمية الساحات الرئيسية في الضاحية والجنوب والبقاع، وحتى في تصميم المساجد. علمًا أن أبرز تجسيد للقدس في عقيدة الحزب وثقافته ترتبط في تحديد الإمام الخميني يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان، يومًا عالميًا للقدس دأب حزب الله على الاحتفال به، جاعلًا إياه رمزًا للإعداد لتحريرها. لقد حدد حزب الله الهدف، وأدرك وعورة الطريق وشراسة العدو وقوة عتاده وتفوقه العسكري والتقني والعددي. ولم يتجاهل انهزام الأمة أمام إنجازاته، بعدما نجح العدو في هزيمة جيوش عربية مُجتمعة في العام 1948 يوم كان الكيان الإسرائيلي وليدًا وطري العود. ثم يعمد إلى بعثرة جيوش العرب على كل الجبهات في حرب العام 1967، ونجاحه في احتلال سبعة أضعاف مساحة لبنان من أراضي خمس دول عربية هي فلسطين والأردن ومصر وسوريا ولبنان، في سبعة أيام فقط.

لكن الحزب وضع الأمور في نصابها، وشخّص مكامن الخلل في الدول التي أدارت الحروب مع إسرائيل، خصوصًا ما يتعلق بأدوات وشعارات وأيديولوجيات لم تكن لتتناسب مع طبيعة العدو وأحقية القضية، فضلًا عن نقاط الضعف التي اتسمت بها الأنظمة التي حكمت في هذه الدول وإستراتيجياتها وخططها المُعتمدة إزاء القضية الفلسطينية وأهمها:

- عدم الترتيب الصحيح للأولويات.

- عدم قراءة العدو، وبالتالي عدم معرفة نقاط قوته وضعفه.

- عدم الإعداد الدقيق والعلمي عسكريًا وأمنيًا في مُواجهة العدو.

- ضعف البناء العقائدي للمُقاتل العربي وهذا تجلى بوضوح تام في حرب 1967.

- التباينات والنزاعات بين الدول العربية التي جعلتها مماثلة لقصة البقرات السوداء والبيضاء، تُقتل الواحدة تلو الأخرى دون أن تُحرك البقرة الحية ساكنًا.

- الانهزام النفسي أمام الدعاية المُروجة لقوة العدو وتفوقه.

عمل حزب الله مُنذ لحظات تشكّله الأولى على قراءة العدو وتجارب الدول العربية في صراعها المرير معه، فاستفاد من نقاط ضعف العدو للنفاذ منها للنيل منه، ومن نقاط قوته للإعداد المُلائم لتبديدها. وقد وجد أن البناء العقائدي للمقاتل وفهم سيكولوجيا العدو الاجتماعية والسياسية والعسكرية والدينية، يعتبر من أهم مرتكزات بناء حركة مقاومة قادرة على تحقيق هزيمة إسرائيل بالاعتماد على تراكم الإمكانات والإنجازات. هذا الإعداد العقائدي والسببي في آن، جعل القضية واضحة راسخة في إيمان ووعي كل فرد من أفراد مقاومة حزب الله، إذ أصبح الفرد المقاوم أمة قائمة، يُقاتل بإيمان ويستمر بيقين، لا يروم من الدنيا متاعًا، يرمق بطرفه أقصى القوم.

لقد نسج السيد نصرالله عُرى هذه العقيدة قطبةً قطبة، وأشاد مداميكها لبنة لبنة، في نفوس أجيال المقاومة المتعاقبة على مدى 35 سنة، جاعلًا كل فرد من أفراد المقاومة، قائدًا يؤمن بما يقوم به، ويعرف واجباته، ويُدرك من هو عدوه، ويعي تاريخ الصراع وأبعاده ومآلاته المستقبلية. وعليه فهو قادر على تشخيص دوره بحسب الزمن والمكان، وتحديد ما يجب عليه القيام به، وفقًا للتوصيف الوظيفي الذي حدده النظام الداخلي لكُل فرد من أفراد الحزب.

هكذا تحققت المُعجزة: إنها المرة الأولى التي تعزف الأوركسترا الكبيرة جدًا سيمفونية كاملة وطويلة دون وجود المايسترو، وقد تحول مجتمع المقاومة وجسمها التنظيمي إلى أفراد قادة يعملون في مجموعات منظمة تعمل وفقًا لخططٍ واضحة المعالم ومرسومة بإتقان، يحفظها الأفراد كأسمائهم، وتجري في وعيهم وسلوكهم مجرى العادة التي لا تحتاج إلى كثير عناء عند التنفيذ. إن البناء العقائدي، والوعي بالقضية، وصلابة الهيكل التنظيمي والإعداد المادي المتناسب، هي العناصر التي تفسر قدرة حزب الله على الصمود، وعلى الانبعاث من بين الدمار والنار والرماد بعد استشهاد كامل قيادته العسكرية، وقيادة قوة النخبة فيه، وأمينه العام ورئيس مجلسه التنفيذي، ورئيس جهاز الأمن الوقائي فيه، وإصابة الآلاف من عناصره، وكوادره في ضربة واحدة.

لم ينبعث هذا المارد ليثبت أنه لا زال موجودًا، بل انبعث لوقف زحف أكثر من 65 ألف ضابط وجندي إسرائيلي مُدججين بأحدث الأسلحة والطائرات والدبابات وأنظمة الاتصال والتشويش على مدى شهرين متواصلين، ومنعهم من ليّ ذراعه، وأوقف زحفه وأعاد بث الحياة في جسد الأمة التي راهنت عليه.

كرامة الشهادة وخطأ التوقعات

تميّزت شخصية السيد نصرالله بمجموعة من الصفات الذاتية والعناصر الموضوعية التي يضيق المقال عن تعدادها مجتمعة، لكثرتها وتنوعها وتميزها وفرادتها، واستندت إلى إرث هائل من الإنجازات والانتصارات والتضحيات، تبدأ بالسمات الشخصية والكاريزما الفريدة وأسلوبه الممتع الذي يعتمد السهل الممتنع في الخطاب، ولا تنتهي بدعابته المهذبة، وصلابته التي جعلته سندًا لكل منكسر، وعضدًا لكل مصاب، وأملًا لكل مستضعف، حتى غدا البلسم الوحيد للجراح، تنتظره الجماهير انتظار التائه في الصحراء لشربة الماء، شقت هذه الشخصية الرائدة طريقًا طويلًا في التفاني والإيثار والتأسيس منذ الطلقة الأولى للمقاومة الإسلامية قبل أكثر من أربعة عقود، فاحتلت قلوب الشباب وعقول النخب، حتى أصبح أمينًا عامًا لحزب المقاومة بعد شهادة السيد عباس الموسوي، ورغم صغر سنه، قاد المقاومة إلى أن أصبحت بعد ثلاثين سنة من توليه المسؤولية عنصرًا مؤثرًا في معادلات المنطقة، وصانعًا حقيقيًا لتحررها من قوى الاستعمار وألاعبيه المتنوعة والتي كان للسيد الشهيد ومقاومته دور وأثر فاعل في إفراغها من محتواها في غزة وسوريا والعراق واليمن، وقبل ذلك في البوسنة والهرسك. فبات السيد نصرالله شخصية ثورية عالمية تتعدى تأثيراتها ودورها مقاومة إسرائيل واحتلالها لأجزاء من لبنان، وبات المطلوب الأول لأنظمة الهيمنة في أميركا وإسرائيل ودول غربية أخرى، بوصفه الركن الأساسي في إفشال مشاريع قوى الاستعمار في المنطقة.

توهم العقل الأمني في إسرائيل، أن اغتيال السيد نصرالله سيؤدي بالمقاومة إلى الضعف والانهيار السريع، لكن ما لم يكن موجودًا في حسابات هذا العقل، الذي سبق للسيد أن وصفه بالمستعلي والمستكبر، أنه لا يتعلم من التجارب، ويقيس الأمور وفقًا لموازين أمنية وعسكرية تسقط من حساباتها الخصائص العقدية والاجتماعية والتاريخية للمقاومة وشعبها وحزبها الرائد. وعليه فإن نقطة الضعف الأساسية في حسابات العقل الواهم عند اتخاذه قرار الاغتيال، تمثلت في عدم تقدير لعاملين اثنين:

الأول: حجم الغضب المقاتل الذي ولده استشهاد السيد نصرالله في نفوس الأجيال التي تربت على يديه وتحت منبره وفي مدرسته.

الثاني: كفاءة الكادر البشري المتميز على كل صعيد، والذي سرعان ما أخذ المبادرة وانطلق لسد الفراغ وتأجيل الحزن والتشدد في تنفيذ المرسوم من خطط كان السيد الشهيد قد أشرف على وضعها. هذا الكادر، من الأمين العام المنتخب، إلى كل كادر في قيادة المعركة وإدارة الجبهة عسكريًا وسياسيًا، كان أكثر صلابة في الموقف، وأشد حزمًا في التدابير، فتحققت بذلك نبوءة السيد الشهيد: «الحقيقة ما سترون لا ما ستسمعون». يضاف إلى هذين العاملين، أن الحزب يرتكز إلى جملة ثوابت تكاد تكون في مصاف المقدسات، تبدأ باعتبار المقاومة ومسيرتها محط رعاية من الله فلا يخيب الأمل، مرورًا بأن الالتزام بولاية الفقية يحقق انتظامًا عامًا لكل وحدات الحزب وهيئاته وأفراده، ويقوم مقام الواجب الذي يسري في النفوس مسرى الدم في العروق، ولا ينتهي الأمر بوجود آليات تنظيمية داخلية ترعى الانضباط العام، في ظل رعاية إيران ودعمها، وهو ما لا يخفى على أحد.

من هذه النقاط التي ترقى إلى مستوى الأسرار التي لا يقدر العدو على سبر أغوارها وفهم مغزاها، كتب سطور الانتصار الذي سيعجز العدو عن فهمها، كما أن عجزه في الميدان الأخلاقي الذي أبلت فيه المقاومة أحسن البلاء يثبت ذلك، وهو ما يقود إلى استحضار هذا البعد في سلوك المقاومة. ففي مقابلة له مع قناة «الميادين»، أجاب السيد الشهيد عن سؤال حول عملية الأسر في تموز 2006، فروى كيف أن مُجاهدي المُقاومة كمنوا لمدة ثلاثة أشهر حتى تمكنوا من تنفيذ العملية، لأن الهدف كان أسر جنود بلباس عسكري. وأن لا يقتل فيها أي «مدني»، علمًا أن العدو يعيد هذه الأيام، ما فعله في تلك الحرب، بشنه حربًا على البنى التحتية اللبنانية وعلى المدن والقرى والمدنيين. فيما يستهدف حزب الله القواعد والمطارات والموانئ العسكرية ومرابض المدفعية وتجمعات الجنود، وهو ما يعكس «المناقبية العسكرية» العالية لدى مجاهدي المقاومة، الذين يديرون الحرب بانسجام مع المبادئ والأخلاق العسكرية والقانونية التي تعتمدها الجيوش المُحترفة، مقابل عصابة تدعى إسرائيل، تخرج عن القوانين وتحترف القتل.

يكفي هذا السلوك، لكي يثبت حزب الله، أنه وفي ظل غياب غالبية قيادته التقليدية، لا يزال يمتلك إرادة فولاذية على الصبر والصمود، للأسباب الآنفة الذكر أولًا، وثانيًا لأن التماهي بين القائد، والمقاوم، والعقيدة والغاية جعل من هذه المكونات الأربعة كائنًا حيًا واحدًا اسمه حزب الله، إذ أصبح غياب القائد أو اغتياله يتحول حافزًا لجسم المقاومة على التسامي بالعقيدة لبلوغ الغاية، لذلك استطاع الحزب أن يُحوّل الحزن على غياب القائد إلى حزن مقاتل في الوقت الذي أراده العدو حزنًا قاتلًا، وتحول القائد المقتول إلى أعظم حافزٍ على القتال.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد