علي حيدر/ موقع اقتدار
لا تكفي السرديّة التاريخيّة وحدها لفهم تطور نظرة العدو الإسرائيلي إلى حزب الله؛ فالمسألة في جوهرها ليست تسلسلًا للأحداث بقدر ما هي تبدّلٌ في الأُطر المعرفيّة التي تنظر عبرها المؤسّسة السياسيّة – الأمنيّة الإسرائيلية إلى خصمٍ وُلد كظاهرة محليّة ثمّ تحوّل، عبر تراكم الخبرة والقوّة والرمزيّة، إلى معضلة مفاهيميّة تعيد تعريف مبدأ الأمن الإسرائيلي نفسه. إنّ "نظرة" العدوّ ليست مرآةً محايدة، بل حصيلة تفاعلٍ مركّب بين التجربة القتاليّة، والاستخبارات، والبيئة الإقليميّة، وبنية الرأي العام، وأدوات إدارة المخاطر؛ لذلك فإنّ أيّ تفكيكٍ لمراحل هذه النظرة يجب أن ينتقل من وصف الظواهر إلى تحليل المفاهيم الحاكمة: كيف انتقلت تل أبيب من الاستخفاف إلى الاعتراف، من عقيدة الحسم إلى عقيدة إدارة المواجهة، ومن الردع من موقع التفوّق إلى الردع المتبادل إلى الرهان على الحسم ثم الاقرار بالردع الظرفي، ومن أمنٍ يُقاس بمدى الإيذاء الخارجي إلى أمنٍ تُصبح فيه الجبهة الداخليّة معيارًا حاكمًا.
تبدأ هذه القراءة من بديهيّة: أنّ حزب الله لم يغيّر موازينَ القوّة النسبيّة على خطوط الجبهة فقط، لقد غيّر فرضيات عمل الجيش الإسرائيلي وأعاد صياغة أو التأثير في العقل الإستراتيجي الإسرائيلي: فبدل "حرب قصيرة حاسمة"، غدا التصوّر الواقعي أقرب إلى "اشتباكٍ طويل مُدار"، وبدل "نقل الحرب إلى أرض الخصم"، فرضت الوقائع تداخُل الجبهات وارتفاع كلفة المخاطرة على العمق الإستراتيجي الإسرائيلي. ومن هنا تتشكّل المعضلة: كيف تُبقي إسرائيل على صورة الردع وهي لا تستطيع الحسم، وكيف تُدير التهديد وهي تُقِرّ بأنّ مفاتيحه (الصواريخ الدقيقة، المسيّرات، البنية تحت الأرض، ومرونة التعافي) لم تُدمر بالكامل وما بقي كاف كي يشكل تهديدًا مركزيًا، بتعبيرهم، ولا يوجد ما يضمن نزعها؟
بهذا المعنى، ليست "تطوّرات حزب الله" موضوعنا المباشر، بل أثر هذه التطوّرات في إعادة تشكيل صورة الحزب في الوعي الإسرائيلي: من "قوة استنزاف محلية" للاحتلال إلى "خصمٍ استراتيجيّ" قادر على ردع العدو وحماية أمن لبنان، ثم إلى "العدوّ المركزيّ" الذي يَحكمُ هندسة القرار اليوميّ حتى بعد حرب "أولي البأس" 2024. وفي ما يلي، سنسيرُ عبر محاور مفاهيميّة متعاقبة، لا على طريقة السيرة، بل على طريقة الخريطة الذهنيّة: ما الذي تغيّر في المفاهيم؟ كيف ظهر عمليًّا؟ وما الذي يعنيه ذلك لمعادلة الردع والحسم والإدارة في إسرائيل؟
المحور الأوّل: 1982 – 1991 ... من الغفلة البنيويّة إلى اكتشاف "التهديد البنيوي"
1) الغفلة كنتاج تفوّق مُضلّل:
بعد اجتياح 1982، راكمت إسرائيل رأسمالًا من "الاطمئنان"، مصدرُه التفوّق الجوي والتكنولوجي والسبق الاستخباري وانتصارات متوالية على جيوشٍ عربيّة نظاميّة. في هذه البيئة وُلد حزب الله. فُهِمت عمليّاته الأولى بوصفها "إزعاجًا" قابلًا للاحتواء، وامتدادًا لخبراتٍ سابقة مع فصائل لبنانيّة وفلسطينيّة. هذا تحيّز إدراكي كلاسيكي: حين تُطابق المؤسّسات تهديدًا جديدًا على قوالبَ قديمة، فتخطئ التقدير.
2) "العلامات المبكّرة" التي لم تُقرأ:
يُسجَّل على الاستخبارات الإسرائيلية في هذه المرحلة أنّها لم تلتقط بسرعة طابع الحزب البنيوي: عقيدة أيديولوجيّة صلبة، سندٌ خارجيّ منظّم، وبنية اجتماعيّة تتجاوز "حَواضن آنيّة" وقدرة استثنائية على التعلم والتطور... وما بدا كما لو أنه "موسميّ" كان في الحقيقة تدشينًا لنسقٍ قتاليّ طويل النفس.
3) الرهان على التآكل ... إدارة مخاطر بدل تغيير مفهوم:
حتّى مع ارتفاع منحنى الإصابات، ظلّ الرهان الإسرائيلي على الزمن: أن تتعب المقاومة، أن تنكفئ. هذا امتناعٌ عن الاعتراف بالتحوّل المفاهيمي المطلوب، واستبداله بتدبيرٍ إداريّ: إدارة المخاطر لا إعادة تعريف الخطر.
نتيجة هذه المرحلة تبلور في الوعي الإسرائيلي إدراكٌ أوّليّ بأنّ التهديد ليس عابرًا. لكنّ الموقف المؤسّسي ظلّ يفضّل المعالجة التكتيكيّة (غارات، اغتيالات، تقليص الاحتكاك) على الاعتراف الإستراتيجي بأنّ ما يواجهه ليس "وظيفة قتالٍ تقليدي" بل منظومة مقاومة ذات قدرة على التجدد.
المحور الثاني: 1992 – 2000 ... من الإخضاع إلى الردع العملياتي فالزلزال المفاهيمي
1) فشل الإخضاع عبر "القوّة الفائضة":
اغتيال السيد عباس الموسوي (1992) وعمليتا "تصفية الحساب" (1993) و"عناقيد الغضب" (1996) مثّلت محاولة إسرائيل لإعادة تعريف وضبط الساحة عبر قوّة فائضة. لكنّ الهندسة المعاكسة حصلت: حزب الله استولد من الضغط معادلة ردّ صاروخي نقلت الجبهة الداخليّة الإسرائيلية إلى المعادلة.
2) ردعٌ عملياتيّ يولّد مظلّة تراكم:
حين صار ثمن الاعتداء على المدنيين اللبنانيّين قابلًا للتبادل مع ثمنٍ على المستوطنات الشماليّة، وُلدت مظلّة ردع عملياتي أتاحت للمقاومة تطوير قدراتها تدريجيًّا. لم تعد كلفة فعل المقاومة أكبر من كلفة ردّ العدوّ؛ بل باتت الحسابات مفتوحة على رد وأثمان متبادلة.
3) 2000 انسحاب بلا اتفاق ... زلزالٌ في "عقيدة الحسم":
الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب بلا ترتيباتٍ أمنية شكّل انكسارًا للركيزة المفاهيميّة في الوعي الإسرائيلي: ومفادها أنّ الجيش، وإن تفوّق تكنولوجيًّا، يُمكن أن يُستنزف إلى حدود تغيير القرار السياسي. من هنا يبدأ تشكّل صورة الحزب كـ خصمٍ يفرض نتائج استراتيجيّة دون أن يمتلك دولة أو سلاح جو.
4) مسار التحوّل في المفاهيم:
- من "احتواء ظاهرة" إلى "التعامل مع منظومة".
- من "الحسم بالتفوّق" إلى الاعتراف بأنّ الحسم أصبح مكلفًا وغير مضمون.
- من "أمن الحدود" إلى "أمن الداخل" الإسرائيلي، حيث صار المجتمع معيارًا حاكمًا في المعادلة.
- ينبغي أن نذكر بأن هذا المسار التراكمي أدى إلى انتصار تاريخي في العام 2000.
المحور الثالث: 2006 ... انهيار فرضيّة الحسم السريع وتسييل الأزمة إلى داخل المؤسّسة
كشف استمرار إطلاق الصواريخ خلال حرب العام 2006 حتى اللحظة الأخيرة حدود التفوّق الجوي أمام خصمٍ يَعمل تحت الأرض وفوقها، بمخازن وأنفاق ومرابض مرنة. الطلعات الجوية لا تُوقِف إرادة الإطلاق حين تُفكَّك الشبكة إلى عقدٍ صغيرة عديدة. ودخلت القوّات البرّية متأخّرة ومجزّأة. تَضاعفت الخسائر دون إنجازٍ حاسم، ما قوّض صدقيّة العقيدة البرّية أمام رأيٍ عامٍّ يُقارن الأثمان بالنتائج. وفوجئت إسرائيل بعمق التحصين والبنية اللوجستيّة. صار حزب الله في المخيال الإسرائيلي "جيشًا مصغّرًا" لا ميليشيا، يملك قدرة إدارة نيرانٍ بوتيرةٍ ثابتة. تغذّي هذه الصدمة إعادة هيكلة (مراجعات، خطط تطوير، دمج دفاعات، تدريب).
الترجمة المفاهيميّة:
- الحسم السريع وهمٌ وخطر أمام خصمٍ غير تماثلي.
- الردع لم يعد قائمًا على التهديد المجرّد، بل على كلفةٍ اجتماعية– أمنية لقرارات الحرب.
المحور الرابع: 2006 – 2023 ... تكريس الردع المتبادل، وتوسّع "المعركة بين الحروب"
1) الردع المتبادل: من خطاب إلى وظيفة:
دخلت إسرائيل زمن تبادل الردع: ليس "نؤلم فتُحجمون"، بل استبدلت ذلك بضرباتٍ مستمرّة منخفضة المخاطر. عبر اعتماد استراتيجية "المعركة بين الحروب" في الساحة السوريّة لما يمكن أن يساهم في تسريع وتيرة تعاظم قدرات حزب الله.
2) الجبهة الداخليّة: من الهامش إلى المركز:
انتقل معيار الكفاية الأمنيّة إلى الداخل: الملاجئ، أنظمة الإنذار، القبة الحديديّة، طبقات اعتراض، خطط استمراريّة الأعمال. صار المجتمع مكوّنًا عملياتيًّا لا متغيّرًا خارجيًا. هذا تحوّل بنيوي في مفهوم الأمن الإسرائيلي. لم يعد قرار الحرب يقتصر على دراسة البيئتين الاقليمية والدولية، وإضافة إلى تطور البيئة العملياتية، بل دخلت البيئة الداخلية كعامل رئيسي في بلورة قرار باتجاه الحرب أو الانكفاء، نتيجة معادلة الرد الصاروخي الذي أدخله حزب الله، بحسب المفهوم الذي عبر عنه رئيس أركان جيش العدو غادي ايزنكوت.
3) رهان الاستنزاف السوري ... والتعلّم المعكوس:
قدّرت تل أبيب أنّ انخراط حزب الله في سوريا سيستنزفه. غير أنّ التراكم كان مزدوجًا: خبرات قتالية، لوجستيات، تنسيق عملياتي، إدماج للقدرات المسيّرة، وفهمٌ أعمق لحرب الشبكات. اتسع التهديد من "كمّي" إلى "نوعي"، مع حساسيّة خاصّة لمشروع الصواريخ الدقيقة.
4) تدوير المفاهيم عبر خطط التطوير:
عكست خطط "جدعون" لتطوير القدرة العسكرية في ظل غادي إيزنكوت كرئاسة أركان الجيش، وخطة "الزخم" في ظل أفيف كوخافي، عكست انتقالًا من وعد الحسم إلى إدارة التهديد: دمج نيران – مناورة، تعزيز الاستخبارات – الاستهداف، حماية العمق، تحسين سرعة القرار. إلّا أنّ الفجوة البرّية ظلّت قائمة: كيف تُترجم هذه المنظومات إلى تغيّرٍ ميدانيّ مستدام في جنوب لبنان؟
المحور الخامس: 2024 وما بعدها ... ازدواجية "الإضعاف/ التهديد المركزي" وسياسة إدارة المخاطر
1) جملة مفتاح: "أضعف ... لكنه العدوّ الأوّل":
تقول إسرائيل بعد 2024 إنّ الحزب "أُضعِف"، لكنها تُصرّ أنّه التهديد المركزي و"العدوّ رقم واحد". ليس ذلك مجرد مفارقةً لغويّة، بل إنّها تعريف جديد للقوّة. نتيجة فشل الحسم مع حزب الله، واستبداله باستراتيجية منعه من التعاظم السريع والحفاظ على هامش قضمٍ مستمر.
2) من الردع إلى الإحباط اليومي:
اضطر العدو إلى استبدال الرهان على كون الردع ناتجًا عن التأثير في وعي الطرف المقابل وحسابات جهات القرار لديه، بالعمل على الإحباط اليومي منعًا للتعافي: معلومات كثيفة، قرار سريع، ضربات شبه يوميّة، تدويلٌ لضبط الإيقاع. يصبح الردع وظيفة صيانة، لا حالة ثابتة ومستدامة.
3) دلالات مشاركة الولايات المتحدة في الضبط:
إشراك ضباطٍ أميركيّين، قنوات تبادل معلومات إلى بيروت... كلّها لا تُقرأ بوصفها زينةً دبلوماسية، بل شرطًا بنيويًا لإدارة خطر لا تستطيع إسرائيل كبحه منفردةً بلا تصعيدٍ واسعٍ شديد الكلفة.
4) فجوة البرّ: عطبٌ متجدّد:
الاعتراف بعدم المناورة في عمق خطوط القرى، والاعتماد أساسًا على النيران الجويّة، يكرّس قيود الخيار البري لجيش العدو: النار تغيّر السطح ولا تُنتج بالضرورة تغييرًا بنيويًّا على الأرض في بنية خصمٍ شبكيّ متوزّع.
5) الخلاصة المفاهيميّة لما بعد 2024:
- من الحسم إلى إدارة المخاطر: وظيفة حراسة/ قضمٌ بدلَ وعدِ الحسم.
- ردعٌ ظرفي: قابل للكسر وفق ظروفٍ يختارها الخصم – حزب الله.
- العدوّ المركزي: لأن مفاتيح التهديد (دقة/ كم، مسيّرات، مرونة التعافي) لا تزال باقية بأيدي حزب الله.
- شرعنة اجتماعيّة للأمن: "عودة السكان/ الشعور بالأمن" كذريعة تموضع.
- تعويل خارجيّ: واشنطن، ضغط داخلي لبناني، وطوقٌ سوريّ – رهاناتٌ لا تُغني عن الإقرار بحدود القدرة الذاتيّة.
المحور السادس: تفكيكٌ مفاهيميّ
من "ظاهرة" إلى "بنية":
انتقل حزب الله في العقل الإسرائيلي من كونه ظاهرة قابلة للإطفاء إلى بنية مقاومة ذات قدرة على التجدد الدائم. هذا التحوّل عطّل أنماط الاستجابة "الخطّيّة" (اضرب أكثر تربح أكثر) لصالح أشكالٍ دائرية من الصراع حيث الضغط يولّد تعلّمًا، ويستولد خصائص دفاعيّة وهجينة جديدة.
من "دوّامة تكتيكيّة" إلى "توازن مفاهيمي":
في التسعينيات، بدت علاقة الفعل – الردّ دوّامة تكتيكيّة فرضها حزب الله وأدت إلى نتائج استراتيجية تاريخية (تحرير العام 2000). لكن بعد 2006، استقرّت العلاقة على توازنٍ مفاهيمي: الطرفان يدركان أنّ كلفة الحرب الشاملة فادحة، وأنّ الاستنزاف المُدار هو السيناريو الأكثر ترجيحًا. في هذه البيئة، يصير الزمن سلاحًا: إسرائيل تقضم، والحزب يُجدّد ويُبدع.
من "ردع بالعقاب" إلى "محاولة تأجيل التهديد"!
بعد فشل الردع برفع الكلفة البشرية المباشرة للخصم، اضطر إلى استبدال ذلك بتقييد دورات التعاظم التي تمكّنه من استعادة قدرته العملانية. الهدف ليس "إيلام الخصم" بقدر ما هو كسر إيقاع توليد القوة لديه: إطالة زمن إعادة التكوين، ويُقاس النجاح هنا بمؤشرات مثل الزمن المتوسط لإعادة التشكيل، أكثر مما يُقاس بحجم الخسائر المباشرة. عمليًا، يتجسّد هذا المنطق في الاستهداف المدروس وفي ضربات زمنية حساسة تُربك الجدولة التشغيلية للخصم، وتفرض عليه توزيعًا أقل كفاءةً للموارد.
أمّا تحسُّب الخصم – حزب الله فيقابَل ذلك بتشتيت الإنتاج، والاعتماد على شبكات بديلة، والمرونة في سلسلة الإمداد؛ ولذا ينتقل التفكير الإسرائيلي إلى رؤية الحزب كـشبكة قادرة على استنساخ نفسها لا كقوة خطّيّة.
من "النصر العسكري" إلى "هندسةِ العُمق المدني":
تبدّل معيار النجاح من شعار "النصر" الميداني إلى هندسة العُمق المدني بوصفه مسرحًا حاسمًا في المعادلة. يُقاس "الأمن" هنا بقدرة الدولة على استمرارية الوظائف الحرجة تحت الضغط: توافر الطاقة والاتصالات، سلاسة الحركة والنقل، النظام الصحي. تصبح أدوات الحماية (الدفاع متعدّد الطبقات، الهندسة الوقائية للمدن، إدارة الإخلاء والعودة) جزءًا من تصميم عملياتي يهدف إلى منع شلل القرار السياسي والحفاظ على هامش مناورة إستراتيجي. النجاح ليس "رفع راية فوق أرض"، بل الحفاظ على توافر المنظومة المدنية بنسبة مقبولة خلال الأزمة وبعدها. بهذا المعنى، تُعاد قراءة حزب الله كفاعلٍ يضغط على بنية الاستدامة المدنية بقدر ما يضغط على الجبهة العسكرية، فتنتقل المقاييس من "صورة النصر" إلى مؤشرات الجاهزية والاستدامة.
من "الدولة – الجيش" إلى "عدو هجين يُصعِّب الحسم":
اضطرّت إسرائيل إلى الاعتراف بأنّها لا تُواجه دولةً مسطّحة بجيشٍ نظامي، بل شبكةً تتلبّس خصائص الدولة حين يلزم (إدارة، لوجستيات، سياسات) وخصائص اللادولة حيث ينفع (مرونة، إخفاء الأثر، توزيع المخاطر). هذه هجينة تُصعّب الحسم وتُطيل زمن الإدارة.
المحور السابع: كيف تُترجم المفاهيم إلى أفعال؟
1) قرار يومي منخفض العتبة:
تصغير حلقات القرار العملياتيّة يُسّرع الضربات، ويقلّل نفقات "التردّد السياسي"، لكنّه يرفع خطر الأخطاء التقديريّة، وهذا يشكّل مقايضة مقصودة لتثبيت إيقاع القضم.
2) توسّع "المعركة بين الحروب":
تتحوّل من مسرحٍ سوريّ إلى مصفوفة مسارح: حدود، جو، بحر، سيبر، حرب مواقع/عُقَد. الهدف ليس إسقاط الخصم، بل تنظيم تعاظمه ضمن سقفٍ تتعامل معه إسرائيل بإستراتيجية إدارة المخاطر.
3) وظيفة الدفاع:
لا تُقرأ "القبة الحديديّة" وأخواتها كأدوات صدٍّ فقط، بل كجزء من عقيدة الدفاع عن الجبهة الداخلية كشرط للهجوم والردع ومن أجل تمكين المجتمع من تحمّل زمنٍ أطول تحت القصف دون انهيارٍ نفسي– اجتماعي، أي إطالة أمد الإدارة نتيجة الإقرار بفشل الحسم والإحباط أيضًا.
4) تموضعٌ محدودٌ بوظيفة أمنية – سياسية – اجتماعيّة:
الوجود في نقاطٍ محدودة داخل الجنوب يتم على خلفيات التقدير والخوف من عمليات تسلل من نقاط ضعف، وكجزء من الضغط على الواقع اللبناني وبتبرير توفير الشعور بالأمن لدى المستوطين من أجل العودة إلى مستوطناتهم. إنّه تقنين وظيفي للقوّة، علامةٌ على التحوّل من أهدافٍ كبرى إلى دور وظيفي متعدد الاتجاهات.
المحور الثامن: العقل الإسرائيلي بين المؤسّسة والرأي العام – فجوة وتكيّف
1) أزمة سردية:
أدّى 2000 و2006 إلى كسور سرديّة: صورة "الجيش الذي لا يُقهر" اهتزّت. وبعد 2024، تَكبح المؤسسة توقّعات الجمهور بوعود الحسم، وتقدّم بدلًا منها برنامج عمل: ضربات، قضم، إدارة، تحالفات ضبط.
2) تكيّف النخبة العسكريّة:
يتحوّل خطاب النخبة من "وعد الحسم" إلى محاولة تقييد قدرة الخصم على التعاظم، لا إلغائها.
المحور التاسع: تفوق الاستخبارات لم يكفِ للحسم
1) مفارقة المعرفة:
من "عجزٍ عن رؤية البنية" في الثمانينات إلى فائض بيانات اليوم، تبقى المفارقة: المعرفة لا تكفي للحسم حين يكون الخصم شبكيًّا مُتكيّفًا. تتزايد "أنثروبولوجيا الهدف" (فهم المجتمع والرمزيّات) كجزءٍ من القرار العملياتي.
2) التحيّزات القيمية:
خطر "الانحياز إلى الأدلة التي تُثبت الفرضيّة" يلازم المؤسّسات. بعد 2024 تراجع الخطاب الذي يتنبّأ بـ "نهاية التهديد"، ويزداد يومًا بعد يوم خطاب "تقليص التهديد"؛ اعترافٌ صامت بدرس العقود السابقة. وتعويض ذلك بالإنجازات العسكرية التي حقّقها جيش العدو خلال حرب أولي البأس.
المحور العاشر: نظرة العدو لمستويات الردع إزاء حزب الله
- ردع الحسم: احتماله ضعيف؛ لأنّه غير مضمون، أو لأنّ كلفته الأمنية والاجتماعيّة والسياسيّة مرتفعة جدًّا.
- ردع التعاظم السريع: بنظر العدو احتماله معتبر وفي أقصى درجات التفاؤل احتماله أقوى؛ عبر القضم والضربات الوقائيّة.
- ردع المبادأة المفاجئة (من قبل حزب الله): متوسّط؛ تبقى "نوافذ ظرفية" يستطيع الحزب استخدامها.
أما الحرب الشاملة فلها بحث آخر.
المحور الحادي عشر: قيود "اللعبة" بعد 2024
1) اللاعبان وقيودهما:
- إسرائيل: قوّة تكنولوجيّة، عمق اجتماعي هشّ، اقتصاد متشابك عالميًّا، إدراك محدودية مفاعيل القوة.
- حزب الله: مفاتيح تهديد دقيقة/ كمّية، مرونة وتكيف وإبداع، قاعدة اجتماعية صلبة، اعتبارات لبنانيّة داخليّة.
2) تفضيلات واقعيّة:
- إسرائيل تفضّل إدارةً طويلة الأمد تُبقي إيقاع القضم وتحدّ من التعاظم.
- أولوية حزب الله حماية لبنان الحفاظ على قدرته في الدفاع عن وجوده وأمنه. تطوير قدراته استخلاص العبر من تجربة حرب أولي البأس.
3) معادلة حافّة المخاطر:
ما هو سائد ليس "سكونًا"، بل حركة مقيّدة: كلّ طرفٍ يتحرّك ضمن هامش مخاطر. أيّ خرقٍ فادح يهدّد بدخول منطقة اللاتوقّع العالية التكلفة.
المحور الثاني عشر: ما تعترف به إسرائيل ضمنًا بعد 2024؟
- الحسم المتصوَّر غير متاح بكلفة مقبولة.
- الردع قائمٌ لكنّه ظرفيّ وقابل للكسر في لحظاتٍ محسوبة.
- القضم اليوميّ أفضل من الانفجار الشامل – اقتصاد مخاطر.
- التدويل ضرورة – وليس ترفًا – في الضبط والمراقبة.
- فجوة البرّ مستمرّة – النيران عن بعد لا تُغني عن المسّ بالبنية الأرضيّة.
- الخصم يتعافى – مرونة شبكيّة وقدرة على استعادة القدرة.
المحور الثالث عشر: ماذا تغيّر في تعريف "القوّة"؟
- من القدرة على الإلغاء إلى الاقرار بتكريس محدودية القوة واستبدال الحسم بالتقييد.
- من نصرٍ خطابيّ إلى محدودية تأثير القوة في التوجهات الإستراتيجية للطرف المقابل.
- من أمل بالحسم إلى ردعٍ محدود وظرفي.
- من أفق الحسم مع حزب الله إلى الاستعانة بالآخرين (أميركا والداخل اللبناني) لتحقيق المطلوب أو تقييده.
بهذا التعريف المعدّل، تستطيع إسرائيل أن تقول لجمهورها: "أضعفناه"، دون أن تتعهّد: "أنهيناه". وتستطيع المؤسّسة أن تعمل على تطويل زمن الإدارة، لا تقصير طريق الحسم.
المحور الرابع عشر: سيناريوهات مفتوحة – كيف تُفكّر المؤسّسة في المقبل؟
سيناريو 1: تثبيت سياسة إدارة منع التعاظم:
- استمرار ضربات منخفضة العتبة، تدويلٌ للضبط، تحسين الدفاعات، مراقبة دقيقة لمسارات التعاظم، وحذرٌ من أيّ "قفزة" برّية واسعة.
- سيناريو 2: تصعيدٌ موضعيّ عالي الشدّة:
يحدث بفعل حادثٍ نوعي أو قرارٍ محسوب. الردّ الإسرائيلي يكون عقابيًّا موسّعًا، لكن مع حرصٍ على ضبط السقف خشية الانزلاق.
سيناريو 3: حربٌ أوسع:
لا تفضّله تل أبيب حاليًّا ولا الحزب؛ كلفته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة جسيمة. يبقى احتمال طوارئ أكثر منه خيارًا إستراتيجيًا. والمقاومة تستعد لها بغض النظر عن التقديرات.
خاتمة جامعة: لماذا يبقى حزب الله التهديد المركزي؟
تُظهر القراءة المفاهيميّة لمسار 1982 – ما بعد 2024 أنّ إسرائيل انتقلت في نظرتها إلى حزب الله عبر عدة عتباتٍ كبرى:
- عتبة الاعتراف البنيوي خلال سنة من تأسيسه: من غفلة وجهل استخباري مغذّى بتفوّقٍ مضلِّل... إلى فهم أنّ الحزب بنية مقاومة لا ظاهرة عابرة.
- عتبة انتقال حزب الله، في الوعي الإسرائيلي، من "مشكلة تكتيكية" إلى معضلة بنيوية تُنتج ردعًا عملياتيًّا وتفرض تسعيرًا اجتماعيًا – سياسيًا لقرار الحرب؛ اكتملت هذه العتبة رمزيًّا وعمليًّا بالانسحاب عام 2000.
- عتبة الزلزال المفاهيمي (2000 – 2006): انسحاب بلا اتفاق ثم حرب سَحقت فرضيّة الحسم السريع، وأدخلت الجبهة الداخليّة معيارًا حاكمًا في القرار.
- عتبة الإدارة المكثّفة (2006 – 2023): ردع متبادل وفر الأمن الإستراتيجي للبنان في مرحلة تاريخية مشبعة بالمخاطر... وشكلت مظلة لتعاظم قدرات المقاومة... وتعاظم التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
- عتبة (ما بعد 2024): استبدال الحسم بادارة مخاطر يُدار عمليًّا عبر قضمٍ مستمر وتدويلٍ للضبط وبناء شرعية تُطيل زمن الاستمرار.
على هذا الأساس، يتكرّس حزب الله في العقل الإسرائيلي تهديدًا مركزيًّا، لا لأنّ إسرائيل ضعيفة، بل لأنّ شكل القوّة المطلوب لإلغائه غير متاحٍ بكلفةٍ مقبولة؛ ولأنّ مفاتيح تهديده (الدقّة، الكمّ، المسيّرات، الشبكيّة الدفاعيّة، مرونة التعافي) لم تُنتزع. وهكذا يصبح الردع ظرفيًّا: قائمًا ما دامت كُلف كسره أعلى من عوائده، وقابلًا للانكسار حين يرى الحزب نافذةً مواتية. وتصبح عقيدة الإدارة – لا الحسم – استراتيجية بديلة من موقع الاضطرار.
أما الرهانات البديلة داخل لبنان – السياسة، الاقتصاد، الضغوط المؤسّسيّة – فلا تُظهِر، في المنظور الإسرائيلي الواقعي، قدرةً على نزع المفاتيح. أقصى ما تقدّمه هو ضغطٌ متقطّع قد يقيّد وتيرة التعاظم، دون أن يبدّل جوهر المعادلة. لذلك تبقى الخلاصة مزدوجة:
مفاهيميًّا: حزب الله بدّل تعريف القوّة في الأمن الإسرائيلي من "وعد بالحسم" إلى "وظيفة حراسة" (لأمن مستوطنات الشمال وإشعارهم بالأمن)، ومن أمل بـ "ردعٍ تام" إلى "ردعٍ يُصان بالعمل اليوميّ".
عمليًّا: إسرائيل تُدير خطرًا لا تُنهيه، والحزب يُحافظ على مفاتيح تهديدٍ تضمن بقاءه في مرتبة "العدوّ الأوّل".
إنّ الاستمراريّة هنا ليست عجزًا فحسب، بل اعترافٌ معرفي بأنّ صراعًا كهذا لا يُحسم بمنطق "الضربة القاضية"، بل يُدار بمنطق "ميزانيّات الزمن والكلفة". ومن ثمّ، فإنّ كلّ حديثٍ عن نهاياتٍ قريبة يتجاهل حقيقةً رسّختها أربعة عقود: أنّ حزب الله لم يعد "مقاومة تواجهها إسرائيل" وحسب، بل مقاومة تُعيد من خلاله تعريف نفسها: عقيدةً، ومجتمعًا، وحدودَ قوّةٍ ومعنى أمن.
لهذا كلّه، وبحسب "المفهوم العامل" بعد 2024، يبقى حزب الله التهديد المركزي، ويظلّ الردع ظرفيًّا، وتبقى مخاطر مسار التعافي لدى الحزب حاضرةً في تقديرات تل أبيب، فيما تفشل الرهانات البديلة – حتى الآن – في تحويل الداخل اللبناني إلى أداةٍ تفكيكيّةٍ لمفاتيح التهديد. إنّها خلاصةٌ لا تُطمئن إسرائيل، لكنها تُطابق واقعًا موضوعيًّا: من وعد الحسم إلى وظيفة الحراسة. ومن أُحاديّة التعريف إلى تعدّد المفاهيم. أي أن إسرائيل لم تعد تُعرّف أمنها ونجاحها بمعيارٍ واحد نهائي (الحسم أو الردع أو التفوق...)، بل صارت تُدير الصراع بمنطق حافظة مفاهيم: تقييد التهديد، صيانة ردعٍ ظرفي، قضم وقائي، حماية الجبهة الداخلية، وتدويل الضبط، وكلّها تؤكد أن المسألة هي سياسة إدارة مخاطر كبديل – حتى الآن – عن فشل إستراتيجية الحسم.