ماهر سلامة (صحيفة الأخبار)
نشرت إدارة الإحصاء المركزي، أخيراً، تقريراً عن الحسابات الوطنية للعامين 2022 و2023 والتي تتضمن تقديراتها للناتج المحلّي الإجمالي والعناصر الأساسية التي يتشكّل منها بأكثر من طريقة، مثل الأجور والأرباح والاستهلاك... لكن منهجية الوصول إلى هذه الأرقام والتقديرات، تثير الكثير من الشكوك لأنها تعتمد على معايير حُدّدت قبل أكثر من عشر سنوات ولم تعد ملائمة للواقع الحالي، فضلاً عن أن فيها الكثير من الإسقاطات المستندة إلى تقديرات لمسوحات وبيانات طرأت عليها متغيّرات جذرية غير ملحوظة. وهذا يعني أن تقدير الحسابات الوطنية ينطوي على شوائب جوهرية وأن التعديلات التي يمكن تصحيحها قد تغيّر النتائج بشكل كبير.
الناتج المحلي الإجمالي (GDP) هو المؤشّر الأكثر استخداماً لقياس حجم النشاط الاقتصادي في أي بلد. إذ يجمع القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المنتَجة خلال مدة زمنية محدّدة. وفي لبنان، تتولى الإدارة المركزية للإحصاء (CAS) مهمة احتسابه بالاعتماد على منهجية الجدول المتوازن للعرض والاستخدام (Supply and Use Table)، التي تحدد علاقة الإنتاج بالإنفاق والاستهلاك والادخار.
لكن منذ نهاية عام 2019، واجه لبنان أزمة مالية ونقدية غير مسبوقة: انهيار سعر الصرف الرسمي، ظهور أسعار موازية متعددة، معدل سنوي للتضخم يتجاوز الـ100%، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين. أمام هذا الواقع، لم تعد أدوات القياس الاقتصادية التقليدية صالحة بناءً على المعايير التي حُدّدت في السنوات الماضية، وهو ما دفع إدارة الإحصاء المركزي، إلى تعديل طريقتها لتقدير الناتج المحلي. ورغم أن هذه التعديلات أنقذت النظام الإحصائي من الانهيار الكامل، إلا أنها أدت أيضاً إلى تشوّهات منهجية عميقة.
بيانات الـTVA موثوقة؟
تُلزم معظم الشركات اللبنانية المسجّلة بضريبة القيمة المضافة بتقديم تصريح ربعي يبيّن حجم المبيعات والمشتريات وقيمة الضريبة المستحقة. تأخذ الإدارة هذه التصاريح لتقدير إجمالي قيمة المبيعات في كل قطاع اقتصادي. من هذه المبيعات يتم خصم قيمة الاستهلاك الوسيط، فيُستخرج ما يُعرف بالقيمة المضافة الإجمالية (GVA) لكل قطاع، ثم تُجمع القيم المضافة لجميع القطاعات، ويُضاف إليها صافي الضرائب على المنتجات، للحصول على الناتج المحلي من جانب الإنتاج. لكن انفجار الأزمة وانهيار القطاع المصرفي إضافة إلى انهيار تثبيت سعر الصرف، دفع آلاف المؤسّسات إلى التوقف عن التصريح أو إلى تقديم بيانات غير دقيقة بسبب فروقات أسعار الصرف، وهذا كان واضحاً في آلاف التقارير الصادرة عن مدققي الحسابات التي لا توافق على اعتبار أن حسابات وبيانات هذه المؤسسات تعبّر بشكل عادل عن الواقع. كما إنه وبشكل تدريجي بدأت بعض المؤسسات، وعلى صعيد قطاعي تتعامل بالدولار نقداً من دون أن تعكس هذه العمليات في سجلاتها الرسمية. وكانت هذه إحدى نتائج انهيار القطاع المصرفي وتحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي، يصعب فيه التعقّب المالي للشركات. النتيجة هي أن القيمة المضافة لا تمثّل مستواها الحقيقي، ما يؤدي إلى تشوّهات في تقدير الناتج المحلي الإجمالي.
الأسرة بلا ميزانية
الاستهلاك الوسيط هو مجموع السلع والخدمات التي تستهلكها المؤسّسات في عملية الإنتاج. ويُقدّر الاستهلاك الوسيط، في العادة، عبر نسب المدخلات إلى المخرجات التي تم تحديدها في سنوات سابقة. عملياً، هذه النسب محتسبة على أساس مسوحات مُطبقة بين سنوات 2004-2008، وعُدّل عليها عام 2011. هذه النسب تُظهر البنية الاقتصادية الثابتة لكل قطاع، أي العلاقة «الطبيعية» بين حاجاته إلى مواد وسلع أولية للإنتاج، وبين ما ينتجه من سلع قابلة للاستهلاك المحلي أو التصدير. وتتم هذه العملية على أساس فترة مرجعية (مثل 2004–2008)، لكن الواقع أن هذه الفترات المرجعية يتم تحديثها بشكل دوري من أجل تضمينها أي تغيّرات جذرية في البنية الاقتصادية.
والواقع، أنه منذ عام 2008 سجّل الاقتصاد في لبنان تغيّرات كثيرة. ففي نهاية 2008 نفسها اندلعت أزمة مالية عالمية انعكست على لبنان في تدفّق هائل وكبير للأموال التي خلقت طفرة مالية - مصرفية استعملها مصرف لبنان لتحفيز الدين. فزادت الدولة استدانتها من المصارف، وزاد مصرف لبنان استدانته من المصارف وزادت مديونية الأسر والشركات للمصارف.
الغرق في الدين لم يكن مجرّد طفرة عابرة، إذ معها تحفّزت أسعار العقارات أيضاً، ما عمّق التشوّهات أكثر بكثير مما كانت عليه. وبالتالي فإن هذه التغيّرات مثلاً، كان يفترض أن تظهر في النسب المعيارية للمدخلات (المواد والسلع والخدمات الأولية) إلى المخرجات (السلع النهائية).
أيضاً في 2011 بدأ النزوح السوري نحو لبنان، ما أحدث تغيّرات أيضاً في ما يصطلح على تسميته «سوق» العمل. فقد كانت هناك خصائص لهذا النزوح مختلفة عن العمالة السورية التقليدية الآتية إلى لبنان، فضلاً عن أن الأعداد كانت ضخمة جداً ووضعت ثقلاً كبيراً على اقتصاد يكاد يكون فيه الإنتاج شبه معدوم، فضلاً عن أن الزيادة السكانية الهائلة، فضلاً عن تهريب السلع إلى سوريا، كان له وزن كبير في طبيعة الإنتاج وكلفة الاستيراد.
من ناحية أخرى، كان دائرة الإحصاء تُسقط سنوياً النسبة التشغيلية للمدخلات إلى المخرجات، وهي النسخة السنوية المُحدَّثة من النسب الهيكلية (المعيارية)، وتُطبَّق عملياً في الحسابات كل سنة باستخدام مؤشرات الإنتاج والأسعار، لتقدير القيمة المضافة والاستهلاك الوسيط بناءً على بيانات حديثة من دون تغيير الهيكل الأساسي. بعد الأزمة استخدمت الإدارة نفس النسب التشغيلية لعام 2019، لأن النسب الجديدة، أي نسب ما بعد الأزمة، أعطت نتائج غير منطقية. هذا القرار أبقى النموذج متوازناً حسابياً لكنه جعله بعيداً من الواقع الاقتصادي، إذ لم يعكس تغيّر سلوك الإنتاج المحلي ولا تأثير ارتفاع الأسعار في الكلفة.
والأمر نفسه ينطبق على استهلاك الأسر. في العادة يُقدّر إنفاق الأسر عبر مسوح ميدانية حول الدخل والإنفاق ومنها تعدّ ميزانية الأسرة التي تسمح بتكوين أوزان لكل بند من بنود الاستهلاك. لكن المسوحات لم تُجرَ منذ زمن، والأوزان التي يستخدمها الإحصاء المركزي في احتساب مؤشر أسعار الاستهلاك لم تُحدّث منذ 2011، بل اعتمدت إدارة الإحصاء المركزي على طريقة الفرق (Residual): الاستهلاك يساوي الناتج المحلي ناقص مجموع الإنفاق الحكومي والاستثمارات وصافي الصادرات. هذه الطريقة تجعل الاستهلاك مجرد رقم لتوازن المعادلة، لكنه لا يعكس فعلياً مستوى معيشة المواطنين. أي خطأ في البنود الأخرى ينتقل مباشرة إلى الاستهلاك، ما يضعف مصداقية التقدير.
غياب منهجية الدخل
في الحسابات القومية يمكن قياس الناتج بثلاث طرق: الإنتاج، الإنفاق، والدخل. في لبنان، لا يمكن تطبيق طريقة الدخل، لأن بيانات الأجور والأرباح غير متوافرة. فكثير من الأجور تُدفع نقداً بالدولار ولا تُسجَّل في الضرائب أو الضمان الاجتماعي. كما توقفت الشركات عن التصريح عن ميزانياتها الحقيقية. هذا الغياب يحرم الحسابات من وسيلة التحقق المتقاطع ويجعل الناتج المحلي غير قابل للتدقيق المستقل. والمنهجية التي استخدمتها الإدارة المركزية للإحصاء خلال الأزمة مكّنتها من الحفاظ على نظام حسابات وطني شكلي، لكنها فقدت الدقة الاقتصادية الحقيقية. الناتج المحلي أصبح أقرب إلى تقدير نظري يعتمد على فرضيات وأسعار غير واقعية. ورغم الجهد المبذول، فإن غياب المسوحات الميدانية واعتماد الأسعار الافتراضية وتغيّر أسعار الصرف يجعل الناتج المحلي أداة تقريبية لا يمكن استخدامها بشكل جدي إلا بحذر شديد.