اوراق مختارة

هل انتصرنا؟

post-img

د. أحمد الشامي/ مجلة بقية الله

هل انتصرنا؟ سؤال يحتلّ مساحة من النقاشات وسط مجتمع المقاومة في إثر انتهاء الأعمال القتاليّة على الجبهة. وقد كشفت تلك النقاشات عن التباسات متعدّدة عن معايير النصر والهزيمة، والتي تسلّلت إلى وعي الكثيرين من بيننا. إذ يبدو أنّ حجم الضخّ الإعلاميّ الذي مارسته جبهة العدوّ، مستفيدة من ضخامة الضربات القاسية والمتوالية التي أصابت جبهة المقاومة، وبما خالف كلّ التوقعات، لا سيّما، في استهداف القيادة وعلى رأسهم سماحة الأمين العام الأقدس، قد أسهم في العبث بالحقائق وتوجيهها بما يخدم هدف العدوّ الأساسيّ، وهو سحق المقاومة عبر سحق الوعي وركيزة الثبات لدى مجتمعها الحاضن.

* بالقيم الإنسانيّة تُكسر الفوارق الماديّة

تؤكّد حقائق هذه الحرب أنّ المقاومة ومجتمعها، على الرغم من هول الخسائر التي أصابتهما، حالا دون تحقيق العدوّ لأهدافه، فلا المقاومة سُحقت ولا مجتمعها أيضًا. وهنا، ما عاد السؤال: هل صمدنا؟ هل انتصرنا؟ بل أصبح السؤال الجوهريّ الذي يجب أن تتمحور حوله النقاشات والكتابات هو: ما الذي أمكننا أن نصمد ثمّ نخرج نحو مدننا والقرى رافعين راية النصر ومهلّلين؟

بداية الإجابة، من أطروحة ثابتة في تفسير الحروب، والتي تقول، بأنّ الجيوش وآلتها القتاليّة ليسا وحدهما من يحقّق الغلبة الحاسمة، ما لم يوظّفا عنفهما في كسر إرادة الخصم، وكيّ وعيه، بما يؤدّي إلى سريان الشكّ داخل نفسه، لجهة العقيدة وحقّانيّة منطلقاته والشعارات والأهداف؛ فانهزام النفس هو المدخليّة الأساسيّة للانهزام في الميدان.

كيف إذا كانت الحرب بين جيش وحركة مقاومة؟ لأنّ ميزان الاقتدار الماديّ يميل في الأغلب إلى مصلحة الجيوش دائمًا. وحين تستطيع المقاومة أن تكسر أهداف عدوّها وتمنعه من أن يملي عليها إرادته، هنا، تبرز القيم الإنسانيّة العليا كفاعل أساسيّ يمكن للمقاومة ومجتمعها من خلاله أن يتغلّبا على الفوارق الماديّة بينهما وبين أعدائهما.

تُعدّ حرب إسناد لبنان للشعب الفلسطينيّ في قطاع غزّة ميدانًا غنيًّا بمشهديّاته لتبيان مستوى صدقيّة دور القيم في تغيير المعادلات الماديّة، والتي بفضلها صنعت المقاومة هذه الملحمة البطوليّة الكبرى، بحيث يجهد العدوّ عبر أدواته للعمل على طمسها وتشويهها، والحيلولة دون تركّزها في الوعي داخل مجتمع المقاومة من جهة، ومنع تسلّلها إلى وعي المجتمع الإسرائيليّ من جهة أخرى. فما هي هذه القيم التي استطاعت التفوّق؟

1. السرعة في النصرة

تمثّلت القيم لدى جبهة المقاومة في لبنان عبر سرعة مبادرتها لنصرة المظلومين في قطاع غزّة، والتي شكّلت صدمة لكثيرين، إذ كان من المتوقّع أن لا تحصل أبدًا هذه النصرة نظرًا لحجم معاناة لبنان، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وقد كشفت بذلك عن تمايز قيميّ بين جبهة المقاومة وجماعات عدّة داخل لبنان وخارجه. فبينما خرجت المقاومة ومجتمعها من هذه الحرب في انسجام كامل مع الذات، عقيدةً وقيمًا ومبادئ، خرج الكثير من حولهم بأزمة أخلاقيّة كبرى، حينما سكتوا عن نصرة المظلوم، وسوف يكون لذلك تداعيات على مستوى النظرة لأنفسهم، وفي محاكمة التاريخ لهم، عوضًا، عن موقفهم الصعب أمام الله.

2. صمود أسطوريّ

إنّ حجم الثبات الأسطوريّ والكربلائيّ الذي قدّمه المقاومون على الجبهات، رغم ما أصابهم من ضربات وحشيّة غير مسبوقة، وفي مقدّمتها تفجيرات "البايجرز" وأجهزة اللاسلكيّ، وصولًا إلى اغتيال القادة وعلى رأسهم شهيد الأمّة السيّد نصر الله، يدلّ على أنّ الشهادة والغيرة والإيثار تجلّت في أبهى صورها، حين التحم بضعة آلاف من المقاومين المكشوفين مع عشرات الآلاف من جنود العدوّ المدجّجين بكلّ ما أنتجه العقل الجهنميّ الغربيّ من أدوات قتل وسيطرة. ومع ذلك، انكشفت الحرب عن عجز سافر لدى جنود العدوّ أفقدهم هالتهم وموقعيّتهم في الوعي الإسرائيليّ.

3. مشهديّة الصبر

إذا كان من مشهديّة تمثّل قيمة الصبر، ستبدو جليّة لدى كلّ عناصر المجتمع المقاوم، بدءًا من عائلات الشهداء، بحيث استحال فقدهم للعزيز إلى فيض من المعنويّات، وكذلك في صبر الجرحى على آلامهم، خصوصًا من فقدوا بصرهم أو أحد أطرافهم. ويمتدّ الصبر إلى عشرات الآلاف من العائلات التي نزحت من بيوتها وقد ضغطت على أوجاعها احتسابًا. وليس آخر الصابرين أولئك الذين تهدّمت أو تضرّرت بيوتهم وأرزاقهم، حتّى عندما عادوا إليها وقفوا على أطلالها رافعين شارات النصر ومطلقين لكلمات كانت أشدّ إيلامًا للعدوّ من الرصاص والصواريخ.

4. التكافل بين أبناء الوطن

كشفت حرب الإسناد عن قيمة إنسانيّة رائعة، فالتكافل الاجتماعيّ بين النازحين المهاجرين وبين الأنصار الحاضنين دلّ كم لهذه القيمة من دور في تقريب المسافات بين الجماعات في لبنان رغم تباينها العقائديّ والثقافيّ. فقد أحبطت هذه القيمة جهودًا بذلها العدوّ وأتباعه لتعميق الشرخ بين اللبنانيّين، لا سيّما نحو مجتمع المقاومة. فالشيعيّ الذي هو الأكثر استهدافًا في هذه الحرب، وجد الاحتضان لدى كثيرين -سنّةً ومسيحيّين ودروزًا- وعلى امتداد مساحات الوطن.

5. التوكّل على الله

جاءت الحرب لتُظهر مدى صدقيّة قيمة التوكّل على الله، التي اعتاد الناس على النطق بها. فواحدة من المشهديّات التي ستُحفر عميقًا في ذاكرة هذه الحرب هي حجم التواصي الكبير بين أفراد مجتمع المقاومة في الاستعانة بالصلوات والأدعية والأعمال العباديّة المتعدّدة، وذلك نصرة للمجاهدين على جبهات القتال، كما لتثبيت قلوب الناس في الجبهة الداخليّة.

* انتظار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

إنّ قيمة الانتظار الإيجابيّ للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف قد أسهمت بشكل فاعل في تدعيم البنية الداخليّة لأفراد مجتمع المقاومة في هذه الحرب. فلولاها، لكان استشهاد سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله شكّل ضربة قاتلة. وإنّ الاعتقاد بأنّ القائد الأساسيّ لهذه المسيرة هو الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، يجعل من افتقاد القادة على عظيم دورهم ومكانتهم، إلى جانب الحجم الكبير لأعداد الشهداء، أمرًا قابلًا للتحمّل دون أن يشكّل أيّ انكسار، فهذه العطاءات الغالية بحسب الوعي السائد سيكون لها تأثيرات إيجابيّة على حركة الظهور الموعود.

حين وعد سماحة الشهيد الأقدس بالنصر دائمًا، إنّما لثقة واعية بهذا المجتمع المقاوم الذي ينتمي إليه، والذي هو أحد أهمّ صانعيه، فهو استطاع طيلة العقود الثلاثة من قيادته لمسيرتهم في لبنان أن يزرع فيهم هذا المستوى العالي من الالتزام العمليّ بهذه القيم السامية والحاكمة لأيّ نصر مطلوب، حتّى أثبت هذا المجتمع كم هو جدير بالأمانة والتحدّي. وما المقولة بأنّ الشهيد المقدّس هو "حيّ فينا"، إلّا تعبير صريح عن بثّ هذه القيم الحياة في مجتمع المقاومة.

هي صورة متكاملة الأجزاء، أسهم كلّ جزء فيها برسم مشهديّة النصر، ماديًّا ومعنويًّا. فهل سيساور أحد أيّ شكّ بتحقّق هذا النصر؟

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد