أوراق ثقافية

الفن حين يعيد إنتاج الهيمنة

post-img

أحمد مفيد/ جريدة الأخبار

استضافت باريس هذا الأسبوع «قمة عمل الذكاء الاصطناعي»، التي جمعت رؤساء دول وحكومات وقادة منظمات دولية ومدراء تنفيذيين لشركات وممثلي الأوساط الأكاديمية ومنظمات غير حكومية وفنانين وأعضاء المجتمع المدني.

اجتمع ممثلون من أكثر من 100 دولة من خمس قارات. وعلى هامش القمة، أقيمت مجموعة من المعارض الفنية التي تحاكي الذكاء الاصطناعي والتفاعل بين الإنسان والآلة.

هذه الأعمال، التي تنوعت بين الفيديو التوليدي والصور المنشأة بالذكاء الاصطناعي والتركيبات الغامرة، حاولت استكشاف إمكانات التكنولوجيا في توليد أشكال وأصوات وصور تعكس المشاعر والتجارب والأفكار الإنسانية. مع ذلك، فإنّها أثارت تساؤلات حول دور الفن في عصر الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في ظل التحديات الأخلاقية والسياسية التي تواجهها البشرية اليوم.

ميلكورفا (فرنسا): «أصداء الأمواج» (2023)

«أصداء الأمواج» عمل فيديو توليدي بالذكاء الاصطناعي يمزج بين التجريد البصري والتسجيلات الحقلية لالتقاط جوهر المناظر الطبيعية الساحلية. ميلكورفا أو نيكولا ميشال، خريج الفنون المعاصرة من «جامعة السوربون»، يستخدم الذكاء الاصطناعي لخلق تجارب غامرة تثير التساؤل حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة.

صوفيا كريسبو (الأرجنتين): «البقاء النقدي» (2021-2022)

عبر شبكات عصبية، تستكشف صوفيا كريسبو كيفية محاكاة البشر للآليات الاصطناعية وتأثيرهم المتبادل في تطور بعضهم البعض. يسلّط عملها الضوء على فكرة أنّ التكنولوجيا ليست ظاهرة محايدة، بل هي نتاج متحيز للبشر الذين أنشؤوها.

تشون هوا كاثرين دونغ (الصين/كندا): «من أجلك سأكون جزيرة» (2024)

يعتمد هذا العمل على ذكريات الطفولة التي تسعى الفنانة إلى إعادة إنتاجها باستخدام الذكاء الاصطناعي، خصوصًا مسقط رأسها الذي دمرته كارثة طبيعية. يثير العمل تساؤلات حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء الذاكرة الفردية والجماعية، ولكنه أيضًا يطرح قضية أخلاقية: هل يمكن للتكنولوجيا أن تعوض عن الخسائر الإنسانية والبيئية؟

هولي هيرندون ومات درايهورست (الولايات المتحدة/المملكة المتحدة): «صور لا نهائية» (2021-2022)

يستكشف هذا العمل قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق التماسك البصري عبر إنشاء صور كبيرة بدقة عالية. هولي هيرندون ومات درايهورست ثنائي فنّي ورائدان في المشاريع البصرية على شكل NFTs، حيث يستخدمان مولدات مثل DALL-E وStable Diffusion. كما أنشآ +Holly وهو نموذج صوتي Deepfake متاح للعامة.

ليندا دنيا ربيز (السنغال/لبنان): «كان يا ما كان حديقة: الجيل الخامس» (2021-2024)

عبر فيديو مُنشأ بالذكاء الاصطناعي، تستكشف ليندا دونيا أرشيفًا تخيّليًا للنباتات المهددة بالانقراض بشكل خطير. دونيا مصمّمة وكاتبة تستكشف التداعيات الفلسفية والبيئية للرأسمالية التقنية. يركز عملها على الخوارزميات، وكيف نراها وكيف ترانا.

أليس غوردون: «السلوك المعرفي» (2023)

يقدم العمل (صور مُنشأة بالذكاء الاصطناعي) لمحة عن تفسير الفنانة للحالة النفسية للبشرية، مستمدة الإلهام من جلسات العلاج النفسي الخاصة بها. بدأت أليس غوردون بالرسم العفوي والتخطيطات، وتزامن ظهور الذكاء الاصطناعي مع بداية مسيرتها الفنية، إذ تعتبر نفسها ماكسيمالية الذكاء الاصطناعي (AI Maximalism)، وتجرب مختلف الأدوات المتاحة. لديها شغف بالحركة السريالية، وتصف أسلوبها بـ«الوحدة السريالية العبثية»، وهو انعكاس لفلسفتها، حيث تلتقط جوهر العزلة والعبثية.

على الرغم من أن الأعمال الفنية المقدمة في قمة الذكاء الاصطناعي استكشفت إمكانات التكنولوجيا في الإبداع، إلا أنها عكست فجوة كبيرة في ‏التعاطي مع الأحداث السياسية والإنسانية الكبرى، مثل حرب الإبادة في قطاع غزة وفلسطين ولبنان والسودان خلال العام.

هذه الفجوة تضيء على التجاهل ‏البنيوي للفن الرقمي في مواجهة القضايا المعاصرة والمحلية مثل قضية جورج إبراهيم عبدلله الأسير اللبناني في السجون الفرنسية، حيث بدت معظم الأعمال منفصلة تمامًا عن الواقع، ومنشغلة بخلق عوالم خيالية ‏وتجريدية تتجاهل الكوارث التي تجري على الأرض.

هذا الصمت ليس مجرد اختيار فردي للفنانين، بل انعكاس لمنظومة أكبر تتحكّم في الفضاءات الثقافية، حيث يتم تفضيل ‏المواضيع المجردة على القضايا السياسية، ما يجعل هذه الأعمال خاضعة لأجندات المؤسسات المنظمة والممولة لهذه القمة.

يمكن فهم الأعمال الفنية المقدمة ضمن سياق الهيمنة الرأسمالية والاستعمارية التي تحكم التكنولوجيا اليوم، إذ تعكس هذه الأعمال واقعًا تتلاشى فيه الحدود بين الإبداع والتسليع، ويتم تحويل الفن إلى منتج رقمي سريع الإنتاج قائم على الخوارزميات التي تمتلكها شركات التكنولوجيا الكبرى.

الفنانون في هذه القمة استخدموا الذكاء الاصطناعي كوسيلة «إبداعية»، لكن دون مساءلة حقيقية للبنية الاقتصادية التي تحكم هذه الأدوات. إلى جانب ذلك، فإن البنية الاستعمارية للذكاء الاصطناعي واضحة عبر انحياز الخوارزميات والمصادر التي يتم تدريبها عليها، حيث تهيمن الرؤية الغربية على الجماليات والسرديات البصرية.

في هذا السياق، بدت غالبية الأعمال المقدمة في القمة كاحتفاء بالذكاء الاصطناعي بصفته أداةً محايدة، متجاهلة الأسئلة الجوهرية حول من يملك هذه التكنولوجيا ومن يسيطر على إنتاجها. وبدلًا من استغلال الذكاء الاصطناعي لكشف العلاقات السلطوية التي تحكمه، استُخدم لتوليد عوالم خيالية أو تجريدية لا تخرج عن منطق الفن المعزول عن السياق السياسي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد