حسن نعيم/ كاتب وصحفي لبناني
بعيدًا عن المراسم الرسمية، ومئات الوفود الرسمية وغيرها التي غصت بها قاعات مطار رفيق الحريري الدولي، والتي جاءت من العراق واليمن والعالم العربي وأوروبا وأفريقيا ومن أطراف الأرض للمشاركة في التشييع الكبير للأمينين الكبيرين سماحة السيد حسن نصر الله وسماحة السيد هاشم صفي الدين، تستوقفنا مشاهد وصور حية على ضفاف هذه اللحظة التاريخية ومن هذا اليوم التاريخي.
منذ صباح اليوم الفائت بدأت مواكب التشييع تتقاطر إلى بيروت متجاوزة الطرقات الجبلية المقفلة بسبب تراكم الثلوج على الرغم من تدني درجات الحرارة تحت الصفرفي المناطق الجبلية. هذه العواصف والثلوج لم تثن الزحف القادم إلى بيروت؛ إنما كانت حافزاً للمزيد من الحماس والاستعداد..
في المدينة الرياضية؛ كان المشهد محزنا ومفرحا في آن .. مشهد يبعث على الفخر والاعتزاز من ليس لديهم مأوى في العاصمة، نزلوا ضيوفا عند أقاربهم وذويهم ونام بعضهم في المساجد والحسينيات، والبعض بقوا في سياراتهم حتى بزغت الشمس وطلع الصباح..
تمشي بين المشيعين؛ تسأل أحدهم ألم تثنكم الأحوال الجوية عن المشاركة في التشييع؟ ، فيجيب ضاحكا: " الله يبعث الخير... لقد حمل هذا التشييع البركة والخير الوفير للأرض وحمانا من الجفاف وعوض نقص المتساقطات الصحيحة هذا العام"..
أسندت رأسي على ذراعي؛ ورحت أتأمل التشييع المليوني المهيب الذي يفوق حدود التوقع، تتلاطم أمواجه البشرية حول المدينة الرياضية شباب ونساء وأطفال رضع وعجائز عيون باكية، هذه عجوز مقوسة الظهر جاءت لترى نعش السيد، وتتيقن من أنه فارق الحياة، وتلك صبية تهالكت من دموع الشغف المتأجج، وذاك مسن كبير يحبس دموعه، ويعاند شيخوخته راكضا خلف النعشين حتى تكاد تنقطع أنفاسه..
تمر أمامك وفود من طهران وبغداد وصنعاء.... وكلها جاءت إلى بيروت لتمسح العث المعشش في زوايا القصور المعتمة وفي صدور الحكام الظلمة.
تود لو أنك تشرب كل المشهد بكل تفاصيله بجثمانيه السابحين على أكف المشيعيين، بحشوده وسواده وأعلامه الصفراء . تحلق الطائرات السوداء اللئيمة في السماء فتستعيد لحظة استهداف السيد حسن والسيد هاشم والناس والغارات والشهداء الجرحى والتهجير والتدمير. إنها مقاومة شعب عصي على الإخضاع والإذلال ، شعب وفيٌ لمسيرته المقاومة ولقائده الرمز الذي بدأ كتابة تاريخ جديد في كتاب الأمة ووضع " زر ورد في كأس أشعل شمعة الأمة إلى الأبد "
تصل المسيرة المليونية إلى طريق المطار ، إلى المرقد الأخير يحين الوداع، أطبقت جفني على مشهد الجثمان يتوارى تحت التراب كالشمس وهي تتهادى مائلة نحو الغياب.
لملمت أفكاري وأوراقي.. وفي خاطري أن هذا التشييع الكبير كان أشبه بصلاة ترفع وابتهال . إبتهال إليك يا رب الأرباب كي ترأف بالمستضعفين وترحمهم وتنتقم لهم من عدوك عدوهم .
يبقى لي أمنية أخرى لو سمحت أيها السيد : أن تبتسم لهذه الجموع ابتسامتك الشهيرة. إبتسم لهذه الأمة كي لا تموت، إبتسم فكل جبروتهم تحت قدميك، ونم قرير العين فنحن على العهد والوعد وعندما يهبط الليل والكرب نلوذ بقبتك السماوية، بقضبان القفص ، ومما لا شك فيه عندنا أنك أيها الفارس الشجاع ستمد لنا من تحت الضريح يدك البنفسجية ، سيفا رعدا يثأر لكل قرون القهر الغابرة.