اوراق مختارة

رسالة داخل قارورة القدس

post-img

ثائر أبو عياش/كاتب فلسطيني

في أحد أزقة القدس القديمة، حيث يمتزج عبق التاريخ بآلام الحاضر، حيث ترسم الجدران خطوطًا من الذاكرة، وتُسَجّل الأرصفة خطوات الأبطال، تم إرسال رسالة من قلب فلسطين إلى قلب المقاومة، إلى قائد جعل من العزيمة رمزًا للحرية والكرامة. رسالة غير عادية، لا تحمل كلمات مجردة، ولا تحمل حروفًا صماء، بل هي رسالة مليئة بالشرف، تحمل معها تراب القدس، أرض الشهداء، عاصمة العزة والفخر، حيث كل ذرة تراب تروي قصة دماءٍ سالت، وأرواحٍ صعدت، وقلوبٍ تمسكت بالأمل رغم العواصف.

هذه القارورة، التي قد يظن البعض أنها مجرد وعاء صغير من التراب، هي في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير. هي رمز لصمود الشعب الفلسطيني، هي مرآة تعكس عزيمتهم وصلابتهم. هي رسالة تحمل كل معاني الوفاء والتقدير، وترتدي ثوب الحزن والفرح في آنٍ واحد. حزن على الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداءً للأرض، وفرح على الأمل الذي لا يغيب عن قلب كل فلسطيني.

هذه القارورة هي أكثر من مجرد هدية، هي قسمٌ مقدس أرسلته عائلة فلسطينية من القدس إليك، سيد نصر الله، لتكون جزءًا منك. لتكون رفيقك، أينما كنت، ومهما كان الزمان. هذا التراب ليس ترابًا عاديًا، بل هو دماء الشهداء التي امتزجت مع كل حجر وكل نبتة في تلك الأرض الطاهرة. عندما تمسك بهذه القارورة، تذكر أن كل حبة من هذا التراب تحكي قصة، وتردد صدى اسم شهيد، وتغني لحنًا من نضال الشعب الفلسطيني الذي لا ينكسر ولا يساوم.

قد يتساءل البعض: كيف لقارورة صغيرة أن تحمل هذا الكم من المعاني؟ كيف للتراب أن يكون رسالة؟ وهل يمكن أن تكتب الكلمات بكل هذا التأثير على الأرض نفسها؟ في الحقيقة، إن هذه القارورة تُمثل فلسفة عميقة، فلسفة تقوم على أن الأرض ليست مجرد مادة جامدة، بل هي روح نابضة، روح تردد أصداء الأفعال والأفكار. الأرض، في النهاية، ليست مكانًا نعيش عليه فقط، بل هي ذاكرة نكتبها بدمائنا وأحلامنا. وكلما زُرعنا في أرضنا أملًا، وكلما غرَسنا في تربتها إرادةً، كانت تلك الأرض أكثر قدرة على البقاء، وأكثر استعصاء على الموت.

عندما نمسك بتلك القارورة، نجد أن التراب ليس مجرد جزء من الأرض، بل هو امتداد لنا. هو قطعة من الروح التي لم تضعف ولم تنهزم. فكل حبة تراب في هذه القارورة هي شهادة على أن الأرض لا تنسى، وأن فلسطين، كما في قلبك، ستبقى دائمًا حية. الحروب تأتي وتذهب، وقد يظن البعض أن الزمان قد ينسينا، ولكن تراب القدس، مهما مر عليه الزمن، سيظل ينبض بالأمل. يظل حاملًا في داخله عينًا لم تُغلق، ورؤيا لم تتحقق بعد، ورسالة لم تُكتب بعد.

السيد نصرالله، في هذه اللحظة، ونحن نرسل إليك هذا التراب، نحن نرسل إليك معه كل ما لا يمكن وصفه بالكلمات، ونحن نعلم أن هذه القارورة، رغم بساطتها، هي أفضل وسيلة لتخاطب بها القدس. إنها الرسالة التي ستظل تلاحقك وترافقك في معركة الحرية والمقاومة. هي صرخة في وجه الظلم، وفي وجه كل من يظن أن الاحتلال قد يزاحمنا في الأرض التي هي لنا. نحن نعلم أن تلك القارورة لن تجد قلبًا يقدرها ويعزز من مكانتها أكثر منك. فكما نُحب القدس، نعلم أن حبك لها هو حب لا يخبو أبدًا.

لعل هذه القارورة تكون تجسيدًا لمعنى عميق، وهو أن النضال ليس فقط في الميدان، بل هو أيضًا في القلوب والعقول، في المشاعر والذكريات. فالأبطال لا يُخلدون فقط في الكتب والملاحم التاريخية، بل هم يُخلدون أيضًا في الحجارة، في الأرض التي وقفوا عليها، وفي الهواء الذي تنفسوه. الشهيد لا يموت، كما تعلمنا من شهداء فلسطين، بل يبقى حيًا في الذاكرة، وفي الأرض التي دائمًا ما سطر فيها حلمه، وفي كل حبة تراب كانت تحت قدميه.

نرسل إليك، يا سيدنا، هذه القارورة التي هي أكثر من مجرد تراب. إنها فلسفة الحياة نفسها، فلسفة الأرض التي تُقاوم، ولا تستسلم، ولا تفقد الأمل. إنه روح القدس التي لا تقبل أن تُطوى أو تُنسى. فكلما نظرت إلى القارورة، تذكر أن نضالنا مستمر، وأننا سنظل معك، ومع كل من يسير على هذا الدرب. إنها رسالة من القدس، التي تقول لك: لا تخشَ، فكل خطوة تخطوها هي خطوة نحو الحرية. وكل نقطة دم تسيل هي نقطة في بحر من الأمل الذي لن يجف.

أيها السيد نصرالله، القارورة التي بين يديك ليست مجرد هدية، بل هي إعلان عن وحدة الأمل، وحدة المصير، ووحدة النضال. لأن القدس، كما تعلم، ليست مجرد مدينة، إنها حلمٌ حيّ، وروحٌ لا تموت، ونضالٌ مستمر. وهذه القارورة هي وعدنا لك، بأننا في كل مكان، نقف معك، وبأن القدس ستبقى في قلبك، وفي قلب كل الأحرار، إلى أن نرى النصر.

مع غروب الشمس، تنسحب الظلال على الأرض التي لا تنام، ومع غروب كل يوم، تزداد العزيمة قوةً في القلوب الثائرة. ربما تبدو كلمات وداعك بسيطة، ولكن كل كلمة تحمل وراءها آلافًا من الوعود والأحلام. تصبح على خير، يا سيد النصر، في عيوننا، أنت الأمل الذي لا يغرب، والحرية التي لا تُختطف. تصبح على خير، وإن غابت جسدك عن بعض الأراضي، فإن روحك تظل أبدية، تحيا في القدس، وفي كل نفس حر يرفض الاستسلام. تصبح على خير، ونحن على يقين أن الليل لن يطول، وأن النصر آتٍ مع فجر جديد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد