اوراق خاصة

في الحرب.. ديناميّات وخيارات 

post-img

 د.عبدالله عيسى/ كاتب وباحث لبناني

خاص موقع "أوراق"

تبقى الحروب نقطة تغيير شديدة الديناميّة للجماعات والمجتمعات والأمم، وذات انعكاس قوي على الأفراد في قناعاتهم وخياراتهم وبنيتهم الفكرية والنفسية والجسديّة والعملية، وهي تتناسب طردًا مع ما أفضت إليه، بحسب تلقي المستجيب لها سواء كان منخرطًا فيها بنحو من الأنحاء أو شملته بإكراهها وآثارها.

  تتفاعل ديناميّات الحروب المؤثّرة في كافة مراحلها من مقدّماتها إلى تداعياتها وما بينهما، سواء أدّت إلى الصمود وإفشال أبرز أهداف العدو، أم انتهت إلى الانتصار الساحق أو الانتصار الموضعيّ المحدود والمحدّد لطرف من الأطراف أو أحد جبهتيّ الصراع.

هذا يعني أن الجبهة المقابلة أخفقت في أحد أشكال ثلاثة، أنها شهدت انكسارًا وهزيمةً مطلقةً أو جزئيّةً، سواء في: حالة القضاء عليها، أم جرى إخضاعها لعدوّها، أم أضعفت إلى درجة لا قيام لها بعدها بحسب المديات الزمنيّة القريبة أو المتوسّطة أو البعيدة.

تستدعي كلّ حرب أحداثًا ومخططات وتقدير موقف في حالي الفعل أو ردّ الفعل، وتحيط بها عوامل وظروف ظاهرة وكامنة وسرديّات معلنة ومضمرة، من أجل تثبيت قواعد قائمة، أو الخروج عن قواعد سابقة وصناعة أخرى جديدة؛ وفي نهاية المطاف يجري الانتقال إلى معادلات وحقائق وموازين قوى من إفرازاتها.

قد تقود الحرب، على الرغم من الدمار ومآسيها وأهوالها، إلى التحوّل الشامل والانعطاف المؤثّر، عندما تأتي نتائجها ضمن حدّي الانتصار بأحد نوعيه أو الصمود وإفشال أبرز أهداف العدو. إذ بإمكانها أن تحفّز لسدّ الحاجات وإبداع الحلول والمسارعة إلى أفق واقعيّ جديد يجيب عن التحدّيات ويستشرف تطوّراتها، ويعالج الثغرات بالتنبّه إلى مناشئها ومسالكها ومساربها وعوارضها. وتاليًا قد تنزع نحو التقدّم والارتقاء في تجنيد الطاقات واستثمار فاعليّتها القصوى ضمن اجتماع إنسانيّ أثبت جدارته في الصمود والثبات على مبادئه والارتباط الوثيق بقيادته والوفاء لتضحيات حماته الفعليّين، وصيانته لمكتسباته وأوضاعه وتاريخه النضالي وسجل انتصاراته.

يجدر التأكيد أن كلّ ذلك يبقى معلّقًا على القيادة الاستنهاضيّة الواثقة؛ فلا تركن إلى قيود الواقع؛ بل يظلّ الطموح الواقعيّ رائدها نحو الأسمى ربطًا بأهدافها، وإدراكًا منها أن عدوّها ومن يقف وراءه سيستمر، ما لم يُقضَ عليه قضاءً مبرمًا، في تفعيل جبهاته الممكنة كافّة في ميادين ومستويات ومراحل مختلفة لبلوغ أهدافه.

 تسلك تلك القيادة طريقها وفقًا لخارطتها المرسومة بعناية، بمعيّة جهاز إداريّ نزيه وكفؤ وثوريّ ذي همم مضاعفة يتناسب وترميم ما تركته الحرب من ندوب أو آثار مهما عظمت، وتستعد للآتي القريب والمتوسّط والبعيد..إذ إنّ الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار؛ ولا تقتصر على الجوانب الأمنيّة والعسكريّة؛ وهي سجالٌ مستمر إلا في حال القضاء المبرم على الطرف المقابل بصورة نهائيّة.

تسابق تلك القيادة الزمن بتوزيعه الملائم للرؤية الجديدة التي صاغتها بمقتضى اشتمالها للمتغيّرات والتغيّرات العميقة وتعيد إنتاج السيناريوهات بناءً على استخلاص العبر والمراكمة على الاقتدار واستكمال بث الأمل الصادق والمسؤول، وبموجب مواكبة التحدّيات والمستجدّات من الوقائع والأحداث، ومع الحرص على سبق العدو بخطوة ولو في الدفاع أو المناورة أو استيلاد أطر جديدة وتمتين أو نسج تحالفات في الميادين والمستويات كافة؛ والنظر إلى مدارات الحرب بإطارها الأكبر والمتوسّط من دون الاحتباس ضمن إطار سابق وجمود قاتل والاكتفاء بإشغلات ما بعدها من المعالجات.

كما لا يجوز للقائد أن ينكفئ في رؤيته إلى المستوى المحليّ الصرف، ما دامت التحوّلات المتزامنة جارية في البعدين الإقليميّ والعالميّ، ويقود بحكمته وشجاعته وضمن الاستطاعة كل عمليّات توفير المزيد من القدرة ومستلزماتها اللازمة في الصعد كافة.

في هذه الحال من التزامن ومن التفاعل البنيويّ والعضويّ والوظيفيّ للتحوّلات الدوليّة والإقليميّة والمحليّة؛ يصبح المدخل الطبيعيّ لصيانة المصلحة الوطنيّة هو باعتماد استراتيجيّة صيانة الأمن القوميّ أولًا؛ وترتيب الأرضيّة الوطنية ما أمكن لذلك؛ لا العكس، أي بتقديم الخصوصيّة الوطنيّة والانغلاق عليها على حساب الأمن القوميّ؛ فالخيار الأخير لا يدرأ خطرًا، ولا يجلب مصلحة إلا بالوهم، بل يزيد في الارتكاس والانتكاس والوهن.

إن هذه المقاربة المكثّفة أعلاه، تُشكّل تمهيدًا لقراءات تطبيقيّة، وهو ما يصلح مدخلًا تأسيسيًّا مكثّفا لمطالعة مختصرة في توصيف الحرب الأخيرة، ولا سيّما معركة "أولي البأس" وتحليلها من حيث النتائج والديناميّات والخيارات.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد