نور محمود (جريدة الأخبار)
على الحدود الجنوبية، لطالما شكّلت بلدة ميس الجبل قلب الاقتصاد في الشريط الحدودي، حيث احتضنت السوق المركزية الأكبر للمفروشات والتجارة، والتي كان المموّل الرئيسي لمختلف المناطق اللبنانية، من طرابلس إلى بيروت والنبطية وصولاً إلى الشرقية. لكن هذا الشريان الحيوي لم ينجُ من العدوان الإسرائيلي الأخير، الذي طالت نيرانه البنى التحتية والتجارية، مخلّفًا دمارًا شاملاً أدى إلى شلّ الحركة الاقتصادية والتجارية بالكامل. ومع غياب أي دور فعّال للدولة في إعادة الإعمار أو التعويض، يعيش التجار والمواطنون أزمة خانقة تضع مستقبل المنطقة على المحك.
ميس الجبل.. مركز تجاري بامتياز
«لم تكن ميس الجبل مجرد بلدة تضم محالّ تجارية عادية، بل كانت مركزًا تجاريًا ضخمًا احتضن معامل ومؤسسات اقتصادية بمساحات كبيرة، كان أصغرها مؤلفًا من ثلاث طبقات، ما جعلها واحدة من أبرز المحطات التجارية في لبنان»، يقول رئيس بلدية ميس الجبل عبد المنعم شقير لـ«الأخبار» موضحاً أن «البلدة كانت تستقطب الزبائن من مختلف المناطق، خصوصًا في قطاع المفروشات والأدوات المنزلية، حيث برزت كمموّلٍ أساسي لأسواق المدن الكبرى والبلدات المجاورة».
غير أن هذا المشهد المزدهر لم يدم طويلًا، إذ جاء العدوان الإسرائيلي ليقضي على هذه الحركة التجارية النابضة بالحياة، حيث دُمّرت الأسواق بالكامل، وخسر التجار متاجرهم ومعاملهم وبضائعهم، بينما بقيت الدولة غائبة عن أي خطط جدية لإعادة إنعاش هذا القطاع.
خسائر بملايين الدولارات
تعكس الأرقام حجم الكارثة الاقتصادية التي حلّت بالبلدة. إذ يقول شقير إن الحركة التجارية في ميس الجبل كانت تدرّ مئات ملايين الدولارات سنوياً، مضيفاً أن «كلفة كل مبنى تجاري كانت تُقدّر بحوالي مليون دولار تقريباً، ما يجعل الخسائر ضخمة وغير مسبوقة، هذا فضلاً عن تضرر مبنى البلدية وممتلكاتها وسياراتها الخاصة».
وفي هذا الإطار، أكد حسين حمدان، وهو صاحب «مفروشات السعادة» في ميس الجبل، خلال حديثه مع «الأخبار»، أن خسائرهم تجاوزت 4 ملايين دولار، إذ دُمّرت صالتا عرض كبيرتان، تبلغ مساحة كل طبقة منهما حوالي ألفي متر، ما أدى إلى فقدانهم كميات هائلة من البضائع والمعدات وخسائر الزبائن وحتى الموظفين. ومع ذلك، افتتحوا صالة عرض جديدة في بئر السلاسل جنوبي لبنان، في محاولة منهم للاستمرار، بانتظار أن تتحرك الدولة لمساعدتهم وتأمين عودتهم بشكل آمن.
أما محمد حمدان، الذي يمتلك منجرة في ميس الجبل، فكشف لـ«الأخبار» أنه يخطط للعودة إلى العمل بعد شهر رمضان المبارك، حيث بقيت منجرته صامدة بوجه العدوان، إلا أن معداته وما فيها من بضائع تُلِفَت بالكامل، حيث قُدّرت خسائره بنحو 15 ألف دولار. ورغم الظروف الصعبة، فإن قراره بالعودة لم يكن اقتصادياً فحسب، بل تمسّكٌ بأرضه وإصرارٌ على البقاء. «أنا ابن ميس، بميس كبرنا الشغل، وبميس منرجع منكبروا مرة تانية».
غياب الدولة.. بين الإهمال ووهم السيادة
وعلى الرغم من هذه الخسائر الجسيمة، لا تزال الدولة عاجزة عن تقديم أي حلول ملموسة. فحتى اللحظة، لم يحصل التجار على تعويضات، ولم تُوضع أي خطط عملية لإعادة الإعمار، بل على العكس، يواجه الأهالي عقبات إضافية تتمثل في محاضر الضبط ومخالفات البناء، وكأنهم يُعاقَبون مرتين: مرة بسبب العدوان، ومرة بسبب إهمال دولتهم لهم.
وما يزيد الواقع مرارةً التناقضُ الصارخ بين الشعارات والسياسات التنفيذية، فبينما ترفع الدولة راية «السيادة الوطنية»، تُهمل المناطق الحدودية والجنوبية التي تعاني من فراغ سيادي واقتصادي قاتل. والمفارقة أن هذه القرى التي عانت من الاعتداءات الإسرائيلية هي نفسها التي اعتمد عليها الاقتصاد اللبناني، إذ كانت أسواقها تغذي التجار في القرى الحدودية المجاورة وبيروت وصولاً إلى الشمال والكثير من المناطق، ما يجعل أي تراجع اقتصادي فيها أزمة وطنية تطال الجميع.
المقاومة تحمي الأرض.. لكن من يبني الحجر؟
وفي ظل هذا الواقع، يجد أبناء ميس الجبل أنفسهم أمام سؤال جوهري: هل الدولة ستتحرك بقرارات تنفيذية من أجلهم؟ فالمقاومة استطاعت أن تحمي الأرض وتمنع الاحتلال من التوسع والاستيطان، ولكن من يعيد إعمار الأسواق والمنازل؟ ومن يعوض هؤلاء التجار عن خسائرهم الفادحة ليُعيد الحياة إلى هذا الشريان الاقتصادي الحيوي كسابق عهده؟
وبينما تتحدث الحكومة عن خططها المستقبلية وتكرّر خطاب القسم الذي تعهّدت فيه بالعمل على إحياء المناطق المنكوبة، يبقى الواقع كما هو: وعود بلا تنفيذ، ومناطق حدودية تُركت لمصيرها دون أي رؤية اقتصادية واضحة. فهل سنشهد تحركاً جدياً يضع حدًا لهذا الإهمال؟ أم أن الجنوب سيبقى أسير الشعارات، بلا حلول، ولا تعويض، ولا حتى بصيص أمل بالعودة؟