اوراق مختارة

معتزّ... «باع أرضه»؟

post-img

نزار نصر/ جريدة الأخبار

يعتقد بعضهم أنّ إسقاط الاتّهامات على شخص معيّن ليس مجديًا، وأنّه من الأفضل التركيز على القضية العامّة وخطوطها العريضة وتجاهل المشوّشين.

هو خيار منطقي، غير أنّه لا ينطبق دائمًا على عالم اليوم الذي يدور حول منصّات التواصل الاجتماعي، إذ يمكن لشخص واحد أن يتمتّع بقوّة تأثير تفوق ما لأحزاب سياسية مجتمعة.

هذه هي حال المصوّر الصحافي الفلسطيني معتزّ عزايزة الذي يتعرّض اليوم للهجوم بسبب أخبار عن حصوله على الجنسية البريطانية ومشاركته في إعلان يدعو إلى حمل جواز سفر ثانٍ، ما اعتُبر مشاركة في خطّة تهجير الفلسطينيّين المطروحة اليوم أميركيًا.

لكنّ الهجوم الذي يتعرّض له الصحافي المثير للجدل لم يأتِ من العدم، إذ سبقته أخطاء وارتكابات بالجملة أودت به إلى ما هو عليه اليوم. علمًا أنّه لا يزال يتمتّع بعدد هائل من المتابعين والمؤيّدين، لكنّ النسبة الأكبر منهم من غير الفلسطينيّين وغير العرب الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية من دون اطّلاع على التفاصيل الصغيرة.

المصوّر العشريني قام بجهد كبير في تصوير آثار الإبادة الجماعية في غزّة، ولا سيّما بعد عملية «طوفان الأقصى»، وكان من ضمن جيش الصحافيّين الغزّاويّين الذين فتّحوا أعين سكّان المعمورة حول فلسطين بنقلهم صور المجازر عبر مواقع التواصل، مشكّلين سابقةً من حيث استغلال هذه المواقع لإيصال صوتهم بعيدًا من تعتيم وسائل الإعلام التقليدية، ولو أنّ ذلك لم يثمر سياسيًّا في إيقاف الإبادة.

سرعان ما خيّب عزايزة آمال مؤيّدي القضية الفلسطينية بعد تعمّده أخذ شهادات من أشخاص في غزّة يلقون بمسؤولية الإبادة على المقاومة الفلسطينية، وضخّم الموضوع تمامًا كما فعل الإعلام الخليجي، رغم أنّ هؤلاء كانوا أقلّية.

كما أنّه من غير المستغرب أن يصل شخص إلى هذه المرحلة في ظلّ ما تعرّض إليه أهالي قطاع غزّة، فيرى أنّ الوضع قبل «طوفان الأقصى» كان على ما يرام، لكنّ ذلك لا يلغي الحصار والارتكابات الإسرائيلية التي كانت مستمرّة منذ عقود وحتّى قبل «الطوفان»، بعكس ما أراد عزايزة الإيحاء به كما قال منتقدوه.

علمًا أنّه كان ينفض يده من هذا الاتّهام تحت ذريعة أنّ هذا رأي الشارع. المرّة الثانية التي خيّب فيها الآمال لم تحمل ما يستدعي لومه عليه، إذ إنّ جلّ ما فعله في حينه كان مغادرة قطاع غزّة، في بداية العام المنصرم، هربًا من الإبادة والمجازر الصهيونية ونسف كلّ مقوّمات الحياة.

لكنّ المغادرة على متن طائرة عسكرية قطرية معطوفة على الخيبة الأولى، إضافة إلى «طوفات» ما بعد المغادرة، جعلت المعترضين يأخذون عليه تركَه أهلَه وناسَه «وحيدين» من دون فضح المجازر، كما تنقّله بين دول مختلفة على رأسها قطر وقبوله جوائز لعمله، ولو أنّه أبدى عدم إمكان فرحه في ظلّ استمرار الإبادة.

احتدم النقاش أكثر بعد نشر الصحافي تغريدة في آذار (مارس) من العام الماضي، قرّع فيها «مَن يديرون الأذن الطرشاء لمعاناة ناسهم»، ما قُرئ على أنّه موجّه إلى المقاومة الفلسطينية، ولا سيّما «حماس» التي دائمًا ما عارضها؛ وفيما رأى بعضهم الموضوع مفيدًا من حيث عدم استثناء النقد أحدًا، كما من حيث محاربة السردية الإسرائيلية التي تصوّر «حماس» على أنّها «ديكتاتورية»، إلّا أنّه عُيّر بتوقيت تغريدة من هذا النوع في خضمّ الإبادة وتصدّي المقاومين الفلسطينيّين للاحتلال.

مع أنّه عاد وادّعى أنّه كان يتكلّم عن تجّار الأزمات، إلّا أنّ المعترضين كانوا سبقوه بخطوة، فأبرزوا علاقاته مع السلطة الفلسطينية وبالتحديد رئيسها محمود عبّاس، ناشرين صورًا لعزايزة وهو يلتقي «أبو مازن» ويثني عليه في منشورات له.

لم تعد بعد ذلك مستغربةً رؤية عزايزة ينشر تغريدات تثني على السلطة الفلسطينية وتعتبرها الممثّل الشرعي الوحيد للفلسطينيّين رغم كلّ ارتكاباتها بحقّهم إلى حدّ نيلها لقب «الاحتلال الثاني»، مقابل تغريدات أخرى تلقي باللوم على «حماس» وتتّهمها باستخدام الأطفال دروعًا بشرية، في تماهٍ تامّ مع السردية الصهيونية.

وصل إلى حدّ وضع الإعجاب على تغريدات تصف الشيعة بأنّهم «روافض» وتستهزئ بالشهداء اللبنانيّين، وهو ما عرّضه للمزيد من الانتقاد والتراجع في الشعبية.

يمكن ملاحظة ذلك على انستغرام أيضًا، إذ كان في وقت من الأوقات قد وصل إلى قرابة عشرين مليون متابع هناك. أمّا الآن، فقد انخفض الرقم إلى أقلّ من 17 مليونًا. هذا يعني أنّ عدد مَن ألغوا المتابعة كبير جدًّا، إذا ما أخذنا في الحسبان الفارق المتمثّل في المتابعين الجدد الذين لا يعرفون «أخطائه».

يردّ الصحافي على الاعتراضات بأنّه حرّ ولن يبدّل من آرائه ولن يسكت عن أيّ «ظلم» إرضاءً للجمهور. هذا حقّه، لكن من حقّ الجمهور الاعتراض كذلك، خصوصًا أنّه يسكت عن ظلم السلطة الفلسطينية ويتماهى مع سرديّات تبرّر ظلم العدوّ. من هنا، كان الإعلان الذي ظهر فيه أخيرًا بمنزلة القشّة التي قصمت ظهر البعير، فأتى ردّ الجمهور كأنّه يقول إنّ الكيل قد طفح.

هكذا، روّج لشركة التجنيس Multicitizenships ومقرّها الولايات المتّحدة وتوسّع عملها في الدول العربية حاليًا، فظهرت إعلاناتها على صفحات الناشطين في عدد من الدول العربية، بحيث يقف عزايزة مبتسمًا ويرفع جواز سفر بيده.

في أحد الإعلانات، وُضعت أمام الصورة جملة «جواز السفر الثاني ينهيلك جزء من معاناتك انت كمان»، إضافة إلى نصّ رافق المنشور، من مضمونه: «معتزّ عزايزة... قصّة نجاح مع جواز السفر الكاريبي! حياته تغيّرت بالكامل بعد حصوله على الجواز الكاريبي. الآن يمكنك أن تكون مكانه!».

إذا لم يكن واضحًا ما إذا كان الإعلان موجّهًا إلى الفلسطينيّين، فقد نشرت الشركة أيضًا ضمن حملتها مقطعًا يمتدّ لخمس دقائق، يظهر فيه عزايزة في «مقابلة» خاصّة، تبدأ بروايته معاناته ومعاناة الفلسطينيّين في غزّة، قبل أن تنتقل إلى الترويج للشركة وجواز السفر الثاني تحت عنوان فتح المجالات أمامهم، وتأكيد عزايزة على احتفاظه بالجنسية الفلسطينية.

الحملة الإعلانية كانت قد أُطلقت في أواخر السنة الماضية، قبل تجديدها اليوم. وبحسب متابعين، فقد نال الصحافي الفلسطيني الجنسية البريطانية، وهو ما شكّل صدمةً لكثر، في حين برّر بعضهم الأمر بإمكان وجود ظروف ودوافع معيّنة لا يعرف عنها الناس. في المقابل، كانت هناك توضيحات بأنّ كون الشخص فلسطينيًّا أو عايش المجازر في غزّة، فذلك لا يعني أنّه معفى من الخطأ، ولا يجب التطبيع مع أفكار مضرّة للفلسطينيّين لمجرّد أنّ أحدهم روّج لها، فهم شعب يحمل آراءً متشعّبة.

هكذا، لم يكن أمام الجمهور إلّا أن يربط بين باع عزايزة الطويل في «الأخطاء»، وخطط التهجير التي يطرحها كيان الاحتلال والولايات المتّحدة، ولو ادّعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب التراجع عنها. فلا يمكن الوثوق بأيّ شيء يقوله الأميركيّون، وبالتحديد في ما يخصّ فلسطين. الإبادة مستمرّة، والاحتلال تراجع عن تعهّداته، فعاد إلى ارتكاب المجازر التي يشتهيها.

لكنّ الفلسطينيّين سيقفون حجر عثرة أمام هذه المطامع كما يفعلون منذ سنين، ولن يؤثّر فيهم تواطؤ محتمل من بعض مَن هم «منهم وفيهم»، وما أكثرهم؛ فقد ارتأوا مواجهة إعلان عزايزة بكلمات أغنية «بهنّيك» لزياد الرحباني: «أنا والله فكري هنّيك، يعني وهنّي أهلك فيك، ع النظافة بالمواقف، ع المواقف بالسياسة، وعلى كلّ شي اسمه تكتيك».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد