أوراق ثقافية

السؤال يعود إلى الشاشة الكبيرة: مَن اغتال جون كينيدي؟

post-img

شفيق طبارة/جريدة الأخبار

بعدما أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالإفراج عن آلاف الوثائق المتعلقة بالتحقيق في اغتيال الرئيس السابق جون إف. كينيدي، هل سيؤدي ذلك إلى إنتاج أفلام جديدة؟

أحد الأحداث التاريخية التي يمكن أن تصوّر التاريخ السياسي والاجتماعي للقرن العشرين هو، بلا شك، اغتيال جون فيتزجيرالد كينيدي في مدينة دالاس في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. رحلة السيارة، الاغتيال، والتحقيقات اللاحقة، والعواقب الناجمة عن الاغتيال، والتحقيقات، والمتهم الوحيد، صدمت المجتمع الأميركي وبقية العالم.

«بفضل» الاغتيال، نشأت ردود أفعال أثارت سلسلة كاملةً من التغييرات في أميركا التي كانت تعيش أزمنةً مفصلية على المستوى الثقافي والاجتماعي والفكري بدءًا من حركة الحقوق المدنية للسود مع مالكوم أكس ومارتن لوثر كينغ، وصولًا إلى ثقافة البوب مع آندي وارهول، وهوليوود الجديدة (كاسافيتيس، كوبولا، سبيلبيرغ، دي بالما، سكورسيزي...)، مرورًا بتأثير جيل الـ Beat في الأدب.

في السينما، قُدمت لنا فيلموغرافيا واسعة لهذا الرجل الذي اغتيل بعد أقل من ثلاث سنوات من ولايته الأولى رئيسًا للولايات المتحدة، سواء من منظور سياسي، أو شخصي أو وثائقي، أو سيَري: خدمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية، وصعوده السريع وخطواته الأولى بصفة سيناتور في ولاية ماساتشوستس، وانتصاره على المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون في العام 1960، ومدة ولايته (أزمة الصواريخ الكوبية والاتحاد السوفياتي وحرب فيتنام)، وفضائحه، كلّها جوانب غطّتها السينما.

لا يمكن الحديث عن اغتيال كينيدي من دون التطرّق إلى The Zapruder Film (1963 ــــ متوافر على يوتيوب)، فيديو منزلي صوّره صانع الملابس الأميركي أبراهام ذابرودر. هذا الوثائقي القصير الذي تبلغ مدته 29 ثانية، والمصوّر على شريط 8 ملم، يعدّ حتى الآن اللقطة الأكثر اكتمالًا لاغتيال كينيدي. وصوّر أبراهام المشهد منذ لحظة دخول السيارة الشارع حتى اختفائها، بما في ذلك الطلقة القاتلة التي أودت بحياة الرئيس.

في أواخر الخمسينيات، نقل روبرت درو الأسلوب والحيوية اللذين طوّرهما كمراسل لمجلة «لايف» إلى صناعة الأفلام. شكل درو مع ريتشارك ليكوك، ودي.أي. بينبباكر وألبرت مايسلز فريقًا أدت دورًا في تغيير صناعة السينما الوثائقية في أميركا.

في العام 1960، حصلت المجموعة على إذن بالوصول المباشر إلى جون كينيدي، فصورته في أثناء حملته الانتخابية، ثم في مكتبه البيضاوي. أسفر هذا التعاون عن ثلاثة أفلام تميزت بالمباشرة والحميمية، صُوّرت خلف الأبواب المغلقة وهي: «برايميري» (1960، Primary)، و«مغامرات على الحدود الجديدة» (1961، Adventures on the New Frontier)، و«أزمة» (1963، Crisis)، إضافة إلى فيلم شاعري قصير بعد الاغتيال بعنوان «وجوه نوفمبر» (1964، Faces of November).

بعد عام واحد من الاغتيال، صدر وثائقي المخرج ميل ستيوارت بعنوان «أربعة أيام في نوفمبر» (1964، Four Days In November، متوافر على يوتيوب)، صوّر الأيام الأربعة بين اغتيال كينيدي والساعات الـ72 التي تلته.

بعد إعلان والتر كرونكايت (صحافي مخضرم في شبكة «سي. بي. أس ») وفاة كينيدي، ينتقل الوثائقي إلى مونتاج من مقاطع دعائية وتقارير إخبارية ولقطات الجنازة، وكلّ ما حدث في الأيام الثلاثة التي تلت وفاة الرئيس الأميركي، ودائمًا من وجهة نظر قريبة من التيار الأيديولوجي للجنة وارن، التي ستقرر رسميًا في 24 أيلول (سبتمبر) 1964، أنه بعد سلسلة كاملة من التحقيقات، استُبعدت احتمالية وجود مؤامرة في اغتيال كينيدي، واقتصرت على القول إن المشتبه فيه الرئيسي، لي هارفي أوزوالد، قد تصرف بمفرده وكان مسؤولًا بشكل مباشر عن الاغتيال.

«أربعة أيام في نوفمبر» مثال رائع - وهو عمليًا المثال الوحيد - على إنتاج الوثائقي الذي يصبّ بوضوح في مصلحة لجنة وارن، ويحقق ذلك عبر مونتاج يعتمد بشكل أساسي على صور أرشيفية لتحقيق قدر أكبر من المصداقية.

يحاول أن يشرح من دون اصطناع ما حدث في ذلك اليوم، وأن يظهر الحقيقة عبر الصور التي عُرضت في تلك الأيام على التلفزيون والتسجيلات الصوتية، أو على الأقل الحقيقة التي تريد الحكومة أن تقولها للمواطنين.

من جهته، لم يكن عرّاب البوب آرت آندي وارهول من المقتنعين بما تقوله الحكومة، فأخرج فيلم «منذ» (1966، Since) ذا النهج التجريبي عن اغتيال كينيدي، موجّهًا نقدًا للطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام مع الأخبار.

كان لا بدّ من مرور عشر سنوات، قبل ظهور أول فيلم يتحدث علنًا عن مؤامرة تحيط بكينيدي، ويكشف عن مؤامرة سياسية واقتصادية من أكثر الولايات والمقاطعات محافظةً في الولايات المتحدة. أخرج ديفيد ميلر «إجراء تنفيذي» (1973، Executive Action)، كاشفًا عن مؤامرة لاغتيال كينيدي. عبر صور من الأرشيف، ومجموعة ممثلين على رأسهم روبرت رايان (المتآمر) وبيرت لانكستر (المنظم)، ركز الفيلم على التحضير السابق للاغتيال، بينما نشاهد الاجتماعات والتدريب والتلاعب بشخصية أوزوالد لإلقاء اللوم عليه لاحقًا في الاغتيال باعتباره الشخص الوحيد المتورط.

على عكس فيلم «أربعة أيام في نوفمبر»، يركز فيلم JFK (1991، ثلاث ساعات ونصف ساعة) لأوليفر ستون على التحقيق اللاحق للاغتيال الذي أجراه المدعي العام لمنطقة نيو أورلينز (لوزيانا) جين غاريسون بين عامَي 1966 و1968.

يمكن وصف فيلم ستون بأنه نسخة حديثة من فيلم ديفيد ميلر، لكن بوسائل تقنية أكثر شمولًا سمحت بخلق تحفة فنية في السينما السياسية، مقدّمةً الاغتيال كما لم يجرؤ أحد على تقديمه حتى تلك اللحظة. يُعد الفيلم أحد تلك الأفلام التي تُعيد كتابة التاريخ، وهذا ما يجعله أداة مباشرة لدراسة حقبة زمنية محددة وتحليلها.

هذا؛ وبينما كان مرتكبو الاغتيال في فيلم ميلر رجال أعمال في صناعة النفط، فهم في فيلم غاريسون من أعلى مستويات المؤسسة السياسية والأمنية الأميركية: وكالة الاستخبارات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والتيار المحافظ فيهما، الذين كانوا متحفّظين على السياسة الجديدة التي كانت حكومة كينيدي تنوي الترويج لها.

إن استياء الرأي العام من استنتاجات لجنة وارن، ورغبة السكان في معرفة ما حدث حقًا في ذلك اليوم، عنصر يعكسه الفيلم عبر شخصية جيم غاريسون (كيفن كوستنر) الذي يجسد المواطن الأميركي الذي يقاتل بلا كلل ضد السلطة القائمة.

نشاهد كيف انجرّت الشخصية إلى دوامة من الأسرار والاعترافات والتوضيحات، التي قادته إلى استنتاج أنّ اغتيال كينيدي كان نتيجة مصالح مجموعة من الجماعات المؤثرة.

بعد فيلم ستون، توقف الاهتمام بالتحليل السينمائي للرئيس كينيدي نسبيًا حتى عام 2000، عندما صدر فيلم «ثلاثة عشر يومًا» (Thirteen Days) للمخرج روجر دونالسون. يُعيد الفيلم إحياء أحد الفصول الأساسية لحكومة كينيدي، ألا وهي الأزمة الناجمة عن إنشاء قواعد عسكرية نووية سوفياتية في كوبا، وتنبع هذه الحقيقة من سياق الحرب الباردة والغزو العسكري الأميركي الفاشل لكوبا، الذي نظمه منشقون كوبيون مناهضون لكاسترو ونسقته وكالة الاستخبارات المركزية.

لغريب أن الفيلم يتناول إحدى أكثر لحظات عهد كينيدي تعقيدًا، لكن شخصيته ليست هي البطل. إنه الفيلم الذي حظي بأعلى نسبة تغطية سياسية من بين الأفلام التي تناولت قضية جون كينيدي، لكنه يركز أكثر على القضية نفسها، من دون التطرق إلى المعاملة الشخصية للرئيس. يقدم «ثلاثة عشر يومًا»، مقارنة تاريخية واقعية لفصل محدد من ولاية كينيدي، ومحاولته هو والسوفيات للحفاظ على التوازن والاستقرار العالميين بين الجانبين الرئيسيين آنذاك (الشيوعيون والرأسماليين)، كما يمكن رؤية الفيلم على أنه نقد لأكثر الجماعات محافظةً في الولايات المتحدة.

هناك أفلام كثيرة روائية أو وثائقية تمحورت حول كينيدي وعائلته. في عام 2009، قدم ويليام أولسون أول فيلم له «علاقة أميركية» (An American Affair)، الذي يتطرق إلى علاقة الرئيس كينيدي بماري بينشوب ماير على المستويين المهني والشخصي. من المنظار الشخصي أيضًا، قدم بابلو لارين أرملة الرئيس والسيدة الأولى جاكلين كينيدي في فيلم «جاكي» (2016، Jackie)، متلاعبًا بالحقائق والتاريخ بما يناسب فيلمه.

قدمت السينما كينيدي على أنه أحد أكثر الرؤساء شهرة واحترامًا في التاريخ الأميركي، أسرت جاذبيته وبلاغته وقيادته قلوب الأمة في الأوقات العصيبة.

صوّرته السينما رئيسًا محبوبًا وأبًا مثاليًا، كما رأيناه زير نساءٍ. لقد صدمت حادثة الاغتيال العالم آنذاك، إذ يُقال إن كل من عاش يوم 22 تشرين الثاني 1963 يتذكر ما كان يفعله عندما علم باغتيال كينيدي. والآن، بعدما أمر دونالد ترامب بالإفراج عن 3600 وثيقة سرية، هل سيؤدي ذلك إلى إنتاج أفلام أو مسلسلات جديدة؟

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد