محمد وهبة (جريدة الأخبار)
مضى أكثر من شهرين على تأليف حكومة نواف سلام من دون أي خطوة جدّية واحدة عن إعادة الإعمار. واليوم، ستكون المرّة الأولى التي يناقش فيها مجلس الوزراء شيئاً ما في هذا المجال، إذ أدرج على جدول أعمال جلسته التي ستُعقد اليوم، بنداً يتعلق بصندوق إعادة الإعمار. هذا الصندوق من تأليف وإخراج البنك الدولي جملة وتفصيلاً، إذ إنه حدّد حجم التمويل بقرض سيمنحه للبنان قيمته 250 مليون دولار من أجل استقطاب هبات أخرى غير معلومة المصدر، وأن يتم إنفاقها وفق شروط خبيثة تستثني مسألتين: إعمار المساكن وقرى الحافة الأمامية.
متلازمة الشكوك في التأخير العمدي لإطلاق ورشة إعادة الإعمار، بدأت تترسّخ أكثر في «عقيدة» حكومة نواف سلام. فالمشروع المطروح على طاولتها اليوم، ليس هزيلاً في الشقّ التمويلي فحسب، إنما خبيث بأهدافه ومعاييره أيضاً. فإطلاق ورشة إعادة الإعمار، يحتاج إلى أكثر بكثير من قرض يُنفق تحت إشراف مباشر من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار.
البنك الدولي نفسه قدّر أن الأضرار تصل إلى 6.8 مليارات دولار وأن إعادة الإعمار والتعافي يحتاجان إلى تمويل بقيمة 10.9 مليارات دولار منها 6.25 مليارات دولار لقطاع السكن، و554 مليون دولار للتعليم و412 مليون دولار للزراعة والأمن الغذائي بالإضافة إلى 1.8 مليار دولار لقطاعات التجارة والصناعة والسياحة، أما الباقي وقيمته 1.47 مليار دولار فهو للبنية التحتية في خمسة قطاعات أساسية: المياه والصرف الصحي، النقل، الخدمات البلدية، الطاقة والبيئة.
هذا ما ورد في التقرير الأخير للبنك الدولي عن حجم الأضرار، علماً أن ملف القرض يشير إلى أن الحاجات التمويلية لإعادة إعمار البنية التحتية والخدمات الأساسية المتضرّرة مثل الطاقة والنقل والمياه والتعليم والصحة والخدمات البلدية وسواها، تُقدّر بأن تتجاوز 2.4 مليار دولار.
إذاً، ما سنحصل عليه كدفعة أولى هو مجرّد 250 مليون دولار من أصل 1.47 مليار دولار. على أن «يكون القرض بمثابة الجزء الأول من تمويل المشروع بقيمة 1 مليار دولار، وعلى أن تسعى الحكومة اللبنانية بمساعدة من البنك الدولي لاستقطاب تمويل إضافي بهدف سدّ الفجوات التمويلية».
وما سيحصل عليه لبنان بموجب هذا المشروع، سيكون قرضاً يضاف إلى الدين العام الذي توقّف لبنان عن سداده أصلاً في آذار 2020.
وبحسب الملف المعروض على مجلس الوزراء، فإن استخدام أموال القرض لن يقتصر على أعمال البنية التحتية فحسب، بل سيشمل إلى «مشاريع تأهيل البنى التحتية والخدمات العامة في المناطق التي تضرّرت بفعل العدوان الإسرائيلي الأخير، تمويل مراحل من عمليات معالجة الأنقاض لا تحلظها العقود التي جرى ويجري توقيعها من قبل كل من مجلس الجنوب والهيئة العليا للإغاثة واتحاد بلديات الضاحية الجنوبية.
أما معايير الإنفاق التي رسمها البنك الدولي للبنان فهي مستغربة جداً؛ فاللافت أن البنك الدولي هو من يقترح الأولويات على الدولة اللبنانية، وهذا واضح من الملف المعروض على مجلس الوزراء، إذ إنها تقوم على التوجّهين التاليين:
1- اعتماد مقاربة جغرافية وليس قطاعية، بمعنى أن الآلية تهدف إلى تحديد مناطق التدخّل الجغرافية ذات الأولوية، ثم يصار إلى تنفيذ المشاريع لهذه المناطق في مختلف القطاعات (مياه، كهرباء، مدارس، مستشفيات...).
2- اعتماد مقاربة اقتصادية بحيث تُعطى الأولوية للمناطق التي يكون التدخّل فيها ذا جدوى اقتصادية عليا، حيث يتيح هذا التدخّل إطلاق دينامية اقتصادية مبنية على وضعية المنطقة السابقة للعدوان وعلى قابليتها للتعافي، وقد جرى وضع ثلاثة مؤشرات/معايير لتحديد هذه الأولوية:
- مؤشّر عدد السكان: بحيث كلّما كان عدد سكان المدينة أو البلدة (قبل العدوان) أكبر، تكون درجة أولويتها أعلى.
- مؤشّر الوضع الاقتصادي: بحيث كلما كان النشاط الاقتصادي في المدينة أو البلدة (قبل العدوان) أوسع، تكون درجة أولويتها أعلى.
- مؤشّر مستوى الدمار: بحيث كلما كان الدمار الذي لحق المدينة أو البلدة أقلّ، تكون درجة أولويتها أعلى.
وفق هذه المؤشّرات، فإن قرى الحافة الأمامية التي غابت عنها التنمية لعقود وهجرها أهلها نزوحاً نحو المدن، وهي الأكثر دماراً، لن تستوفي شروط البنك الدولي. فهي الأدنى في النشاط الاقتصادي، وهي الأدنى في عدد السكان، وهي الأكثر دماراً.
بعض البلدات ليس فيها سوى بضعة دكاكين وموظفين حكوميين يشكّلون القوى الاستهلاكية فيها، وليست فيها مصانع وتعتمد على زراعة بدائية بكلفة عالية.
لذا، أي تصنيف لن يأخذ في الاعتبار هذه القرى باعتبارها ذات أولوية، وبالتالي سيتماهى مشروع القرض مع ما يرغب به العدو الصهيوني في إبعاد السكان عن هذه المناطق لتصبح مع الوقت عبارة عن شريط مهجور من الأراضي المدمّرة.
رغم ذلك، يسجّل بعض الوزراء والعاملين في مجلس الإنماء والإعمار وبعض المؤسسات والإدارات العامة المعنية، أنهم ناقشوا هذه الأولويات والشروط، مطالبين بإدخال تعديلات عليها «بهدف لحظ تنفيذ أشغال تأهيل البلدات التي لحق بها ضرر كبير وذلك ضمن المرحلة الأولى»، لكنه لم يجرِ النقاش في مسألة توسيع المعايير وفق أولويات سكانية، علماً أن القرض يتعلق بالبنى التحتية التي تُعدّ ضرورية من أجل إعادة السكان إلى بلداتهم. في الحصيلة، وافق البنك الدولي على إضافة مبلغ 20 مليون دولار سيُستخدم بمعزل عن آلية تحديد الأولويات التي ستشمل البلدات الأخرى.
بهذا المعنى، فإن وصاية البنك الدولي على مرحلة إعادة الإعمار انطلقت بقرض قيمته 250 مليون دولار. وبهذه الطريقة ستكون إعادة الإعمار انتقائية وفق مؤشرات عجيبة لا تلحظ أن هناك عائلات وأسراً مبعدة عن مكان مساكنها وأراضيها، وأن الأولوية للمسألة المتعلقة بإعادتها سريعاً بدلاً من إجبارها على التخلي عن أرضها ودفعها نحو موجة نزوح إلى المدن الكبيرة المكتظّة.
من أكاذيب البنك الدولي
يقول البنك الدولي في ملف القرض المعروض على لبنان، إن من بين أهدافه «إنهاء الفقر المدقع وتحفيز الازدهار الجماعي في إطار خطة البنك الدولي للتعامل مع تغيير المناخ».
أكاذيب البنك الدولي تواصل تفسير هذا الأمر بالإشارة إلى أنه يركّز على «خلق نمو اقتصادي مستدام»، الاستثمار في البشر، تقليص تداعيات الصدمات والتهديدات التي تكثّفت في عقود مضت». أيضاً يشير إلى أنه «يدعم الأسر المتضررة لاكتساب مساكن ملائمة من خلال صيانة المساكن المتضرّرة بشكل طفيف»، وأنه سيساهم في دعم شروط العيش على المدى القصير والطويل، وحُسن الحال للسكان، وسيقلّص عدد الفئات الهشّة التي وقعت في دوامة الفقر.
1.2 مليون شخص
هو عدد المستفيدين من القرض الذي يقدّمه البنك الدولي بحسب الملف المعروض على مجلس الوزراء