اوراق خاصة

"السِتِيّة" .. قصة عن الصمود الفلسطيني

post-img

قصة نجوى الموسوي/ قاصة لبنانية

خاص موقع أوراق/ القصة نالت الجائزة الأولى في مجمع البقاع الثقافي   

  أصرّت أم "ربيع" وصرّت. وطَلَعَ الصوت من بين ما تبقى من أسنانها: "احملي هالسِّتِيّة.. ورَوِّحي.. رَوِّحي يا بنت، وإلا بَغْضَبْ عَلِيك!".

  بيسان الطالبة في كلية الأدب الإنكليزي حاولت أن تصرف انتباهَ أمّها عن إرسالها إلى هذا المشوار المفروض بالإكراه. فقالت: "يَمّه، هاد صحن. "السِّتِّيّة" كلمة راحت من زمان، من ثمانين سنة ما عاد حدا قالها". ردّت الأم:

-      "إيه، كانت ستّي تقولها.. ولِسّة أنا حَقُولْها لوَلَد الوَلَد، واللي بينسى أصلُه ما لُو أصل..".

      وحملت البنت الصحن ونظرت إلى السماء الملبّدة بغيوم داكنة. راحت تتذكّر متى سمعت الجملة الأخيرة هذه. الجملة التي لم تبرح دماغها أصلًا. من رأى بيسان هذه اللحظة رأى في وجهها ملامح وجه أبيها عندما حمل نعش أخيه المجاهد. كان ذلك قبل أن تدخل الجامعة ولكن صورة السواد تحت عيني الكهل لم تبرح عينيها منذ ذلك الحين. عند قبره سمعه الناس وسمعته هي يتكلّم بهدوء: "راح أخي.. لكن الأرض تدور، ولسة جاي بقية الفصول.. إحنا مش تاركين أرضنا، واللي بينسى أصلُه ما لُو أصل..".

حين بدأت الحرب الأخيرة قرر "أبو ربيع" أنها الفصل الأخير. ذهب إلى عملٍ في الضفّة وهناك قبضوا عليه متلبّسًا بأنه أخو شهيد. 

   وصل خبر أسر الوالد إلى ابنه الفتى ربيع. بعد أقل من أسبوع واحد غادر البيت. لم يخبرهم إلى أين سيذهب. لكنهم كانوا يتوقّعون فهو منذ رقص على تلك الدبّابة أمام غنائم " طوفان الأقصى" لم تعد الأرض تسع طموحه. وقررت أمُّه بعد أن انحنى ظهرُها ولم تعد تستطيع تقويمَه، أن تحمل أربع بنات على الطنبور. و"تهجّ" إلى "رفح"، قائلة إنّها هجرة مؤقّتة، وأكّدت.

 بقيت الصبيّة هي السند الوحيد. عيناها تلمع ولا تدمع. منذ الصّبا هرمت. منذ غادر رجُلا البيت، لم تحبّ أن تقلّد أمها التي تراها دائمة البكاء. صرخت دائمةُ البكاء من خلفها: "بسرعة.. بسرعة".

 كانت بيسان حتى هذه اللحظة تظنّ أنها لن تنفّذ هذا الأمر بالذات حتى لو ماتت. ليس بعد كل تلك الأنشطة التي ساهمت بها عند الوصول إلى "رفح": ألعاب للفتيات الصغيرات، جلسات تفريغ، وحملات نظافة، جولات لتعشيب ما يتوفّر، ومشاركات في مظاهرات، وتصريحات أمام الصحافيّين جعلتهم ينسون "عهد التميمي" نفسها.

لم تحسب أنها ستحمل الوعاء وتأتي كأنها "تتسوّل" ما تقتات به أخواتُها الصغيرات وأمُّها الضعيفة. ليس بعد كلِّ تلك "البوستات" التي أُرسلوها عنها على صفحات "الإنترنت"، وهي تتحدّث عن العزيمة بوجه المحتلّين، وعن معنى "حسبي الله ونعم الوكيل"، وعن الرأس المرفوع وعزّة النفس، وعن القوة والصمود وعن الكرامة الموفورة، وعن.. التمسك بالأصل..

 لم تتخيّل أنها ستحتاج يومًا وتطلب مَلءَ وعاءٍ بالطعام. ليس ذلك بعد أن سخرت من حكّام التخمة الذين ينظّرون للمصالحة مع القاتل والمحاصِر. ليس بعد أن رفضت تسلّم أول إعاشة وصلت إلى أسرتها. ليس ذلك بعد كلِّ الاحتساب والتصبّر والتحدّي الذي ليس له من نظير هنا، تحدّي الجوع.

منذ أسبوع رأتها أمّها تزيح القماش "المرقّع" الذي صمّمته كأنّه باب للخيمة، ثم تنفض أوراق الهندباء، وتُلقم أحبّتها وتأكل وتقول: "هذه أميرة الشتاء، هذه أطيب من طحين الجيران الذي أرسلوه مع الأكفان!"، كان ذلك قبل أن يتحوّل الترابُ بالعشبِ النابت فيه إلى قبورٍ جماعية..

 لم تملّ الشابة، ما إن خفّ المطر حتى غدت إلى بُقع الطبيعة التي نجت من نيران الصواريخ حتى الآن، تلتقط نباتات "القرصعنة"، "تقطّعها" بيديها وتخلطها مع ملح وتعدّها وجبة يتيمة يوميّا. على الأقل لا تموت الطفلات جوعًا ثم يصبحن خبرًا محضًا لا يصدّقُه آكلو المناسف. ولكن سرعان ما يجُبُّ المهجّرون كلَّ ما جادت به التربة، وبانتظار أن ينبت فوجٌ آخر، فإنّ الجوع كافرٌ، وحتى لا يودي بها إلى الكُفر حملت الفتاة الصحن ومضت.

كانت تمشي و"تكزّ" على أضراسها كأنها تقابل الصهيوني الذي ضرب أمها منذ سنة بالضبط. وقتها أيضًا التقطت الكاميرات الصورة فبُثّت على الشاشات. قالت بيسان لنفسها بصوتٍ عالٍ: "وقتها ما كنا فرحنا بسبعة "أوكتوبر" الجديدة يامّه، ما كنا عَلّينا راسنا للسما بهالشكل".

سارت بيسان وقفزت أحيانًا فوق حفر الماء ومجاري المجارير، بل إنّها هرولت لتخرج من بين الجموع أمام خيام مصنوعة من أكياس "النايلون". تبتسم حين تلمح بعض الخيام الحقيقية: "يا للترف!".

"هل أعود؟ فماذا أقول لها إن عُدتُ بالصحن فارغًا ليس فيه حبّة رز ولا عدس؟ "خلص".. لماذا أحمّل نفسي فوق طاقتها أصلًا؟ ها أنا أذهب كرمى لرضاك يا أمي، ليس من أجلي، لكن من أجل حبيباتنا الصغيرات".  هنيهة، وتساءلت: من أين تأتي المرارة في فمها؟

واست بيسان نفسها بتذكّر وجوه الطفلات الثلاث. ينمن على بطونٍ تُقرقر وتنادي. كثيرًا ما كانت تضحك إذا سمعت أحدًا في تمثيليّة يُطلق المثل: "عصافير بطني تزقزق"، لكنها الآن تسمع الزقزقة ولن تكذّب أذنيها. صباحًا صارحت بنتَ الجيران: "أقسم أني أسمعها، ليت أيلول يسرع! كي تهاجرَ عصافيرُ بطون بقيّة النازحين هنا في مثلّث الموت: الوباء والقصف والجوع".

 تتقدّم، نحو منطقةِ موقدٍ ضخم يطهون عليه الرز، بعدما أشعلوا ناره من بقايا أخشاب سُحبت من الركام والمنازل المدمّرة.

 تتقدم وهي  تفكّر بردّ فعل المتطوّعين: "ماذا سيقولون عني؟ ألا تكفي هذه الهيئة؟ وجهٌ أغبر، ثياب ممزّقة، زوج أحذية مختلف لونِ الفردتين. هو الذي هربتُ به على عمى قلبي، شعرٌ نابت في حاجبيّ لم يُنزع منذ أسابيع..". ثم ابتسمت لنفسها؛ كيف جاءتها هذه الخواطر، من تتذكّر تجمّل الأنثى؟ ابتسمت كأنّها تردّد وتعيد: "يا للترف!".

 أيّ شيء سوى الأكل لم يعد يهمّ الجوعى. لكن ماذا عنها؟ هذا الوعاء في يدها كأنّه يتآمر مع نيران العدوّ، ليس من فرق كبير. لكن هذه بيسان أيضًا، بيسان التي لم تطلب يومًا حتى من والديها ذرّةً من ضروريّات أو كماليّات. أبوها كان يشكو لأمّها: إن صبايا العالم "يستحلين" الكماليات، وهي مستعدة للاستغناء عن الضروريات لأجل ألّا تلفظ طلبًا من أحد.

مرّت دراجة نارية. يقودها مراسل وخلفه مصوّر مع الكاميرا. فكّرت بروح الناشطة: "هذا الصحن "الستانلس" يظهرني كالشحّاذ لو ظهرتُ بصورةٍ قصدًا أو من غير قصد". بشكل تلقائي أخفت الصحن داخل "الجاكيت"  ونفضتها قليلًا، وجعلت تلطّخ "المشاية" بالوحل مستخدمة الكعبين! "إن حصل وطلب الصحافيان تصويري وتصريحي هذه المرّة سأحدّثهم عن مصطلحات صارت غريبة عند الكثيرين، ليس عن السِّتِيّة وحسب، بل عن الكرامات والاعتزاز والغنى في النفس و.. ".

 فجأة دفعتها شلّة من الصِّبيةِ الحفاة الراكضين ليسرعوا أكثر منها نحو الموقد. تبسّمت وهتفت:

-      " فلتصِلوا قبلي.. والله أحسن، والله أحسن".

أخذت تستمرّ في تقدّمها ببطء السلحْفاة متكتّفة فوق "الجاكيت"، و"الجاكيت" فوق الصحن. عبرت خلف جدار منزلٍ يقع على طرف شارع، وصلت واقتربت نحو الشاب الوسيم. الأصفر في وجنتيها يتحوّل إلى عقيق. يحدّق الشاب في عينيها، تهرب عيناها من نظرته. وتحيّيه مع هزّة رأسها: "أعطاكم الله العافية".

-      عافاك الله.

يجيبها المتطوّع ثم يُطرقُ قائلًا:

-      "أعرفك، لماذا غبت كل هذه المدة؟ أنت متطوّعةُ الأسبوع الماضي. أحضرتِ الخُضر لمطبخ الطوارئ، وطبختِ".

وفيما أشار إلى "القِدِر" المغطّى، ضحك لكلمة مطبخ وعلّق على كلامه: "قال مطبخ قال!"، فعقّبت بيسان:

-      عم تعملوا استطاعتكم، والصبر نفسه نصر.

-      ما شاء الله "عليك". دايما بتعطي معنويات! طيب اليوم ما قدرتِ؟

-      ما قدرت؟

-      الصراحة يا اختي ما بقي للولاد ولا إشي.. ولا إشي..

وهنا، رفع الشابّ غطاء الطنجرة ليثبت كلامه، فابتسمت وأجابت فورًا: "صحن ما قدرت، سأحاول غدًا".

أسرعت بيسان بالابتعاد متنهّدة كمن أزيح عن قلبه غمّ الدنيا. راحت تمشي وهي تضحك من قلبها. قلبها الذي حصّنته بالصحن تحت "الجاكيت". واندفعت تهرول كغزالٍ يسرح بحريّةِ من نجا من الصيّادين.

 وصلت إلى موكب الصغار العائدين قبلها، كان في وجوههم صمتُ الصخور، فأمسوا ينظرون إليها مندهشين وهي تضحك ثم تسحب الصحن وترميه إلى الهواء ثم تلتقطه. وهي تهتف:

-      " الحمد لله، ما طلعت مني".

همّ ولدٌ بمراقبتها فأعجبته اللعبة. وبدأ يقلّدها. ولدٌ آخر بدأ مثلهما، ثم في لحظات تحوّلوا جميعًا إلى جوقة فرح، خرجت بيسان منها. وحين تثبّتت من أنهم نسوا الحزن قليلًا، لوّحت لهم بيدها رافعةً صحنَها عاليًا..

تركتهم بيسان وابتعدت مُفكّرةً بهم، ولكنها فكّرت كذلك: ماذا ستحضر للصائمات منذ الأمس إلا عن الماء. دارت بوجهها يمنةً ويسرة، عبثًا. "ليتني تعلّمت الصيد لأذهب نحو البحر وأستخرج سمكًا، بل ليت هناك صنارة أو شبكة.." مستغرقة في أمنيتها دخلت شارعًا لم تمرّ به أثناء مجيئها، مهلًا، أهذه "بسطة"!؟ تقترب. نعم والله، بسطة وعجوز تبيع البرغل. توقّفت. شكّت في أنها ستتأخّر، لكن لا بأس. في حوارٍ من دقيقتين باعت بيسان "الجاكيت" لتعطيه العجوز لحفيدتها "البردانة" دائمًا، واشترت قبضةَ برغل. وضعتها في الصحن وها هي تعود، وستُرضي أمَّها بعدما رضيت هي، وبغير تدبيرٍ منها. وما إن دنت من منطقة المخيّم، وإذا بعاصفة صادمةٍ من هواء حارقٍ ترميها أرضًا.

 لا تنهض بيسان إلا بعد دقائق، على وقع الصخب تنهض. تركض هذه المرة بلا فردتي الحذاء، تركض بوجهٍ عفّره الرماد حتى غطّى الحاجبين. بمنديل شبه ممزّق، تبحث بعينيها؛ لا تجد خيمةَ أمّها وأخواتِها. لا تجد سوى ركامًا يمنعها من السير.

  في كل بلاد العالم باستثناء المخيّم، راح خطّ "العاجل" الأحمر ينقل تردّدات الخبر: "العدو يرتكب مجزرة جديدة في منطقة إيواء نازحين في رفح"، وراحت الأفواه المدمّاة بالأحمر تتناقل نفثات الفجيعة: "الهاربون من الموت ماتوا. الصابرون على الجوع ارتاحوا. المنهكون من "الإسهال والأنفلونزا" زادت عليهم الجراح والكسور".

 لم تردّد بيسان كلمة واحدة من كلّ تلك الحكايا. لكنها صرخت ملء حنجرتِها:

-      يا يمّه.. يا يمّه.. يا يمه.

صارت تنادي، والجموعُ تحاول أن تنقل الجثث وتبحثُ عن ناجين.. هل تراهنّ ناجيات؟ بيسان تنادي، والصحافيّون يحاولون التقاط كلَّ مشهد.. بيسان لم ترهم. كانوا يتكلّمون وهي لا تسمع إلا صراخها:

-      "يَمااااه .. ليش هدّدتيني بالغضب.. يَمّه ليش خلّيتيني روّح.. يا خواتي.. هاي أنا جبت الصحن.. يَمّه جبت الصحن".

     وفجأةً، هدأت بيسان. هدأت مثل هدوء المذيعين ذوي الضمائر وهم يذكرون عدّاد الأرقام ويقولون: "هؤلاء ليسوا أرقامًا". ثمّ تمتمت:

        "لا، لا، مش صحن.. يَمّه جِبِت السِّتِيّة.. السِّتِيّة يَمَّه.. كلمة قالتها ستّي، ورح نقولها لوَلَد الوَلَد.. والله  لنقولها لوَلَد الولد".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد