إيهاب شوقي/كاتب عربي مصري
خاص موقع أوراق
يحلو لكثير من الانهزاميين في أمتنا استخدام مقاربة تنطوي على مغالطات منهجية، ومفادها هو أن العدوان الغربي، ولاسيما الإجرام الأمريكي والصهيوني، هو بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي، وأن استباحة أراضينا وأرواح شعوبنا هي نتاج للتخلف والاستسلام والعبودية التي تميز شعوب أمتنا.
هذه المغالطة افترضت أنّ العدو منتصر وأن امتنا مهزومة، وهو ما يغفل المفهوم العلمي للانتصار الاستراتيجي وتخلط بين المكاسب التكتيكية للعدو وبين النصر الذي لم ولن يتحقق طالما هناك مقاومة. كما يغفل حقائق التاريخ التي تقول إن استمرار العدوان يعني بدوره استمرار المقاومة، لأنه لو انعدمت المقاومة واستسلمت الأمة فلا داعي ولا مسوّغ للعدوان.
كما تغفل هذه المغالطة أن وجدان الشعوب بغالبيتها هو وجدان مقاوم، وأنه لم يسلم يوما للأعداء وإن قيّد في معظم البلدان. ولكن عبرت عن هذا الوجدان قطاعات شعبية امتلكت المبادرة والفرصة والجرأة، بفضل توفر حركات وقيادات وبفضل ثقافة المقاومة التي أهلتهم لتقديم التضحيات وترجمة هذا الوجدان لواقع عملي والخروج به من نطاق الكمون الى نطاق العمل والجهاد.
يمكننا التمييز بين مستويين من المقاومة، أولهما وجداني يعبر عن انحياز قلبي لمقاومة الظلم والاستعمار ويناصر المستضعفين، وثانيهما عملي يحمل إلى جانب الانحياز السابق، قدرة على التفعيل والانخراط في المعارك وتقديم التضحيات. ولكن المشترك في هذه الأمة هو أن المقاومة قيمة متأصلة فيها، على الرغم من كل التجاذبات والمؤامرات والحروب النفسية والدعايات الكاذبة التي عملت على تشويه القيم وحرف مسار الصراعات بعيدًا عن الاستعمار وتحويلها إلى صراعات بمسميات مختلفة.
في هذا السياق؛ يجدر بنا تأصيل هذه الفكرة عبر المباحث العلمية وليس الانطباعية أو الانشائية، وتطبيقها على الأمة لإثبات تجذر المقاومة بها، وأنها تنتظر شرارة من الصامتين والموسومين ظلما بالعبودية، وما هو سر وجودها في جبهات المقاومة في لبنان واليمن وفلسطين.
المقاومة في علم القيم:
علم القيم هو أحد المحاور الرئيسة الثلاث في الفلسفة، والتي تشمل ثلاثة مباحث، وهي علم الوجود/الأنطولوجيا، ونظرية المعرفة/الإبيستيمولوجيا، ومبحث القيم/الأكسيولوجيا. وهو مبحث يرتبط بثلاث قيم رئيسة، وهي قيمة الحق وقيمة الخير وقيمة الجمال.
يميز علم القيم بين نوعين من القيم، أولهما القيم النسبية المتغيرة، التي تطلب كوسيلة إلى غاية أبعد منها، مثل الثروة والمال والقوة، وهي القيم المادية. وثانيهما القيم المطلقة الثابتة التي ينشدها الإنسان لذاتها، مثل السعادة والعدل والأمن. والمقاومة هنا تدمج بين الوسيلة والغاية، حيث تعد وسيلة للتحرر والعيش الكريم، كما تعد غاية أخلاقية؛ لأن الاستسلام والعبودية والمذلة تتناقض مع قيم الحق والخير والجمال.
كما يحدد الفلاسفة وعلماء الاجتماع أنواعا للقيم، منها القيم العالمية المشتركة بين أغلب البشر، والقيم الإنسانية التي يكتسبها الفرد منذ لحظة ولادته، وتنشأ معه في جزء ثابت من كيانه وشخصيته. والقيم الشخصية التي تنشأ من خلال معتقدات الإنسان وخبرته، وأسلوبه الخاص في التفكير والوجود، والقيم العائلية التي يمارسها الفرد وتكون مقبولة أسريًا. والقيم الاجتماعية والثقافية هي مجموعة المبادئ والمعتقدات ذات المعنى الواسع، والمقبولة من المجتمع المتنوع من ناحية الأفراد واختلاف تفكيرهم وتاريخهم. والقيم الأخلاقية هي التي تساعد في أخذ القرارات المنظمة والمصاغة في إطار أخلاقي، يعطي القدرة على التصرف بشكل مقبول تجاه المواقف.
الملاحظ، هنا، أنّ المقاومة في أمتنا تندرج تحت هذه العناوين جميعها، فهي قيمة عالمية يتفق عليها البشر لرفض الظلم واغتصاب الحقوق، وقيمة إنسانية تتسق مع الفطرة، وقيمة شخصية مكتسبة من تاريخها، وما تتعرض له أمتنا، وقيمة عائلية في مجتمعاتنا التي عانت الويلات من الاستعمار وفقدت عوائلها الشهداء، وقيمة اجتماعية وثقافية مهما حاولت الأبواق الاستعمارية وأبواق الأنظمة المهادنة تمييع الصراع. وهي قيمة أخلاقية لا يختلف عليها أحد، حين يشعر المفرط بالخزي ويتخذ موقفا تسويغيًا، بينما يشعر المقاوم بالفخر والعزة.
المقاومة عند الشعوب الصامتة
مما سبق؛ فإنّ أمتنا مهما لحق بها من تغيرات ومصاعب ونجاح للدعايات والتشويه الثقافي في بعض القطاعات، إلا أنها أمة تتأصل فيها المقاومة، ويظهر ذلك في رد فعل الشعوب، بما فيها الشعوب الصامتة والتي تعيش تحت القمع والاستبداد، ولا تلقى متنفسا لإظهار مواقفها، وتشعر بالخجل لعدم مشاركتها بالتضحيات، فتشعر أنها تفتقد لقيمة المقاومة، والتي تشبه العسل الجامع لرحيق مجموعات متنوعة من القيم.
المقاومة في شعوب محور المقاومة
أما في شعوب محور المقاومة، فإنّ هناك اتساقًا بين الوجدان وبين العمل، وهناك حلقة مفرغة تضمن استمرارية المقاومة، فكلما اندلعت المقاومة اشتد العدوان، وكلما اشتد العدوان زادت المقاومة والصمود. ولعل الشهيد الكبير السيد حسن نصرالله لخص الأمور ببلاغة كبيرة عندما قال إنه من خلال المقاومة ننتمي إلى ثقافة الحياة الحقيقية التي نرى فيها أن المقاومة تصنع الحياة وتشكّل عاملًا رادعًا وحماية حقيقية. وعندما أكد أن الجهاد والمقاومة والشهادة جزء من ثقافة الحياة الطيبة السعيدة العزيزة؛ لأنها من عناصر الدفاع عنها وبقائها.
على درب الشهيد العظيم، يسير الشيخ نعيم قاسم، عندما قال إن المقاومة فكرة تسري في العقول وهي متجذّرة ومتأصّلة وجمهورها صلب وصادق مستعدّ للوقوف في الملمّات. وما نراه اليوم في اليمن خير دليل على الصمود والصلابة وخروج الشعب اليمني خروجًا مليونيًا، أسبوعيًا، لإعلان الموقف، وتحمله للتضحيات يوميًا ووقوفه بشجاعة أمام عدوان أكبر قوة عسكرية عالميّة، وهو ما يؤكد أن المقاومة متجذرة وليس مجرد خيار ضمن مجموعة من الخيارات.
كذلك الأمر مع الشعب الفلسطيني بات مضرب المثل في المقاومة، بعد ما يقرب من ثمانين عامًا من الاحتلال وهو صامد أمام كل محاولات التيئيس والدفع نحو الاستسلام والتنازل.