ريم ياسر/ العربي الجديد
يستضيف المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، حتى الأول من مايو/أيار المقبل، معرض الفنانة الفلسطينية، الفوتوغرافية رهاف البطنيجي تحت عنوان "بوست كارت من غزة". يقدّم المعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي وثقتها البطنيجي على مدار عقد من الزمن في غزة. تأتي هذه التظاهرة التي تُمثّل أرشيفاً مرئياً حياً لمدينة تواجه تحديات البقاء، بتنسيق الفنان والمصور المصري الأرمني كيغام كيغاليان.
عبر عشر سنوات، التقطت رهاف البطنيجي مشاهد من حياة غزّية لم تكن تعرف أن كثيراً منها سيتحول إلى ذكريات. الشوارع وحكايات الأطفال الذين يلعبون الكرة، والشواطئ التي تلمع تحت ضوء الشمس، والأسواق التي تعجّ بالحركة، كلها تجسّدت في صورها شاهدةً على مدينة كانت تنبض بالحياة. اليوم، بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي معظم معالم قطاع غزة، أصبحت هذه الصور وثائق نادرة وسجلاً مصوّراً لأماكن وأشخاص ربما قضى كثير منهم تحت القصف.
العنوان نفسه، "بوست كارت من غزة"، يحمل في طياته تساؤلات عدة حول ما تعنيه البطاقة البريدية عندما تأتي من مكان لم يعد قادراً على استقبال أحد. أما النص المصاحب للمعرض الذي كتبته البطنيجي على ظهر بطاقة بريدية تحمل صورة فوتوغرافية لشاطئ غزة، فيلقي الضوء على هذه الفكرة، إذ تقول: "كتبت هذه البطاقة عدة مرات، وعلى مر أكثر من عشر سنوات. كتبتها وأعدت سردها على نفسي مراراً من دون كَلَال أو توقف بمجرد عبور لحظات الضوء أو اللون. تشبثت بها تماماً، لتأخذني هذه الصناعة اليومية في ما بعد إلى شيء أبعد من هذا. اليوم بعد أن تكدست كل الظروف والرسائل بخطوطها الزمانية والمكانية، يفتح كيغام كيغاليان الصندوق على رحلة جديدة نبدأ بها بتفكيك بعض الحروف والكلمات على مصطلحات مغايرة تتسع لعبور نور أكثر".
تتحول هنا البطاقة البريدية، كما تقول البطنيجي، من أداة تواصل عابرة إلى رمز للمقاومة، في محاولة لإبقاء الذاكرة حية في وجه النسيان. أما كيغام كيغاليان، الذي أشرف على تنسيق المعرض، فيوضح أن الفكرة تكمن في تحويل الصور إلى سردية مقاومة بصرية، فكل صورة هي جملة في قصة أطول عن الصمود. من الصعب هنا اختزال أعمال البطنيجي في إطار فني مجرد، فهي وثائق تاريخية بامتياز، تقدم نظرة حميمية لمدينة ترفض أن تموت. في إحدى الصور، نرى أربعة أطفال يلهون على أحد الشواطئ، وفي أخرى ثمة رجل مسن يمد يده نحو المصور بكوب من الشاي، وفي صورة ثالثة نرى رجلاً وامرأة يستظلان بأشجار الزيتون. يبدو هؤلاء الأشخاص وغيرهم في الصور كأنهم يرددون جميعاً بصمت: "ما زلنا هنا". هذه الثنائية بين الجمال والدمار وبين الحياة اليومية والتهديد الدائم، هي ما يجعل المعرض مؤثراً إلى حدّ مؤلم.
تتألّف فوتوغرافيا البطنيجي من مجموعة عناصر بصرية أساسية، إذ تحضر فيها الحيوانات، مثل المواشي والأسماك والأحصنة، إلى جانب الإنسان الذي دائماً ما نجده مقترناً بحضور تلك الحيوانات، والبحر، والباعة المتجولين، والوقت.. لعلّ الأخير هو العنصر الأبرز؛ إذ من خلاله نستشعر الحركة في الصورة، والسكون أيضاً، وهو الرّابط الذي ينسج العلاقة بين بقية العناصر.
تنظر البطنيجي إلى غزة كما لو أنّها مرآة تهشّمت بفعل هزة كبيرة سببها مرور طائرة حربية. حين تمرّ هذه الطائرة، وفق البطنيجي، يبدأ الناس بعدها بالخروج بحذر "ووجوههم شاحبة. لديهم حلم بأن يشربوا قهوة النجاة من التصعيد المتكرر فوق رؤوسهم. يخرجون لينظروا كيف صار لون الحياة بعدما قطعت (الفيشة) عنهم وتناستهم الحياة لفترة"، قالت في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد".
عموماً، لطالما ابتعدت البطنيجي في لقطاتها عن الصورة النمطية لغزة، منطقة بائسة أنهكتها الحرب. نقرأ فيها تفاصيل كثيرة من الحياة اليومية الطبيعية هناك، بنسائها وفتياتها، وأطفالها كذلك، بعيداً عن تصويرها فقط على أنها سجن كبير. تقول: "أحب فكرة السفر. أحلُم بها كثيراً. أرى في مناماتي الطويلة أني أسافر وأبتعد وأشاهد أناساً وشوارع وبيوتاً بديعة... تأخذني هذه المنامات والأفكار إلى التجول داخل نفسي وداخل المدينة التي لا تزال تحمل الكثير من أسرار الجمال لنتحدث عنها؛ فأبدأ بتفسير الحلم عبر خروجي مرتبكة وخائفة أحياناً من ردة فعل الناس تجاه الكاميرا، المعتادة أن تأخذ معاناتهم كمادة صحافية عالمية لا ترى منهم سوى الحزن والشحوب".
أما الجانب الأكثر إثارةً للانتباه في هذا المعرض، فيتمثل في الركن التفاعلي، إذ يُدعى الزوار إلى كتابة رسائلهم إلى غزة على بطاقات بريدية. على طاولة خشبية بسيطة، تتراصّ تلك البطاقات وكأنها أوراق اعترافات صامتة. هذه الفكرة، التي قد تبدو بسيطة، تحمل في طياتها تحدياً كبيراً، إذ كيف نكتب إلى مكان لا نعرف إذا كانت رسائلنا ستصل إليه؟ وكيف نترجم مشاعرنا إلى كلمات في مواجهة عجز العالم عن وقف الدمار والقتل؟ بعض الزوّار كتبوا رسائل أمل، بينما فضّل آخرون كتابة رسائل غضب أو حزن. إحدى الرسائل تقول: "إلى غزة... لا أعرف إذا كنتِ ستقرئين هذه الكلمات، لكني أعدكِ أنني لن أنساكِ". رسالة أخرى أخرى كتبت بخط غير منتظم، يقول صاحبها مخاطباً أطفال غزة: "أتمنى أن تنتهي الحرب وتلعبوا مثلنا". هذه الرسائل، المجهولة في معظمها، تصبح جزءاً من العمل الفني نفسه، كأنما المعرض يتحول إلى صندوق بريد جماعي للذاكرة الجماعية.
في زمنٍ تُختزل فيه غزة إلى مجرّد أرقام في نشرات الأخبار، وتُسوَّق جرائم الحرب تحت عناوين مزيفة، يأتي معرض رهاف البطنيجي ليذكّرنا بأن الفنّ قد يكون آخر الأسلحة الحقيقية المتاحة. بين أروقة هذه التظاهرة، لا تُعرض الصور بوصفها مجرد وثائق، بل تُحاكي حواراً صريحاً بين ذاكرة لم تمت بعد وواقعٍ يرفض أن يندثر. هنا، يصبح الفن شهادةً حية تثقب جدار الصمت الدولي، وتطرح سؤالاً يُلاحق ضمير الإنسانية جمعاء: كيف سمحنا لأنفسنا بأن نكون شهوداً على هذا الانهيار؟ وكيف سنروي للأجيال القادمة أننا كنّا هنا، ورأينا كل شيء، ومع ذلك... لم نفعل شيئاً؟