داخل الضفة الغربية المحتلة، حيث يُمارَس الاستيطان بكونها خطة دولة لا مجرد نزوة أفراد، عاد المخرج البريطاني الأمريكي لويس ثيرو، بعد غياب أربعة عشر عامًا ليضع كاميرته في قلب المستوطنات، ويوثق بكثير من الحذر والصدمة حجم التحولات المرعبة التي وقعت منذ زيارته الأولى.
فيلمه الجديد «المستوطنون»، والذي عرضته شبكة «بي بي سي» البريطانية، لا يكتفي بسرد وقائع أو عرض شهادات، يدخل أيضا في عمق ذهنية التطرف الإسرائيلي الذي صار أكثر سطوة وعدوانية بعد حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وفي المشهد الافتتاحي، يظهر مستوطن يتحدث بلهجة أمريكية ليقول بجرأة إن «العرب لا صلة لهم بفلسطين»، مضيفًا: «إنها أرض إسرائيل، وإن قيام دولة فلسطينية يعني وجود كيان متطرف وسط دولتنا».
هذا التصريح الصادم في حدّته، هو مجرد مفتاح لما يكشفه الفيلم لاحقًا من عنف واستعلاء يمارسه المستوطنون الذين باتوا أكثر عددًا ونفوذًا، بدعم مباشر من حكومة نتنياهو اليمينية. وعدد المستوطنين، اليوم، تجاوز 700 ألف، موزعين على عشرات التجمعات فوق أراضٍ احتُلت في العام 1967، ويعيش معظمهم في الضفة الغربية التي تضم نحو ثلاثة ملايين فلسطيني.
يقول ثيرو، في تعليق صوتي داخل الفيلم: «عدت إلى الضفة لأفهم العقلية الإسرائيلية»، لكنه لم يكن مستعدًا لما وجده؛ فقد اضطر لتصوير أغلب مشاهد الفيلم تحت حماية جنود الاحتلال، مع ذلك واجه المضايقات، حيث أوقفه جنود، ومنع من التصوير، وتعرض للتهديد من مستوطنين مسلحين.
إحدى أقوى اللحظات في الفيلم كانت خلال زيارة إلى مدينة الخليل، برفقة الناشط الفلسطيني عيسى عمرو، حيث وثّق المخرج مدينة أشباح بفعل الحواجز والإغلاق والتضييق على السكان. ويصف الخليل بأنها مدينة «خانقة»، يسكنها صمت القمع وتفاصيل الخوف، فيما تُمنع الغالبية من الفلسطينيين من دخول مناطق المستوطنين المحمية بالأسلاك والكاميرات والجنود.
من بين الشخصيات التي التقاها الفيلم، تبرز دانييلا فايس، والتي توصف بـ»عرّابة» المشروع الاستيطاني. بابتسامة ودودة تخفي أفكارًا عنصرية فجة، تُسوغ تهجير الفلسطينيين وتدعو إلى إعادة توطين غزة باليهود. وحين يعرض عليها ثيرو مشهدًا يصوّر إطلاق النار على فلسطيني، ترفض إدانة المستوطن وتقول إنه كان ينتقم، ثم تدفع المخرج بعنف وتثير مشادة، لم يتردد خلالها ثيرو في وصفها بـ»المريضة نفسيًا».
أما المستوطن الأمريكي آري أبراموفيتش، فقد أنكر أمام الكاميرا وجود أي كيان فلسطيني، ورفض استخدام كلمة «فلسطيني» أصلًا، مفضلًا تسميتهم بـ»طائفة الموت»، وراح يدافع عن «حقه» في ما وصفه صراحة بـ»التطهير العرقي»، ممسكًا ببندقيته في مشهد يلخص الكثير من الوقاحة الاستعمارية الجديدة.
يتابع الفيلم نقل آراء متطرفة من حاخامات يصفون الفلسطينيين بأنهم «متوحشون» و»راكبو جمال»، في تكرار فج لخطاب الكراهية الذي صار مألوفًا في أوساط الاستيطان الديني. ويصوّر الفيلم لحظات مرعبة لمخرج العمل، حين اقتربت منه سيارة مستوطنين ووجهت نحوه أسلحة مزودة بمنظار ليزر. وفي أحد المواقف، اقترب جنديان إسرائيليان ملثمان ليمنعاه من التصوير، ما اضطره للصراخ: «لا تلمسوني»، في مشهد يُجسد حجم الترهيب الذي يواجهه الصحافيون داخل الأراضي المحتلة.
في إحدى اللقطات، يُمنع فلسطيني من عبور حاجز لمجرد كونه فلسطينيًا، مع أنه كان بصحبة فريق التصوير البريطاني، في تجسيد فج وفاضح لسياسات الفصل العنصري اليومية.