اوراق خاصة

"الراية البيضاء".. من قصص الجنوب الصامد

post-img

قصة: نجوى الموسوي من لبنان

شدّت "أسمهان فرحات" باب الدار نحو الداخل مع صيحة. كانت في الحديد فراغاتٌ حمته من الانسداد نتيجة ضغط الانفجار. شدّته وهي تحاول الفرار من بيت أبيها. حملت طفلتها كأنها فراشة بيضاء. داست على الزجاجِ المهشّم.  خرجت ممتلئة بالدخان والرماد. أناملها ترتجف حول رضيعتها. شفاهُها تفقد لونها ثم تبتسم. يمرّ المشهد وتحقق رجاءها بالنجاة وإنقاذ طفلتها، ولكنها لم تعلم أن هدفها في الخروج من هذا المشهد كان أسهل مما سيأتي، أو أنه الأخفُّ وطأة من أن تعترضها محنة قادمة ربما تفرض هدفا آخر تمامًا. 
   البيت المقصوف دخلته أمس فقط، بعد غياب طويل. ارتاحت إذ عادت إلى بلدة أهلها ووجدته ما زال قائمًا سالمًا. هنا تربّت أسمهان عشرين سنة. كبرت يتيمةً لشهيدٍ من الجليل. كان قد "دَشَر" مراوغًا الاحتلال قبل أن يُقتل. 
لم "تدشر" أسمهان فرحات عن مسقط رأسها ولا تركته إلا حين تزوّجت شابًا مسعفًا وسيمًا من جنسيّة أمها اللبنانيّة ومن دين أبيها المسلم. سكنت معه في بلدة جنوبية قريبة. بعدها مرّت سنتان على أسرتها الصغيرة كأنهما يومٌ واحد. لكن الأيام تمرّ منذ شهر كأنها دهر.
 انهمر قصفُ الطائرات الصهيونية على بلدة زوجها أثناء حرب إسناد غزة، أصيب بيتُها. شابه بتصدّعه أغلب البيوت حوله. نجت هي. وأصابت شظية ساقَ طفلتها. مكثت تحملها في المشفى أسبوعين ذاخرين بالسهر والدموع والوجع والجوع والوحدة أيضًا. 
الزوج "عباس" كان بعيدًا غريبًا. كان يجول ساحبًا جريحًا أو محاولًا إنقاذ طفل من تحت الأنقاض في مكانٍ ما. آخر مرة غادر إلى الواجب كما قال، ورجاها أن تسامحه.. وظل قلبها يقول إنه على قيد الحياة. 
فرّت أسمهان إلى هنا.  حين خرجت من الباب المكسور منذ قليل لم تهتزّ أناملها لأن دار أبيها هو أولُ منزل يُعشق، بل لأنه ثاني منزل يقصف. يقع القصف ملاصقا من دون حضور زوجها الذي فقدت الاتصال به.
أمس، عندما دخلت أسمهان دار الأهل تذكرت كم كانت تمدح قريتَها  وتقول إنها تشبه معبرًا بين لبنان والبقعة الجغرافية التي  تسمّيها شرفة ساحرة تطلّ على الغالية فلسطين. دخلت وراحت تتلو ذكرياتها لابنتها. لم تظهر حالها كحال أمٍّ تبكي على جراح وليدها. بدت كأنها استساغت مأساتها، وهي تكتب على جبس ساق الطفلة اسمها وعمرها مقلدة أهالي غزة. ثم بدت وكأنها محلّل سياسي في حضرة مذيع يستنطقه. 
"كنت يا ابنتي سأحدثك عندما تكبرين عن النسيج الاجتماعي في بلدنا، نسيجٌ آمل أن تكون خيوطه كلها قد تعاطفت مع فجائع غزة وبطولاتها أو لنقُل أكثرية خيوطه. كنت سأحدثك عن التنوّع الديني والسياسي بين سكان قرانا. 
"خلص" سأترك أحاديث قريتي، لأخبرك عن عذابات بقعة العزة الأصغر والأضخم في العالم.. سأروي لك وأجعلك تروين؛ عن أطفال مظلومين ما انفكّوا يتألّمون حتى الموت بلا طعام ولا دواء، عن أخوة لهم صارت تُفرحهم رؤيةُ صاروخ يُرمى على ظالمهم، عن..". 

 

ظلّت أسمهان ليلا تلهج ببنات الشفاه الذابلة. تحت هدير طائرة الاستطلاع "MK"، وظلّت تحاول التحرك.  حقيبة الرحيل الاحتياطية جاهزة طبقا لوصية زوجها. غيّرت "حفّاضة" الطفلة. حضّرت وجبة الحليب. أطعمتها، وسقتها الدواء وهي تلهج: "حسرتي على أطفال فلسطين أين الحليب والحفاضات والأدوية منهم!".
  بعد شروق الشمس وقعت غارة قريبة. صُدمت اسمهان؛ حتى هنا تلاحقها النار؟ إنها المرة الأولى بعد عملية "طوفان الأقصى"،  يصل القصف بلدة معروفة بأنها ليست كما يقولون "بيئةً مقاومة". كانت في المطبخ تنظر إلى الماء ومغلف "النسكافيه" ولا تمتدّ يدها لإعداد فنجان. وفجأة، كأن عاصفة حارّة دفعتها من المطبخ نحو باب المدخل. على وقع الخوف تناولت طفلتها واقتربت من الباب وراحت تشده لتخرج. 
.. وخرجت متقوّسة على الطفلة، لا تستطيع الكلام. ملأ الرمادُ المنتثر من الردم وجهها وثيابها ووصل حتى شعرها تحت المنديل. راحت تنظر بعينين صغيرتين نحو جمع من الناس حولها.
جحظت عيناها، وعَبر نظرُها إلى  مسافة مئة متر، وصل إلى التجويف الصخري أمام باب بيت الجيران، كان هناك تمثال أبيض للعذراء مريم. أصبح ركامًا. وقفت الجارة عنده تولول ثم ركضت للنجدة.  
فتحت أسمهان شفتيها تريد قول شيء. لم تستطع النطق. 
 نفضت السيدة أمّ شربل الغبار عن ابنة جارتها وطفلتها. وهتفت بزوجها الكهل: 
-    "هات ماي بسرعة، بنت ماري الخوري هون!".  
هرع أبو شربل منفّذا المطلوب ثم أحضر الاثنتين (بنت ماريا وابنتها) إلى بيته. انتهت الغارة "الصغيرة".  بعد أقل من ساعة حاولت أسمهان برغم طنين أذنيها الشكرَ والاعتذار، وهمّت بالانصراف لسحب احتياجاتها. لم تتمكّن. ألقت برأسها على كتف أمّ شربل الجالسة على كنبة المطبخ. لكنها سرعان ما رفعت نفسها حين تلقّتها أم شربل باللوم قائلةً: 
- "لماذا فعل المقاومون ما فعلوا يا "إسّو" ما لنا وللإسناد؟". 
 لم تجب أسمهان. اكتفت برسم بسمة طفيفة مع سماعها اسم الدلال الذي أطلقته عليه أمّها قبل وفاتها بسكتة قلبية. انتبهت للجارة تُنهي كلامها: "لقد عرّضوا أنفسهم للهلاك!"..
صمتت على استغراب ودهشة. تساءلت وأسرّت تساؤلها:  "هل تحمّلين الضحية مسؤوليّة تشرّدها الشخصيّة!؟".
بادر أبو شربل إلى الذهاب لإحضار أغراض "إسّو" من بيت أبيها. حضنت هي طفلتها وراحت تنتزع منثور زجاج ورمل من شعرها الصغير. حين صرخت الطفلة ونفضتها أمُّها اكتشفت زجاجًا عالقا في حفّاضتها.
عاد أبو شربل ودخل من ناحية باب خاص خلف المطبخ، ومثل الهائم على وجهه، أخبر بما لم يكن بالحسبان: "لقد وصل إنذار من المحتلين بإخلاء المنطقة لمن يريد البقاء على قيد الحياة". علّقت أسمهان:
- "ماذا!؟ إنه التهديد الأول هنا.. منذ بداية تنفيذ خطط الصهاينة وهم لم يقتربوا من هذه البلدة. أليس قد يكون التهديد كاذبًا؟ هل هو ربّما.. ربما إرهاب نفسي؟". 
عمّ صمت ثقيل وباغتت الهواجس رأس أسمهان؛ "العدو لم يحقق هدفه حتى الآن في غزة، بعد أكثر من عشرة أشهر من بداية جرائمه. فلماذا يُخلي هذه المساحة الجغرافية هنا في لبنان؟ أي "أجندة" او خارطة سيعمل عليها؟  هل يبتغي بقصفه تقليب الناس على إرادة المقاومة في قرى غالبية سكانها من المسيحيين؟".
سريعًا حملت أسرة أبي شربل ما خفّ وزنه وغلا ثمنه. وضع ما تيسّر لعيش ضروري في سيارته الزيتية  ال "هيونداي". حمل حقيبة أسمهان الصغيرة إلى المقعد الخلفي. أجلسها مع ابنتها بجوار حقيبتها. 
شغّل المحرك وتقدّمت السيّارة. إنها تخرج من قريةٍ ما انفكّت مسالمة في كثير من الحروب. طالما سمع أهلها دويّ الصواريخ وقصف الطائرات على القرى المجاورة ولكن ردّ الفعل حافظ على الحياد تقريبًا.
دقائق مرّت وأخذت ال"هيونداي" موقعها في صف طويل قبل نقطة الإشارة الضوئيّة بين مفترق طرق. الصمت ما زال ساريّا في النفوس والأحاديث مؤجّلة. بدا كأنه يوم حشر في القرية، والناس ينزحون. بعض منهم يحملون النرجيلة! ربما يظنون أنهم في نزهة ريثما يعودون بعد قليل. طنين طائرة الاستطلاع لا يتوقف. 
أمّ شربل تحكي  بتوتر، فتنقل عن جارتها أم محمد قولها: 
- " نعم جارتنا أم محمد كانت بنفسها تسأل: بماذا أفادوا غزة؟ هل يمكن تحدّي الطائرات؟ ما أنجحهم بالتهويل بأنهم أقوياء، وهم يقفون باللحم الحي، وها هم ينهزمون! ".
يُكمل زوجها:
- "وأيّ لحم حيّ؟! لحمُ الناس المدنيين الأبرياء. شو بدو الواحد يحكي.. يعني أليس المقاومون يتحمّلون مسؤوليّة تهجيرنا وعذابنا؟ من حرّك وكر الدبابير؟ لماذا لا يوقفوا ما يسمّونه الإسناد؟ وماذا نستفيد نحن من الإسناد؟".
    سعلت أسمهان. دماغها يخبرها بأنهما يعلمان تأييدها المقاومة اللبنانية وخصوصًا الإسلامية نفسيّا وعمليّا.  وهما يعلمان بانزعاجها من وجهة نظر لا تفيد أحدا أكثر من "العدو". 
أرادت أن تتكلّم وتقول:
" هل يحتاج هذا العدوان الغادر إلى ذريعة؟ إنه يرسم الخطط من عقود لتحقيق أطماعه.  كيف أتحمّل كلام هؤلاء الجيران؟ كيف أتحمل أن يضعوا الضحية في موضع أنها هي نفسها سبب موتها. هم سمعوا ورأوا عدوان البيجر الموصوف والدليل على أن ما حدث مقرر من زمان.. كلا، لا حاجة لأن أنطق وأناقش الآن.. ولكن..". 
يسيل لعاب الطفلة والغثيان يكاد يُرجع ما في معدة أسمهان نحو حلقومها من دون استفراغ. تفتح سحّاب حقيبتها الصغيرة. تهمّ باستخراج طرف منشفة بيضاء. وفجأة يصل إنذار ثان. تناقلت شاشتان عبارة عن صفحة جيش الاحتلال: "خلال ساعة، على النازحين من المنطقة المحددة على الخريطة باللون الأحمر، الذين يريدون النجاة أن يرفعوا راية بيضاء".
تحاول الجارة فورا نزع المنشفة البيضاء من أسمهان. تهتف: "سنرفعها أو نلوح بها". تشهق أسمهان، وتشد المنشفة،  ثم تنطق بصوت عالٍ:
-    " لا والله..صدّقوني صدّقوني كلُّه في كَفّة، وفكرة أن نرفع راية بيضاء الآن في كفّة ثانية".
تأفّفت أم شربل وردّت:
- "شو عم تحكي؟ يا عيني، واجبنا حاليًّا هو حماية أرواحنا!".
أجابت اسمهان:
- "ولكنهم يا خالتي، فعلوها مع الغزاويّين سابقًا. قتلوا بالقصف المتعمّد نازحين نرحوا لحماية أرواحهم. كلنا رأيناهم يفرّون بناءً على أوامر الاحتلال.  رفعوا الأقمشة البيضاء لكنهم قُصفوا. تبعثروا يا خالتي أشلاء، واحترقوا، فكيف ولماذا نصدّق الآن أن المجرمين ذاتهم سيتركوننا؟"..
- "ماذا يفعل الخائف؟ الغريق يتمسّك بقشّة يا إسو.. رحم الربُّ أمَّك.. هاتها هاتها..".
تمسّكت أسمهان بالمنشفة ودسّتها تحتها.
قال أبو شربل:
- " حتمًا نرفع الراية البيضاء لأجل إنقاذ الأرواح.. هي الأولويّة حاليّا".
مؤقّت مهلة الإنذار بدأ. 
أسمهان تحضن الطفلة. تقاوم دموعها تمسح على جبس ساقها فيما تقول هامسة لها كأنها تحكي مع نفسها: 
- ".. أي محنة هذه؟ لكن كلا لن أبكي! أنا خبّأت أدمعي ليوم مختلف قادم؛ يوم عودة ولقاء. لكن الآن ماذا؟ هل أسقط في نظر نفسي؟ ينهشني الصراع بين تنفيذ خيار العدو وخياري. أكاد أفقد الاستيعاب لما يحدث.. لو رفعنا راية بيضاء ألن يكون ضعفا؟ ولو لم نرفعها أنرمي أنفسنا في التهلكة؟".
  تقاطع أم شربل خواطر محدّثتها: 
- " تذكّري  نحن مسيحيّون يا إسّو.. لن يقصف..".
- "بل تذكروا أنتم مجزرة المعمداني..يا جماعة! أولئك ساديّون.. لا يهمهم إلا البطش ولا يرتوون من الدماء. هذا العدوّ كما لا يفرق بين حماس وحزب الله، فهو لا يفرق بين المسيحيين والمسلمين في أرضنا".
ذبلت عيون أم شربل وسط تجاعيدها الستينيّة وهي تحرك رأسها يمنة ويسرة. فزوجها لا يستطيع ترك السيارة ليحاول إحضار راية بيضاء ما من الحقائب في الصندوق.
تغرق أسمهان في شرودها وتناجي زوجها: 
"أين أنت يا عباس؟ عينيّ جافة. يدي قاصرة. قيودي ثقيلة. هل أترجّل لأجل المكوث بطفلتنا هنا؟ هل نموت معًا بعد أن وجب عليّ تحييدها بإنذار الإخلاء؟ وأي إنذار هو قبل لحظات من إطلاق الوحشية! آه أظن الواجب هو الفرار من تحت حد السكين، لكن هل نهرب تحت راية بيضاء؟  أنطلب الأمان من قاتلنا؟ لعنه الله ولعن أمانه".
  كانت الأفكار تتوالى في رأس أسمهان، حين وجدت أم شربل قميصًا أبيض اللون وخطفته من كيسٍ محشور بين المقعدين الأماميين والخلفي. عالجته ليبدو أكبر حجمًا. رفعته بيدها لأعلى ما تستطيع.  
لم تعترض أسمهان. عدّت ما تفعلُه أمُّ شربل هو قرارها وحقّها. والسيارة التي تطلّ منها الراية البيضاء هي ملكُ زوجها.
الدقائق تمرّ، لا يتوَقُّف الزمن. ليس هناك "مجال" لتغرق أسمهان في التفكير أكثر، أو لتقرّر بشأن بقائها أو نزولها. الدقائق عابقة بعفونة وتنهّدات كانت آخرَ ما تذكرته أسمهان من الحدث. الدقائق تهرب. تفتح جريحةٌ عينيها في المشفى مكسّرة العظام  ملفوفة الرأس، مبتورة الكف. تصرخ باسم طفلتها عاليا. لا يخبرها أحدٌ عنها تحديدًا. لا يخبرونها سوى أن المحتلّ المعتدي أغار على طابور سيارات النازحين وأن الرايات البيض صارت حمرًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد