أوراق ثقافية

آفاق جديدة للكاتب العربي على منصة واتباد

post-img

منذ بدايات اعتماد المستخدمين على البريد الإلكتروني، مرورًا بعصر المنتديات والمدوّنات الشخصية، وصولًا إلى شبكات التواصل الاجتماعي العامة والمتخصصة، خاض المبدعون رحلة متواصلة للبحث عن المنبر الأمثل الذي يتيح لهم إيصال أفكارهم وأعمالهم الإبداعية إلى جمهور أوسع.

لوقت طويل، انحصر تأثير هذه المنصات على المبدعين في الجانب التقني، أي في أدوات النشر وآليات الانتشار، من دون أن تترك أثرًا جوهريًا على طبيعة المحتوى أو بنيته الفنية. فطالما ظل الهدف يتمثل في الوصول إلى أكبر شريحة من القرّاء، بقيت العلاقة بين الإبداع والوسيط محكومة بمعادلة "كيف أنشر؟" بدلًا من "ماذا أكتب؟".

غير أن التحول الرقمي الذي بات جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية بعد أن أصبح العالم بأسره على الشبكة، فرض واقعًا جديدًا. لم تعد المسألة تتعلق بمجرد اختيار منصة، بل بطبيعة الحضور الإبداعي نفسه، الذي بات يخضع لتحولات في الشكل والمضمون، بل في القيمة الفنية. ورغم أن المشهد الإبداعي لا يزال يشهد منافسة قوية في مجالات الرواية والشعر والقصة وغيرها، مع سعي دائم نحو تطوير الثيمات وتجديد أدوات التعبير، تكشف نظرة فاحصة إلى سوق النشر الرقمي عن تراجع ملحوظ في النظرة الإبداعية العميقة. هذا التراجع لا يمكن إرجاعه فقط إلى الجمهور وذائقته، بل يُعد نتيجة مباشرة لهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي، التي غيّرت منسوب الانتباه، وسرعة الاستهلاك، وشروط الانتشار، ما أثّر بدوره على مستوى الإنتاج الفني وعمقه.

الشباب وقفزة النشر على "واتباد"

يمكن التوقف عند شبكة "واتباد" العالمية، وقراءة ما يُنتَج فيها لمقاربة الفكرة. فهي، ومنذ تاريخ تأسيسها تطبيقًا في العام 2006، ضمن مرحلة ثورة الهواتف الذكية، تسعى إلى تقديم مساحة لتبادل الكتابات بين المستخدمين. واليوم، بعدما أصبحت شبكة عملاقة نسبيًا (يستخدمها أكثر من 100 مليون مستخدم نشط شهريًا، وتدعم 50 لغة حية)، خلقت لكل من يرغب مساحة مجانية لنشر ما يكتبه، ضمن أقسام تتوزع بين القصص والروايات والشعر. ومع انتشارها بين فئة الشباب الطامحين لدخول عالم الكتابة، تحوّلت إلى منصة مرغوبة، ذات عالم خاص، يمكن الاكتفاء بها وحدها ما دامت توفّر عددًا هائلًا من القرّاء مقارنة بعدد قرّاء الكتب الورقية والإلكترونية. كما يمكن الاستثمار فيها، بعدما أصبحت منصة ربحية يمكن للمستخدم أن يربح من خلالها المال، بحسب قدرة نصه على جذب أكبر عدد من المتابعين المتفاعلين.

أصبح في إمكان أي كاتب عربي أن ينشر فورًا من دون رقابة

تبدو الأمور طيبة في الظاهر، ولا تحتوي على مشكلة، إذ إن التدقيق في ما يُنشر في هذه المنصة، ولا سيما بين المستخدمين باللغة العربية، يوضح عددًا من النقاط الإيجابية: فهنا ثمة "ديمقراطية" في الكتابة والنشر، حيث إنه قبل ظهور شبكات التواصل عمومًا، و"واتباد" خصوصًا، كانت الكتابة الأدبية في العالم العربي محصورة في الصحف، ودور النشر، أو المنتديات. أما الآن، فأصبح بإمكان أي شخص أن ينشر قصته فورًا، من دون رقابة مؤسساتية أو حاجة إلى علاقات أو تمويل. وقد أدى ذلك إلى كسر الهيمنة النخبوية على النشر، وسمح بظهور أصوات جديدة، خصوصًا من الفتيات والمراهقين. كما أتاحت هذه المساحة للشابات، في البيئات المحافظة، أن يخرجن من وراء الأسماء المستعارة بأصواتهن للتعبير عن تجاربهن وأفكارهن.

كما ظهرت قصص تتناول قضايا اجتماعية محظورة أو مسكوتًا عنها، مثل العلاقات، والزواج القسري، والتحرش، وغيرها، لكن بصيغة قصصية خيالية. كما ساهمت المنصة في ضخ الدم في أنواع أدبية ينتجها المتلقّون، فتلقى رواجًا واسعًا، وهم يحاولون السيطرة على السرد في الروايات الشهيرة التي يقعون في حبّها (ظاهرة "الفان فيكشن")، ليعيدوا تشكيلها وفق تصوّراتهم، أو إعادة محاكاتها. كلّ هذا يحدث ضمن مجتمع قرّاء وكُتّاب قائم بذاته، يحتوي مساحة تفاعلية نشطة، تتضمن التعليقات والإعجابات والتصويت.

بالطبع، لم تكن الأنشطة هنا مخفية عن الجهات التي تبحث عن محتوى يمكن نقله إلى الشاشات؛ فبعض جهات الإنتاج الدرامي تعوّل على منصة "واتباد" في أن تقدم مادة ترضي حاجة السوق، ما دام الكتّاب فيها يعملون وفق إيقاع الحلقات المتسلسلة كما في المسلسلات الدرامية. غير أن ما يسيل له لعاب المستثمرين في السوق السمعي-البصري، يشكّل مبعث قلق لدى بعض القائمين على سوق النشر الورقي والإلكتروني، وتحديدًا أولئك الذين يحاولون تقديم المادة الرصينة. فالوضع القائم في الحالة العربية لا يشبه غيره في أسواق النشر باللغات الأخرى كالإنكليزية والفرنسية، التي تنتعش تسويقيًا ما دامت تتوجه إلى هواة الصنف، وفق معايير ثابتة لا تسمح بالخلط بين الأنواع.

وباء الفتاة الباهتة

على سبيل المثال، يمكن استدعاء حالة الكاتبة الجزائرية الشابة سارة ريفنس، التي اشتهرت في "واتباد" باسمها المستعار The Blurred Girl (الفتاة الباهتة)، وصارت في عام 2023 صاحبة أعلى نسبة قراءات في العالم. فبعد أن حقق الجزءان الأول والثاني من روايتها "الرهينة"، التي تنتمي إلى نوعية "الرومانسية السوداء"، أكثر من 17 مليون قراءة، توجهت نحوها دور النشر، وحصلت دار "هاشيت" المتخصصة في طبع الكتب الموجّهة إلى الشباب على حقوق النشر، وصدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء بانتظار الرابع في الشهور القادمة.

حتى اللحظة، لا يوجد مثال عربي يمكن من خلاله طرد مشاعر الخوف والقلق من الناشرين العرب إزاء هذه الظاهرة الجديدة. فرغم نجاحها في "واتباد"، تتعرض القصص العربية لانتقادات المختصين بسبب ضعف اللغة والأسلوب أحيانًا، وكذلك الطابع المكرر والسطحي لبعض القصص، والانفلات في التعبير عن العلاقات العاطفية، وصولًا إلى عتبة الكتابة عن العلاقات الجنسية، باستخدام لغة مبتذلة.

يمكن إحالة ما يجري في هذه المنصة إلى مسار ضروري في تطوّر التعبير الرقمي الشعبي. ولكن، هل يمكن أن تُحال إليه أسباب تردّي الذائقة العامة في كل المجالات؟ هنا ثمة مغالاة في تقدير حجم "الاختراق" الذي تفعله كتابات المشتركين في منصة "واتباد"؛ فمن جهة أولى، يُطرح السؤال عن عدد القرّاء الفعليين قياسًا بعدد السكان أو مستخدمي الشبكة، أي أولئك الذين يطّلعون على هذا النتاج، وأيضًا تُوضع علامة استفهام حول تبنّي وسائل أخرى له وقيامها بنشره خارج المنصة.

إذا قُيّض للباحثين قراءة واقع الأمر من خلال هذين المعيارين، يمكن الاستنتاج – بشكل أولي – أن تردّي الذائقة أوسع بكثير من منصة "واتباد"، وهو سابق لوجودها. ويمكن، بقليل من التمحيص، اكتشاف أن الشكوى من تردي الآداب ظاهرة ملازمة لها منذ نشأتها، فالجمهور ينقسم دائمًا بين تقليدي يثبت أقدامه عند معايير قديمة، بينما تأتي الظروف بمن يكسر القواعد ويحصل – في النتيجة – على تقييم سلبي من سابقيه.

لكن، رغم وجاهة هذه الخلاصة، ثمة مسؤولية تقع على دور النشر العربية عمومًا، ما دام حديثنا يتعلّق بقضايا الآداب المكتوبة. فهذه الدور، وحتى اليوم، لم تُنجز قواعد عمل ثابتة تتكفّل بوضع الأعمال المرشحة للنشر ضمن إطار فلترة يقوم بها مختصون من محررين محترفين ولجان قراءة موثوقة. كما أن بعضها، وتبعًا لطبيعتها التجارية، مستعد لطباعة الرداءة في حال تكفّل المؤلف بدفع تكاليف طباعة ما دوّنه على شكل كتاب.

قبل هذا كله، لم تنتقل التصنيفات الراسخة للأنواع الفنية، التي تتيح للقارئ الذي يحب نوعية معينة أن يجد طلبه بشكل واضح، من عالم النشر الإلكتروني إلى السوق الواقعي، إلا فيما ندر. ولهذا، تجد أن القارئ الذي لا يرغب في أن يخسر ماليًا بشراء كتب لا يلحظ ناشروها عدم قدرته على مواكبة أسعارها العالية، يتجه إلى منصات تسويقية بعضها مدفوع، وبعضها الآخر مجاني، لعلها تقدم له ما يُسليه ويمتعه.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد