بدر الحاج/ جريدة الأخبار
يشكّل عيد التحرير واندحار الجيش الصهيوني عن أرض لبنان هذا العام معضلة في وجه السلطة اللبنانية. إنه العيد الوطني الوحيد الذي تفتخر به الأكثرية الساحقة من اللبنانيين الذين قدموا نهرًا من الدماء لتحرير الأرض من الغزاة الصهاينة ومنعهم من التحكم بمصير لبنان وفرض معاهدة استسلام عليه.
أعتقد أن السلطة تريد تجاوز هذا الحدث بأقل الخسائر الممكنة. ويلها من الذين اختاروها لحكم لبنان إذا احتفلت بالمناسبة، وهي غير مقتنعة بها أصلًا، وويلها إذا تجاهلتها فالتجاهل يفضح أكثر فأكثر حقيقة موقفها السلبي من ذلك الحدث التاريخي. البعض في لبنان يتمنى لو أن التاريخ يرجع إلى الوراء ويعود الاحتلال والقوات المتعددة الجنسيات إلى بيروت. هدفهم هذا واضح في ممارساتهم وتصريحاتهم اليومية التي لا تتمايز عن تصريحات العدو. في خلاصة الأمر يريدون، إذا تمكنوا، إلغاء التاريخ الناصع للمقاومين من ذاكرة الشعب اللبناني.
حتمًا يتذكر الجميع أنه للمرّة الأولى في تاريخ العرب الحديث طُرد الصهاينة من الأرض المحتلة بالسلاح وليس بالديبلوماسية وإستراتيجية «البرستيج». كثيرون سيحاولون تسخيف الحدث، وهذا مؤكد، لكن الشمس لا يمكن حجبها بالغربال.
لم يسبق أن شهد لبنان حدثًا بهذه الأهمية منذ تأسيس كيانه السياسي. كان للنصر الذي حققته طليعة مقاتلة من اللبنانيين طعم مرير لدى الصهاينة والغرب وبعض الأنظمة العربية، ويأتي في الطليعة أولئك اللبنانيون الذين خسروا رهانهم على جيش العدو. وإذا كان يوم النصر فرحًا وفخرًا لكثير من اللبنانيين والعرب، فقد كان أيضًا بداية الإعداد والتحضير والعمل المتواصل على مختلف الجبهات كي يدفع المقاومون اللبنانيون ثمن نصرهم الذي هو كذلك فضيحة للأنظمة العربية التي تآمرت على فلسطين منذ ما قبل النكبة في العام 1948، وبصورة خاصة النظام اللبناني.
أنفقت مئات مليارات الدولارات، باعتراف الأميركيين أنفسهم، لتشويه صورة المقاومة، وخاضوا حربًا إعلامية تكرر ادعاءات العدو. لكنهم فشلوا عند كل منعطف. استعملوا سلاح الفتنة الدينية ولا يزالون، لكن المقاومة في لبنان تجاوزت كل مؤامراتهم بحكمة. ورغم ذلك قرروا مواصلة حربهم وبالأساليب كافة لوأد فكرة مقاومة المشروع الاستيطاني الصهيوني والتي تجذّرت بالممارسة لدى مئات آلاف الشباب والشابات في لبنان.
مرة أخرى حاول الصهاينة التعويض عن خسارتهم وحاولوا التقدّم داخل أرض لبنان في تموز 2006 وفشلوا فشلًا ذريعًا. أدرك الجميع أن هذا البلد الصغير الحجم وذا الإمكانات الاقتصادية القليلة جدًا استطاع بواسطة جيل جديد مؤمن بالدفاع عن أرضه وعن فلسطين تغيير كل المعادلات. إنه أمر لا يمكن تصديقه بالنسبة إلى كثيرين، ولا يمكن إطلاقًا التعايش معه.
لا بأس إذا ما عدنا قليلًا إلى التاريخ لعقد مقارنة بين ما حدث سابقًا وما يحدث اليوم. المحاولة الوحيدة في تاريخ لبنان الحديث للعمل الجدّي ورفض الخيانة التي ارتكبتها الأنظمة العربية في مأساة الهزيمة في حرب فلسطين العام 1948، قام بها أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. لن نستفيض في إعادة سرد ما جرى، ففي خضمّ الصراع بين سعاده وحزبه من جهة والسلطة الحاكمة من جهة أخرى، استعان النظام اللبناني بأنظمة عربية لتهديد حاكم سوريا وإقناعه بتسليم سعاده.
بالفعل نقض حسني الزعيم كل تعهداته لسعاده وسلّمه لوفد عسكري لبناني بقيادة قائد الجيش فؤاد شهاب. وكان الاتفاق أن يُقتل على الحدود ثم يصدر بلاغ يدعي أنه «حاول التسلل إلى لبنان وأردي قتيلًا». لم ينفذ السيناريو ونقل سعاده إلى بيروت. تكتل زعماء جميع الطوائف اللبنانية ووقعوا وثيقة إعدامه في محاكمة صورية استمرت بضع ساعات. سعاده ورفاقه فضحوا هذا النظام المتواطئ مع الصهاينة كما تثبت جميع الوثائق الصهيونية والأبحاث الأكاديمية التي نشرت لاحقًا.
السؤال المطروح بعد مرور عقود على تلك الجريمة: لماذا أسرعت السلطة اللبنانية إلى إعدام الرجل ورفقائه بلا تردد ومن دون مسوغ قانوني؟ الجواب سهل جدًا يجده أي باحث تاريخي في كلام سعاده الذي لم تتحمله العصابة الطائفية الحاكمة عندما أعلن قبل نكبة فلسطين بحوالى العام أن الهزيمة في فلسطين وقعت! وسبق له أن تحدّث عن المحظور في خطاب عودته إلى الوطن في 2 آذار 1947 بعد نفي قسري دام حوالى تسع سنوات ونيّف: «ولعلكم ستسمعون من سيقول لكم إنّ في إنقاذ فلسطين حيفًا على لبنان واللبنانيين وأمرًا لا دخل للبنانيين فيه.
إنّ إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إنّ الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات». هذا الكلام استوجب إصدار مذكرة توقيف بحقه. كلامه أصاب منهم مقتلًا.
لا ضرورة للاستفاضة بما حدث بعد ذلك. فالسلطة التي شاركت في الخيانة العربية لم تتحمّل ما أعلنه سعاده قبل شهرين ونيّف من قتله في خطاب ألقاه في برج البراجنة بتاريخ 25 أيار 1949 بقوله إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يخرّج ضباطًا ويعمل من أجل فلسطين. موقف سعاده الحاسم دفع أهل السلطة منذ ذلك التاريخ إلى اتخاذ قرار تصفية هذا المنطق المقاوم.
فضح سعاده السلطة التي استعملت الكتائب اللبنانية للهجوم على جريدة «الجيل الجديد» في 9 حزيران 1949، وقال في بيان أصدره في 16 حزيران: «لا شك عندي أن الحكومة رمت من وراء حملتها الفجائية إلى هدف ثانٍ هو إنقاذ معنوياتها المحطمة بعد خزي فلسطين وعار الهدنة والاتفاق مع اليهود، بل هي أرادت بواسطة تحريك الجيش ضد الحزب القومي الاجتماعي، شغل الرأي العام بهذه المعركة التي أقحمت الحكومة نفسها فيها عن الاتفاقية التجارية التي أرادت الحكومة عقدها مع دولة اليهود التي تهدّد الدول السورية جميعها وفي صدرها دولة لبنان بالاجتياح والتسلط اليهودي.
يظهر أن الحكومة والتشكيلة الطائفية المدعوة «كتائب» والكتلة الطائفية المدعوة «الوطنية» قد استاءت من تصريح الزعيم في اجتماع برج البراجنة أن الحزب القومي الاجتماعي يعد جيشًا لاسترجاع فلسطين، فلم يبق أمامها إلا إعلان الحرب على الحزب القومي الاجتماعي إرضاء لليهود».
هذا الموقف يلخّص المؤامرة التي أدّت إلى قتل سعاده وإعدام ستة من رفقائه اختيروا وفقًا للتصنيف الطائفي، واستبدل الماروني بالكاثوليكي بناء على رغبة بشارة الخوري.
الحرب المعلنة على المقاومة اليوم تشبه في أساسها الحرب على سعاده والقوميين الاجتماعيين. خلاصتها أنه يُحظر على اللبناني التضامن العملي مع نضال الشعب الفلسطيني. وإذا كان قد التفّ حول سعاده بضعة آلاف في أواخر الأربعينيات، فالوضع اليوم مختلف لأن هناك مئات الآلاف من الذين يؤمنون ويعملون على أساس أن فلسطين هي قضية لبنانية في الصميم.
لقد توهّم من وقّع على قرار إعدام سعاده أنهم قضوا إلى الأبد على توجّهه المذكور أعلاه. لكن أوهام القتلة تبخّرت، وانطلق شباب لبنانيون بعد عقود على استشهاد سعاده ليسيروا على الطريق الذي سبق أن سار عليه. من هنا نفهم اليوم ما نشاهده ونقرأه في الإعلام الموبوء من ذم المقاومين اللبنانيين.
سبق لنا أن واجهنا عبر السنوات هذا النظام المذهبي العنصري وحيدين، وكانوا يقتلوننا ويعلنون في بيانات المخابرات اللبنانية في عهد فؤاد شهاب «حاول الفرار فأردي قتيلًا». وفي الواقع جميع القوميين قتلوا تحت التعذيب في أقبية الأمير الشهابي. المير بشير الثاني كان يفقأ العيون ويبطش بالمنافسين، والمير الجديد كان زبانيته يحولون الأجساد إلى كتل من لحم وعظام.
هذا تاريخ لن ننساه، وكذلك لن ننسى ما يحدث اليوم للمقاومين وهو يشبه إلى حد ما ما حدث لنا، ذم وتحقير وشتم وتخوين. هناك جحود وغدر وعنصرية مقيتة تتجلى اليوم أكثر من أي يوم مضى. في العام 1949 كانت الصحف وأجهزة الإعلام تضخ ادعاءات السلطة بعلاقة سعاده مع الصهاينة، وتصدر جريدة «الأهرام» المصرية في صفحتها الأولى «أنطون سعاده في إسرائيل». كل ذلك سقط وتبيّن أن أهل السلطة كانوا يتفاوضون مع إسرائيل.
حرب التحرير تاريخ ناصع كُتب بدماء اللبنانيين أبناء القرى والأرياف الذين ذاقوا مرارة الحياة تحت الهيمنة والاعتداءات الصهيونية المتواصلة منذ ما قبل قيام دولة العدو. ولولا تلك التضحيات لكان - من دون أدنى شك - من يحكم لبنان اليوم ضابط إسرائيلي أو من ينوب عنه من المرتزقة اللبنانيين وهم كثر.
آخر هموم السلطات المتعاقبة على الحكم في بيروت كان الاهتمام باللبنانيين الذين هم ضحية العدوانية الصهيونية. مُنع لبنان الرسمي من شراء أو قبول أي سلاح يعتبره الغرب تهديدًا لأمن العدو. وكان على اللبنانيين في الجنوب بصورة خاصة أن يتقبّلوا المهانة والاعتداءات المتواصلة. وعندما حملوا السلاح وقاتلوا ببسالة عزّ نظيرها، انتفضت السلطة وطالبت (قبل وخلال وبعد التحرير) بنزع السلاح بالقوة. واليوم يكررون المحاولة بأمر خارجي، لا يكترثون باحتلال الأرض اللبنانية، ولا بشهداء الجيش الذين سقطوا برصاص العدو، ولا بحياة اللبنانيين الذين يستشهدون يوميًا، المهم تلبية توجيهات الخارج، والاهتمام بالسياحة «الفكرية» للقادمين من الصحراء العربية.
لا ينفع كثيرًا وصف الوضع الحالي، الطفل في لبنان يعرف ماذا يجري اليوم. الصورة واضحة بين ما جرى بالأمس وما يحاولون تنفيذه اليوم. لا يريدون أن يتسلّحوا ويدافعوا عن لبنان، ولا يريدون أحدًا أن يأخذ الأمر على عاتقه ويدافع عن نفسه وأرضه. لبنان ليس ضحية العدوانية والمطامع الصهيونية فقط، بل هو أيضًا ضحية مرتزقته وزعاماته الطائفية المتقاتلة والمتحالفة باستمرار.