سامي حداد/ جريدة الأخبار
في عالم تتكاثر فيه منصّات الترفيه وتغيب فيه المبادئ، وفي زمنٍ بات فيه الانحياز للحق يُعدّ مغامرة مهنية، خرج الفنان الإيطالي ديوداتو عن هذا الصمت القاتل، ليقول كلمته، لا عبر تغريدة خجولة أو تصريح صحافي مقتضب، بل على خشبة المسرح، أمام آلاف الجماهير، وفي قلب أحد أهم المهرجانات الموسيقية في إيطاليا، مهرجان MI AMI الذي أقيم في مدينة ميلانو في أيار (مايو) 2025.
في ذلك المشهد الذي أصبح رمزًا، وقف ديوداتو ورفع علمًا ضخمًا لفلسطين بكل وضوح وشجاعة، من دون مواربة أو خوف من العواقب.
الفن في مواجهة القهر
رفع العلم لم يكن مجرد لقطة عابرة من فنان عاطفي، بل هو امتداد طبيعي لفلسفة ديوداتو الفنية التي لطالما ارتبطت بالقضايا الإنسانية. فالفن بالنسبة له ليس ترفًا ولا وسيلة شهرة، بل مسؤولية. هو الذي قال في مقابلة أجراها خلال مهرجان Voci per la Libertà في يوليو 2024: «الصمت هو شكل من أشكال التواطؤ والفن الحقيقي لا يكتمل ما لم يواجه الظلم».
هذه الكلمات وجدت تجسيدها الكامل في موقفه من فلسطين، التي تعيش منذ عقود تحت الاحتلال والحصار، وتواجه في السنوات الأخيرة تصعيدًا دمويًا غير مسبوق. وبينما يخشى الكثير من الفنانين في الغرب التحدث عن هذه المأساة، خشيةً خسارة مصالحهم أو التعرّض للهجوم، قرر ديوداتو أن يقف حيث ينبغي أن يقف كل فنان يزعم أنه ينتمي إلى الإنسانية.
موقف في لحظة تاريخية
جاء هذا الموقف في لحظة حسّاسة، تشهد فيها القضية الفلسطينية واحدة من أعقد وأقسى مراحلها، مع استمرار الحصار، والإبادة وتزايد وتيرة القصف والاعتقالات والتهجير، ليس فقط في غزة، بل في الضفة الغربية وسائر الأراضي المحتلة. وفي الوقت الذي التزمت فيه العديد من الحكومات العربية والغربية صمتًا مطبقًا، بل وحتى تواطأت علنًا مع العدوان، جاء صوت ديوداتو ليُعيد الاعتبار لأبسط المبادئ: التضامن، والعدالة، والحرية.
على الرغم من بساطة الفعل – رفع علم – إلا أنّ دلالاته كانت عميقة. فهو فعل رمزيّ في الشكل، ثوريّ في المضمون. ورسالة تقول: «أنا لا أنسى، ولا أتواطأ، ولا أقبل بتجميل الجريمة باسم التوازن».
امتداد لمسار إنساني
موقف ديوداتو لم يكن مفاجئًا لمن تابع مسيرته. فهو الفنان ذاته الذي حصل على جائزة منظمة العفو الدولية – إيطاليا لعام 2024، تقديرًا لأغنيته La mia terra (أرضي)، التي كتبها لفيلم يعالج التلوّث الصناعي في مسقط رأسه، مدينة تارانتو. أغنية حزينة، شجاعة، تحمل بين كلماتها صيحة احتجاج باسم الإنسان والكرامة.
ذلك النضال من أجل الأرض والعدالة البيئية هو ذاته الذي دفعه للوقوف اليوم مع أرض فلسطين، حيث الحق مُحاصر والجراح مفتوحة، ولكن الأمل لا يزال حيًّا في ضمير من يشبه ديوداتو.
هل يمكن للفن أن يغيّر العالم؟
ربما لن يسقط الاحتلال لأن مغنيًا رفع علمًا، ولن تتوقف الصواريخ لأن أغنيةً عبّرت عن الألم. لكن التاريخ يخبرنا أنّ اللحظات الكبرى تبدأ أحيانًا بإشارات صغيرة. وما فعله ديوداتو هو تلك الإشارة، التي تقول لجمهوره وللعالم: «أن تكون فنانًا لا يعني أن تغني فقط... بل يعني أن تصرخ حين يُطلب منك السكوت ».
في زمن تتشوّه فيه الحقائق ويُشيطن فيه الضحايا، جاءت لفتة ديوداتو لتذكّر بأن القضية الفلسطينية ليست مسألة سياسية عابرة، بل قضية أخلاقية عالمية، تختبر فيها ضمائر البشر، وتُقاس فيها معاني العدالة والإنصاف.