علي حيدر (الأخبار)
يفاقم الضعف التكويني للبنان، في الجغرافيا والديموغرافيا والموارد الطبيعية، وجوده في بيئة إقليمية تتغيّر بسرعة وبشكل متواصل، ما يجعله معرّضًا بشكل دائمٍ للمخاطر الخارجية.
ويرفع هذه التهديدات إلى مستوى وجودي، مجاورته لعدو توسعي، خبرته المنطقة، ولا سيما دول الطوق، على مدى عشرات السنين. وتُدعِّم الخلفية الإستراتيجية والإيديولوجية لتوسّعيته وثائق صهيونية تُسهب في شرحها تفصيلًا وإيضاحًا. ورغم أن هذا التهديد قد تتغير بعض عناوينه المباشرة وذرائعه، وقد تتنوع أساليبه وتكتيكاته، إلّا أن جوهره يبقى واحدًا: السّعي للتوسّع وفرض الهيمنة.
وأبرز ما يُؤكّد واقعية التهديد الوجودي، وأنه ليس مجرد فرضية أو سيناريو محتمل، الاجتياح "الإسرائيلي" الذي وصل إلى العاصمة بيروت عام 1982، وعدم انسحاب العدوّ بشكل كامل إلّا على وقع 18 عامًا من ضربات المقاومة.
ويُشار في هذا الإطار إلى أن العدوّ لم يكتفِ في عدوانه بإزالة ما يدّعي بأنه تهديد أمني له، بل حاول استغلال المتغيّرات السياسية والأمنية التي كانت قائمة عشية العدوان لتحقيق طموحات إيديولوجية وأطماع توسّعية. وأي غفلة عن هذه الحقيقة أو تجاهل لها، ترتقي إلى مستوى المغامرة بمصير لبنان.
القرارات الدولية... والمقاومة
أثبتت تجارب لبنان مع العدوّ أن القرارات الدولية لا تدفع خطرًا عنه، ولا تُحرّر أرضًا ولا أسيرًا ولا تمنع الاعتداء عليه، ما يؤكد أنها لا تشكّل أي ضمانة لمستقبله. ولا ينبغي أن نغفل عن تجربة الشعب الفلسطيني تاريخيًا، وأخيرًا في غزّة، والتي تؤكد تموضع الدول الكبرى إلى جانب العدو، إلى الحدّ الذي مكّنه من ارتكاب مجازر على الهواء مباشرة، ومن دون أي ردود فعل جدّية.
في المقابل، أثبتت المقاومة أنها الخيار الأنجع في منع استمرار الاحتلال وتحرير الأراضي اللبنانية. من أهم الدروس المستخلصة من تجربة المقاومة وصولًا إلى التحرير عامَ 2000، وما بعده، أن إنجازات المقاومة وانتصاراتها مُؤشّر دالٌّ على أنها الضمانة لمنع الاحتلال، أو استمراره إذا حصل بنسبة أو بأخرى.
وأَضحت هذه التجربة تحدّيًا كبيرًا لكل من يُشكك في جدوى المقاومة، وقوّضت المنطق الداعي إلى نزع سلاحها، انطلاقًا من أنها حسمت الجدل حول ضرورتها ومشروعيتها.
مراجعة تاريخ العدوان ومراحل توسّعه تُظهر بأن ما حال دون احتلال لبنان بشكل كامل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي تضافر عوامل متعددة؛ في مقدّمها أولوية مواجهة الخطر المتمثّل بالرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، وتعدّد التقديرات والآراء داخل منظومة القرار في ذلك الحين، إضافةً إلى المتغيرات السياسية الإقليمية.
وعندما ضمنت "إسرائيل" جبهتها الجنوبية وتحييد مصر في معادلة الصراع، بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، تشكّل الظرف الإقليمي الذي سمح لها بنقل ثقلها العسكري والإستراتيجي باتّجاه الجبهات الأخرى، وتحديدًا لبنان. وتمّت ترجمة ذلك عمليًا في اجتياح 1982.
ارتفاع مستوى التهديد
والمُتغيّر الإضافي الذي يفاقم المخاطر على لبنان في هذه المرحلة، هو أن جبهات العدوّ أصبحت كلها آمنة (باستثناء الداخل الفلسطيني) بعد سقوط النظام السوري السابق وقيام حكم جديد لا يُخفي حرصه على طمأنة "إسرائيل". كما يؤدّي دورًا مهمًا بالنسبة إلى الأمن "الإسرائيلي" يتمثّل في قطع خط إمداد المقاومة في لبنان والتواصل مع عمقها الإستراتيجي في إيران.
هذه المتغيّرات تمنح العدوّ هامشًا أوسع للمبادرة والعدوان، وترفع مستوى تهديده لواقع ومستقبل لبنان بشكل كبير.
في ضوء كلّ ما تقدّم من تجارب تاريخية وحديثة في لبنان وفلسطين، تصبح الحاجة إلى المقاومة أكثر إلحاحًا من أي مرحلة مضت، كونها الضمانة الحقيقية لمستقبل لبنان، بكلّ المعايير والمعاني.
وإدراك هذه الحقيقة وتبنّيها كخيار إستراتيجي أمرٌ ليس ترفًا فكريًا أو خيارًا من ضمن مروحة بدائل، بل ضرورة وجودية لحماية لبنان وصيانة سيادته في وجه التحديات المستمرة.