أوراق ثقافية

رحيل نغوغي وا ثيونغو.. مقاومة استعمار العقل بالأدب واللغة الوطنية

post-img

عن سبعة وثمانين عامًا، رحل، أمس الأربعاء، الكاتب والروائي والمسرحي الكيني نغوغي وا ثيونغو الذي يُعدّ واحدًا من أبرز أعلام الأدب الأفريقي المعاصر، وأحد المرشّحين الدائمين لنيل جائزة نوبل للأدب في العقود الأخيرة.

وُلد نغوغي وا ثيونغو في العام 1938، في الوقت الذي كانت فيه كينيا تحت الحكم الاستعماري البريطاني، وعايش إحدى الانتفاضات المحلية التي قادها السكان الأصليون ضد الحكم الاستعماري، حيث قُتل اثنان من إخوته وهجرت عائلته قسرًا من أرضها. وقد شكّل هذا الصراع الخلفية لروايته "لا تبكِ أيها الطفل" (1964)، والتي نُشرت بعد عامٍ واحد من استقلال البلاد.

كان عقد الستينيات تأسيسيًّا في حياة نغوغي وا ثيونغو وأدبه، متأثّرًا بـ الأفكار التحررية التي عصفت، آنذاك، ببلدان العالم المُستعمَر، ومن هنا جاءت دعوته بصفة محاضرٍ في الأدب الإنكليزي في جامعة نيروبي، لإعادة تسمية قسم اللغة الإنكليزية وتحويل تركيزه إلى الأدب العالمي، متسائلًا لماذا لا تكون هذه الثقافة إفريقية؟ لماذا لا يكون الأدب الإفريقي هو المحور الذي ننظر من خلاله إلى باقي الثقافات؟

في عمله الروائي "حبّة قمح" (1967)، خلق نغوغي وا ثيونغو من قرية ثاباي عالمًا مصغرًا لعموم كينيا مصورًا لها بأنها مستعمرة اجتماعية تدور فيها فكرة أن الاستقلال لا يأتي نيله إلا بالنضال، فيما آثر بعض ناسها الحياد، والبعض الآخر وجد في القادم المستعمر ملاذًا وقوة يجني من خلال التعاون معه ما يبغي تحقيقه بأيسر سبيل. وعلى الرغم من الطابع التخييلي لشخصياتها إلا أن الرواية تستند إلى وقائع وأسماء حقيقية، مثل الزعيم الثوري جومو كينياثا وإياكي. كما أنها تسرد قصة الفلاحين الكينيين الذين حاربوا البريطانيين ثم اكتشفوا أن كل ما حاربوا من أجله قد نُحّي جانبًا.

في العام 1977، تخلّى نغوغي وا ثيونغو عن اسمه الاستعماري "جيمس"، ونشر روايته الشهيرة "بتلات الدم"، التي تبدأ بجريمة قتل لثلاثة مدراء أفارقة في مصنع مملوك لأجانب، لكنها في عمقها تصور خيبة الأمل من كينيا ما بعد الاستقلال، حيث استشرت أمراض الاستعمار من فساد واستبداد. وقد أدّت مسرحيته "سأتزوج حين أريد"، التي كتبها بلغة الكيكويو، إلى سجنه، في أول سابقة من نوعها لكاتب أفريقي يُعتقل بسبب الكتابة بلغة وطنية.

تركت تجربة السجن أثرًا عميقًا في عوالم وا ثيونغو الأدبية، نتيجة إصراره على الكتابة باللغة الوطنية، لكن رحلته السياسية لن تتوقف عند هذا الحدّ، إذ انتقل عام 1982 للعيش في بريطانيا بعد نشره روايته "الشيطان على الصليب"، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية للعمل أستاذًا للأدب الإنكليزي والمقارن في "جامعة كاليفورنيا". ولم يعد إلى العاصمة الكينية نيروبي إلّا عام 2004، وبعد عامين من وفاة الديكتاتور الكيني دانيال آراب موي. ورغم الاستقبال الحاشد الذي حظي به وا ثيونغو سرعان ما اقتحم مسلحون شقته واعتدوا عليه بالضرب واغتصبوا زوجته.

يعدّ أدبُ نغوغي وا ثيونغو بينيًّا، كونه يجمع مواضيع تنتمي لمرحلة سياسية مركّبة؛ إرث الاستعمار من جهة والاستبداد الذي يقبض على السلطة في كينيا من أُخرى، وهذا ما حاول ترجمته في روايته "ساحر الغراب"، التي كتبها بلغة الكيكويو ونقلها بنفسه إلى الإنكليزية، وتدور أحداثها في ديكتاتورية خيالية تُدعى "الجمهورية الحرة لأبوريريا".

واصل وا ثيونغو ترجمة أعماله بنفسه من لغة الكيكويو، وتم ترشيحه لجائزة بوكر الدولية في عام 2021 عن روايته الملحمية "التسع الكاملات" (The Perfect Nine)، حيث كان أول مرشح يكتب بلغة أفريقية أصلية. كذلك حظي أدبه بترجمات عربية عديدة، فإلى جانب رواياته السابقة، تُرجم أيضًا كتابُه "تصفية استعمار العقل" على يد الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف، وفيه يراجع مجمل التجربة الأفريقية الحديثة في الكتابة الإبداعية، واضعًا اليد على الخلل المركزي، وهو الخلل اللغوي، المحدّد في ظاهره باستعمال لغات غير أفريقية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد