في «مهرجان كان السينمائي»، والذي اختتم قبل أيام، خطف فيلم Yes! للمخرج «الإسرائيلي» المثير للجدل ناداف لابيد الأضواء وأشعل موجة من التفاعلات السياسية والفكرية داخل أروقة المهرجان وخارجه.
لا يعود ذلك فقط للغة السينمائية الجريئة التي يقدّمها لابيد، بل للموضوع الحارق الذي يتناوله: تفكيك «الهوية الوطنية الإسرائيلية» من خلال نشيدها الرسمي، «هتكفا»، والتساؤل العميق حول أخلاقية السرد «القومي» في ظل واقع الاحتلال والقمع المستمر للفلسطينيين.
قصة عبثية تسخر من القداسة القومية
يروي الفيلم قصة موسيقي إسرائيلي يُدعى Y يعاني من أزمة شخصية خانقة بعد وفاة والدته، تدفعه إلى الانخراط في مشروع غنائي يموّله منتجون روس، لكتابة أغنية وطنية جديدة «لإسرائيل».
خلال هذه الرحلة العبثية، يقرر Y أن يعيد كتابة «النشيد الوطني الإسرائيلي» نفسه بطريقة ساخرة ولاذعة، تستحضر الألم الفلسطيني، وتنتقد القومية العسكرية المتصاعدة داخل الكيان، من دون أن تُعطي أي مساحة حقيقية للتعاطف مع الفلسطينيين.
بين القومية والهذيان
يقدّم الفيلم مزيجًا من الواقعية والرمزية، حيث يتحوّل «النشيد الوطني» إلى مادة عبثية، وتغدو «الوطنية» عرضًا مسرحيًا بائسًا على أنقاض الحقيقة. يظهر Y في مشاهد متعددة وهو يصارع كوابيسه، يشكك بكل ما تربّى عليه، وينظر إلى مجتمعه بوصفه كيانًا يعيش على إنكار المأساة الفلسطينية.
وبينما يفتقر الفيلم لأي تمثيل فعلي للفلسطينيين، فإن غيابهم في حد ذاته يبدو متعمّدًا، كصرخة صامتة تُبرز مدى التواطؤ الجماعي داخل الكيان تجاه معاناتهم.
صالة العرض بين الدهشة والنفور
عُرض الفيلم ضمن تظاهرة «أسبوعا المخرجين» وسط حضور حاشد من نقّاد ومتابعين، لم يُخفِ كثيرون منهم استغرابهم من جرأة الطرح. وُصف العمل بأنه «جنوني، وعبقري، ومزعج في آنٍ»، بينما رأى آخرون أنه مجرّد نرجسية مخرج يحاول تفكيك «وطنه» من دون أن يقدّم بديلًا أخلاقيًا. إحدى أكثر النقاط إثارة للجدل كانت مشهدًا تتلو فيه جوقة موسيقية «هتكفا » بنسخة مشوّهة، وسط ديكور يشبه ساحات القتل، ما عُدّ تشبيهًا صارخًا بين الرمزية «الوطنية» والعنف الدموي.
ناداف لابيد: «أنا لا أكره إسرائيل، بل أحبها بما يكفي لأصرخ في وجهها»
في المؤتمر الصحافي الذي تلا العرض، ردّ لابيد على الانتقادات بالقول: «أنا لا أكره "إسرائيل»، بل أحبها بما يكفي لأصرخ في وجهها. هذا الفيلم لا يدور حول الفلسطينيين؛ بل حولنا، نحن الذين اخترنا ألّا نراهم». ورفض المخرج اعتبار الفيلم معاديًا «لإسرائيل»، قائلًا إنه «دعوة للاستيقاظ قبل أن نغرق في الجنون».
ردود فعل إسرائيلية غاضبة
على الجانب الآخر، لاقى الفيلم غضبًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والثقافية الإسرائيلية. ووصفته وسائل إعلام عبرية بـ «الخيانة الثقافية»، ودعا بعض الساسة إلى سحب تمويل «الدولة» لأي أعمال مستقبلية للابيد. كما هاجمت جماعات يمينية الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرةً إياه «تحريضًا» ضد رموز «الدولة».
أبعد من السينما… في قلب الصراع
يأتي فيلم Yes! في لحظة تاريخية شديدة التوتر، وسط استمرار العدوان والابادة الجماعية على غزة، وتصاعد الأصوات الدولية المناصرة للحق الفلسطيني. ومع أنه لا يقدّم دعمًا مباشرًا للفلسطينيين، إلا أن تفكيكه «للنشيد الوطني الإسرائيلي» في قلب مهرجان عالمي يحمل بُعدًا رمزيًا بالغ الأهمية، إذ اعتبر كصوت يأتي هذه المرة من داخل «المؤسسة الإسرائيلية» نفسها، ليقول: «نعم، هناك خطأ فادح».