اوراق مختارة

خطاب الهيمنة وأنساق اللغة في رواية "جمهورية بروكا وفيرنيكا"

post-img

إبراهيم الكراوي/القدس العربي

شكل الإصدار الأخير لمحمد زرويل ”جمهورية بروكا وفيرنيكا” عن دار النشر سليكي أخوين التي يديرها طارق السليكي، حدثا سرديا بالنظر إلى السؤال المقلق الذي تتناوله، والذي يرتبط باللغة بوصفها أداة للهيمنة، وممارسة الخطاب الاستعماري. وفي هذه الورقة سنحاول الكشف عن الأنساق الروائية المضمرة، ومختلف تمثلاتها ووظائفها في بناء الخطاب الروائي، عبر تحليل تَمثل تعالقات خطاب الهيمنة، واللغة وإنتاج الدلائل الروائية.

من بنية العنوان إلى خطاب الرواية

يرى هنري ميتران أن العنوان يشكل خطابا/علامة، تَنْظَم إلى نسق علامات أخرى كالإهداء والملحقات والتقديم والمستنسخات، بوصفها بنيات تشتغل على إنتاج محتمل المعنى. فالعنوان بتعبير جيرار جينيت يمثل العتبة التي تمكننا من الولوج إلى عالم النص، وتفكيك دواله، وكشف بنياته. وهذا ما نستشف من خلال المكونين ”بروكا” و”فيرنيكا ” بوصفهما علامتين تجاوزتا وظيفتهما اللغوية والمباشرة، المتمثلة في المجال العلمي كونهما تتحكمان في إنتاج اللغة الروائية، إلى بناء أنساق تخييلية تستلهم التاريخ، وتدل على الحاضر. إن المكونين السابقين سينتقلان بنا في المتن الروائي من الواقع إلى المتخيل، ومن الماضي إلى الحاضر؛ ومن ثم إلى بناء دلالة رمزية تشتغل على إرساء إنتاج آثار معنى بتعبير رولان بارث ترتبط بالخطاب الاستعماري والرؤية للعالم. وهي المعاني المرتبطة بالتلازم بين اللغة والهوية؛ واستثمار اللغة من قبل المحتل، من أجل طمس هوية الشعوب المضطهدة؛ مكرسة السلطة والهيمنة الاقتصادية، والفساد الذي استشرى في المجتمع بفعل اندحار القيم الناتجة عن الانسلاخ عن الهوية اللسانية اللغوية.

التمفصل الروائي المزدوج وبناء خطاب الهيمنة

من المعلوم أن الرواية فضاء تشعبات، ومسارات متداخلة وتصادمات بين الواقع والمتخيل، الأنا والآخر، الحاضر والغائب. ومن ثم، يبدأ التمفصل السردي المزدوج بتشكيل هوية الجنس، وبناء جمالياته، بحيث يدشن نمو الواقع في زمن مختلف، كاشفا عن حوارية تعري الصدام الحضاري بين الشرق والغرب، وبين التبعية والاضطهاد. هكذا كشف خطاب البداية إدانة لفعل الحرب: ”ملعونة هي الحرب” النوية الدلالية التي ينطلق منها الخطاب لنسج أفقه في مخاطبة الآخر، ثم يتطور الحدث من خلال فعل المفاجأة الذي يطبع سيرورة السرد ويؤسس سردية الرواية: «لم يكن هناك أي شيء يدل على أن هذا اليوم مختلف عن سابقيه. لا شيء يدعو إلى الريبة». يظهر أن السارد منشغل بنسج خيوط خطاب يحاور من خلاله المتلقي. وهذا ما يظهر من خلال الوظيفة الانفعالية التي تُجَليها النوية الدلالية ”الحرب”، ولذا، تتنوع ضمائر السرد بين المخاطب والغائب حسب سيرورة الحكي، لتتوزع بين عالم خارق ينتمي إلى الزمن المجهول، وعالم يدل على الحاضر، كما نستشف من خلال ضمير المخاطب.

يلقي بنا السارد الذي يروي بضمير الغائب في عوالم فضاء العجائبي، من خلال تحويل مناطق رمزية في عقل الإنسان إلى فضاء لولادة الأحداث، وربطها برمزية الحرب، ما ولد عالم العجائبي، كما يظهر من خلال مقولة التردد التي أسس عليها تزيفتان تودوروف نظريته. فهو أي فضاء ولادة أحداث تستمد منابعها من أصول ومنابع التخييل العجائبي.. فهناك أحداث تحيل فعلا على عالم الواقع، لكن الفضاء التي تنتظم فيه هذه الأحداث ”بروكا وفيرنيكا” يتقاطع فيه التخييل بعالم العلم والحقيقة: « شاهدوا الجنود الغزاة وهم يحاصرون مداخل الحارات، ولاحظوا كيف أنهم أحاطوا كل مؤسسات الدولة بمئات من العساكر المدججين بشتى أنواع الأسلحة. ما الذي يحدث ما إن وصلوا متعبين إلى تلك القمة الضبابية، حتى هالهم المنظر العجيب الذي شد أبصارهم وأشعل نيران هواجسهم. وجدوا أنفسهم أمام حفرة سوداء عميقة بعتمتها الرهيبة تبدو وكأنها مصدر كل الظلام الموجود في أنحاء الكرة الدماغية».

إن رواية ”جمهورية ”بروكا وفيرنيكا ” تستمد تخييلها السردي من تقاطعات مختلفة تتوزع بين سرديات العلوم العصبية، والمعرفية والإنسانية لينتج الخطاب الدليل المرتبط بخطاب الهيمنة، وعلاقته باللغة، كما يظهر من خلال المكونين ”بروكا» و”فيرنيكا”. تبدو الظاهرة الطبيعية، وهي انطلاق السيد رئيس الجمهورية بمساعدة العامل المعاكس، من أجل مواجهة الظاهرة الفوق ـ طبيعية، كما يظهر من خلال رمزية الحفرة والمغارة، والفضاء الدماغي بشكل عام؛ حيث استغل المستعمر جشع وطمع شخصيتي ”خاء” وتستاء’ وغيرها، ممن أراد أن يقضي مآربه بأي ثمن؛ ولو على حساب الوطن. هكذا ستتآمر شخصية ”خ” مع الغزو الفرنسي بدافع من الطمع في الثراء والسلطة؛ غير أن ظهور عامل مساعد وهو شخصية المحاسب، غيّر مجرى الأحداث بانضمامه إلى المقاومة التي ستتصدى للمستعمر. يمكن أن نستشف استبدال المؤلف مفهوم الشخصية الروائية بوصفها كيانا ممتلئا سيكولوجيا، بمقولة العامل بوصفه نسقا رمزيا، كما يتجلى من خلال أسماء الأعلام بالحروف؛ ما يحيل على تمفصلات مزدوجة تنقلنا من حالة إلى حالة، وبالتالي فروائية النص تتشكل انطلاقا من هذه التحولات، التي تنسجها العلاقات بين العوامل كما سيأتي تحليله.

إن مقولة الشخصية ترتبط بخطاب يحاول أن ينسج رؤية تضع هذه الشخوص بين بنيتي الخيال والواقع. وهذا الجدل بين العالمين ينتج في نهاية المطاف أنساقا مضمرة تحيل على نسق السلطة والاضطهاد الذي يميز الفئتين من الشخوص، ”أبو ستروف” ”خ ” و”ت» من جهة، و”ض”

و»ت” .. من جهة أخرى، وهو ما يعكس بنية المواجهة باعتبارها مولدا للفعل السردي.

البرنامج السردي وتمظهرات المواجهة

تعكس بنية المواجهة الانتقال من فعل الانفصال عن موضوع قيم المواطنة، والحرية إلى بنية الاتصال، وترسيم مشروع بناء برنامج سردي يحتوي على تمفصلات سردية، تتوزع بين الفعل ورمزية الفعل. إن فعل مقاومة ومواجهة السيد خاء الرجل الثري، الذي يرمز إلى الفساد المالي، الذي امتد لينخر الجسد السياسي، ما يوحي بدلالة تؤشر إلى تعدد الأبنية الخطابية مثل الخطاب التاريخي الذي يجسد الغزو الاستعماري للوطن، وتَرسباته التي تمتد إلى الحاضر، من خلال رمزية ”بروكا وفيرنيكا ” أي اللغة باعتبارها شكلا من أشكال الانفصال عن الهوية، ورمزا لخطورة الغزو. ولذا، ينطلق العامل الذات رئيس الجمهورية في مشروعه التحرري، الذي يروم تحرير الوطن والحصول على موضوع قيمة، وهو الحرية والتحرر بشتى أنواعه.

كما يظهر من خلال رمزية المصطلحين ”بروكا وفيرنيكا” بوصفهما يحيلان على ما سماه بول ريكور الفائض الرمزي. وسيعرف البرنامج السردي تعثرا نتيجة استشهاد المحاسب المتقاعد في المغارة، بعد وضع السيد خاء لغما وتهديده بنسف المكان. ولعل انطلاق العامل الذات في برنامج سردي جديد يروم هذه المرة إرساء قيم الوطنية ومحاربة الفساد، جاء بتحفيز من العامل المساعد الذي سيظهر فجأة خلال المسارات السردية التي يتم توليدها؛ وانطلاقا من بنية العلاقات بين قطبي الحرية والاضطهاد. يشتغل البرنامج السردي على توليد مسارات سردية، تنقلنا من البنية السطحية إلى البنية العميقة، وهي مسارات تتأسس على ثنائيات: الشر /الخير والحرية /الاضطهاد، الوطنية والخيانة:

الاضطهاد الحرية

المستعمر/ اللغة الشعب المضطهد

يكشف فشل البرنامج السردي الذي قاده الغزو الفرنسي، المفارقة التي تسم واقع المستعمر، حيث ستقام صلاة الميت على أبو ستروف باعتباره شهيدا، غير أنه في حقيقة الأمر يرمز للخيانة والغدر. ولعل موت أحد الخونة الذين تآمروا مع المستعمر، سيكشف مشروع توليد مسار سردي آخر ينطلق من هاجس الانتقام لمقتل العميل الفرنسي، حيث سيتم تنصيب السيدة ”ت”، ما يكشف هاجس الطمع والجشع الذي طبع ووسم شخصية السيدة تاء زوجة خاء: «لقد هلكت ولم تترك لي شيئا قيما لأرثه منك، فثروتك الفلكية سلبت منك، وأسهم شركاتك هوت إلى الحضيض، لكنني على الأقل قد ورثت بفضلك منصبك في رئاسة الجمهورية، فلتذهب إلى الجحيم أيها الزوج الحقير».

على الرغم من ظهور العامل المعاكس ورغبته الملحة في بناء برنامج سردي يقوم على أساس خطة محكمة أعدتها الداهية السيدة تاء، رمز المفارقة داخل الرواية، فإن ذلك لم يمنع المقاومة الباسلة من تجديد أنفاسها، واستعدادها للتصدي لكل ما يعيق التحرر، ونيل الحرية؛ متسلحة برباطة الجأش، وبالحماس الذي خلفه انتصارهم الأخير، ونيلهم وتنكيلهم بالمستعمر.. فالسيدة ”تاء” تتوزع بين قيمة العشق، الذي تكنه لزعيم المقاومة السيد ”ض”، لكن جشعها وميلها لامتلاك السلطة قادها إلى التآمر مع المستعمر لتغلب المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية.

إن بنيات التحول هي أحد التشكلات الخطابية، التي ساهمت في بنية جماليات الرواية، ومن ثم، ستنحرف المسارات السردية لتتوقف عند محطة رسالة شخصيتي ”ت” و «ضاد” التي تطلب منه إحياء حبها وملاقاته، لكن من أجل الإيقاع والغدر به. بيد أن محاولة السيد القائد تيفيناغ الدفاع عن «ضاد» وإنقاذه من الموت وغدر تاء، والغزو الفرنسي انتهت بوفاته مما شكل ضربة موجعة للمقاومة.

تركيب

يتأسس الخطاب الروائي ويتشكل بناء على الحفر في الأنساق المضمرة التي تختزلها اللغة، بوصفها فضاء للتفكير، وممارسة الهيمنة بالنسبة للمستعمر من جهة، وتمثلا للهوية والذات الجماعية ومقاومة السلطة الاستعمارية من جهة أخرى، ومن ثم، يشتغل الخطاب على إنتاج دوال ترتبط بأنساق اللغة وموقعها الثقافي، والهوياتي في تأسيس الهوية وبناء الذات. وقد تجلى لنا ذلك بجلاء من خلال التقابل بين فئتين من الشخوص «خ»، ” تيفيناغ”، أبوستروف وشخصيتي تاء وضاد من جهة أخرى.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد