حسن نعيم/ كاتب وقاص لبناني
لقد نجحت بعض وسائل الإعلام العربية، وخاصة المدعومة بالمال الخليجي والأميركي، في إيجاد رأي عام عربي ينظر إلى الجمهورية الإسلامية في إيران بعيون الحذر والابتعاد عن تلقي كل ما هو شأن ثقافي أو أدبي إيراني وعدم التفاعل معه؛ على قاعدة أنه غريب عن الشعوب العربية ويضمر لها العداء..! بذلت الجمهورية الإسلامية جهدًا في تكذيب هذه السردية الإعلامية، ولكنها لم تحقق الأثر المطلوب؛ على الرغم من المسار الطويل من دعمها لحركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومحاربة التدخل الأميركي في منطقتنا للهيمنة عليها.
حاليًا؛ مع العدوان الصهيوني- الأميركي على الجمهورية الإسلامية في إيران؛ بدأت تتكشف حقيقة التضحيات التي تدفعها إيران ثمنًا لوقوفها إلى جانب القضية الفلسطينية خصوصًا، فلم يعد يملك ذلك الإعلام القدر الكافي من الأكاذيب والتقارير المفبركة التي تزيف حقيقة دور الجمهورية في تبنّي قضايا الأمة الإسلامية عمومًا؛ بعدما نجح ذلك الإعلام في إيجاد قطيعة تاريخية بين العرب وبلاد الفرس؛ حتى سمعنا أصواتًا عربية "تحمد الله" أن المعركة في إيران وليست في البلاد العربية..! لكن- بحمدلله- أيضًا أن هذه الأصوات تخبو في ظل دعم شعبي عربي لافت للجمهورية الإسلامية في حربها ضد هذا العدوان.
إيران الفارسية حضن راسخ في الحضارة الإسلامية
إذ عدنا إلى صفحات التاريخ؛ نجد أن العلاقات الثقافية والمعرفية بين العرب وإيران شكّلت جسرًا ثريًا للحوار الحضاري تضمن مختلف أنواع العلوم والمعارف، من الإدارة والترجمة والأدب الى الفلسفة والطب واللغة. وقد امتدت هذه العلاقات بين العرب والفرس الإيرانيين إلى قرون مديدة لا تزيدها السنون إلا عمقًا واتساعًا وتنوعًا، حتى طالت مختلف وجوه التبادل التجاري والحضاري والثقافي والفكري العميق.
إذا ما تجاوزنا حقبة ما قبل الإسلام التي شهدت علاقات تجارية وثقافية بين عرب الحيرة والمناذرة والإمبراطورية الساسانية الفارسية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حين أصبحت بلاد فارس جزءًا من الدولة الإسلامية. ومن أعطاف هذا الانتماء الجديد أدى الفرس دورًا فاعلًا في نهضة الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، لاسيما في عهد الدولة العباسية التي تمكّنت من الإفادة من مختلف الموارد البشرية، وهكذا ظهرت شخصيات فارسية عظيمة في الإسلام؛ مثل: سيبويه في النحو والرازي في الطب والفارابي في الفلسفة، ابن سينا في الطب و الخوارزمي في الرياضيات، والغزالي في التصوف والعرفان.
لقد كان للتبادل الأدبي واللغوي الأثر الأكبر في إثراء اللغة الفارسية؛ فأكثر من 40% من مفرداتها ذات أصل عربي. وفي المقابل، أثرت الفارسية في العربية في الشعر والتصوير الفني والخيال. كما ازدهرت الترجمة المتبادلة بين آداب اللغتين، وبرز شعراء فرس كتبوا باللغة العربية، مثل البحتري وأبو نواس.
استمرت هذه العلاقات بعد الدولة العباسية إلى العهد العثماني، وخصوصًا في مجالات التصوف والفلسفة الإسلامية والأدب، فقد تأثرت بعض الحركات الأدبية العربية في العراق ولبنان بالفكر الإيراني في الشعر والفلسفة.
بعد انتصار الثورة الإسلامية، في العام ١٩٧٩، استمرت الروابط الحضارية واتخذت العلاقات الثقافية بين إيران والعالم العربي طابعًأ جديدًا؛ فقد طرحت إيران نموذج "الثقافة الإسلامية المقاومة" بديلًا عن النموذج الغربي. وبدأت إيران تصدّر خطابها الثقافي عبر تنظيم المؤتمرات والندوات وإنشاء المؤسسات الثقافية؛ مثل رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية ومراكز الدراسات الإيرانية في الدول العربية ومجمع التقريب بين المذاهب. وازدهرت حركة ترجمة الكتب الفكرية والأدبية من الفارسية إلى العربية، خاصة أعمال علي شريعتي ومرتضى مطهري، وكتب التفاسير، مثل تفسير "الميزان" الشهير للسيد محمد حسين الطبطبائي، وغيره من كتب التفسير لناصر مكارم الشيرازي وجوادي آملي ..... وحرصت وزارات الثقافة المتعاقبة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على تدريس اللغة العربية وآدابها في الجامعات الإيرانية.
في الضفة المقابلة؛ تُرجمت أعمال عربية إلى الفارسية، خصوصًا في الشعر والمقاومة مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني وناجي العلي ونجيب محفوظ والطيب صالح وحسن حنفي وكتاب مالك بن نبي عن النهضة الإسلامية، وغيرها من الكتب التي تتقاطع مع خطاب المقاومة والقضية الفلسطينية؛ مثل روايات أدب السجون التي تتحدث عن الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين في سجون الاحتلال الصهيوني.
كما قامت مؤسسات الإنتاج الدرامي الإيرانية بإنتاج أفلام ومسلسلات دينية وتاريخية، تستند إلى التراث الديني المشترك مثل مسلسل "مريم المقدسة"، "المختار الثقفي" و"النبي يوسف".. هذه المسلسلات دُبلجت إلى اللغة العربية، ولاقت رواجًا باهرا، أعاد للجماهير في الضفتين المياه الروحية الواحدة التي تجري في وجدان العالمين العربي والفارسي.