اوراق خاصة

حين غنّت المعارضة دفاعًا عن بلدها ضد الطغيان

post-img

د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

في زمن تنفجر فيه المجتمعات من الداخل قبل أن تُقصف من الخارج، يبدو مشهد الفنانين والمفكرين المعارضين الإيرانيين وهم يتوحّدون في وجه الاعتداء على وطنهم لحظة نادرة ومثيرة للتساؤلات. إذ كيف يمكن لأناسٍ انتقدوا النظام طوال حياتهم، ومنهم من آثروا الهجرة على العيش في وطنهم، أن يرفعوا الآن صوتهم دفاعًا عن الأرض ذاتها التي ظنّ بعضهم أنهم انفصلوا عنها؟ ودفاعًا عن مرشد الجمهورية الإيرانية وفداءً له، فهل هي لعبة المصالح؟ أم نداء التاريخ؟ أم أن هناك شيئًا آخر… شيء لا يُقاس بالحسابات، بل يُفهم بالحضارة.

لا أحد يحبّ الطغيان

في البدية؛ لا بدّ أن ندرك شيئًا أساسيًا، وهو عندما تتعرّض الأرض للتهديد، تبدأ ذاكرة أخرى بالعمل، هي ذاكرة الحضارة، قبل ذاكرة السياسة. ذاك العمق الذي يتحدّث عن قادة حاليين يسعون إلى حفظ الوطن، ويقدّمون أرواحهم في سبيل الدفاع عنها، ينهضون من تحت الركام ليشكّلوا درعًا حصينة تصون الأرض والشعب. تنشط ذاكرة الحضارة فتعود إلى قورش الكبير، وإلى شارع فردوسي، وسجّاد نُسِج بخيوط الشعر والفكر. هو مشهد لم نره، في بلدان كثيرة ومتعدّدة، لكنّه برز بقوّة وسط هذه الاعتداءات البربرية والهمجية على بلد لم يرتكب أي جريمة سوى جريمة امتلاك عناصر من القوّة يحق له امتلاكها ليدافع عن أرضه وشعبة وخصوصيته وحضارته وتاريخه.

حين غنّت المعارضة دفاعًا عن بلدها

تداول ناشطون، مؤخرًا، فيديوهات لفنانين معارضين، وبعضهم نفوا أنفسهم وعاشوا خارج وطنهم، نراهم يًسخّرون كل قدرة وكل وسيلة ليُدافعوا بها عن إيران، في وجه هذا العدوان الوحشي والهمجي. تظاهروا؛ ولكنّهم لم يُطالبوا بإسقاط النظام، بل على العكس عمدوا إلى الانضمام تحت لوائه وتظاهروا بالملايين ليعلنوا وقوفهم متّحدين في وجه الأعداء.

كان لافتًا جدًا انصهارهم تحت راية الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقادة نظامها، فخالفوا توقّعات الأعداء، لم يتغنّوا بالحرب، قالوا بصوتٍ واحد: "إيران هي البداية والنهاية"، ننضوي تحت مظلتها، قوّتنا وثبات وجودنا في اتحادنا، ندافع بكل ما أوتينا من قدرة ودور لنحميها، لنحمي وطننا ونصونه من كل اعتداء يشنّ عليه. هي لحظة حضارية بامتياز. لحظة تُدرك فيها الشعوب أنّ الاختلاف لا يعني خيانة، كما أن الوطن لا يُستعار من الخصوم، وحتى من الأعداء.

شعب حاكَ السجاد... فحاك الصبر

يقول المثل الفارسي: "من يغزل الخيط يعلم متى يشدّ ومتى يرخي"؛ ولعلّ صنعة حياكة السجاد العجمي ليست مهنة فحسب، هي أيضًا مرآة لروح جماعية؛ ففي كل عقدة، صبر، وفي كل خيط، تأمّل، وفي كل سجادة، انتظار لعقود من دون تسرّع.. وهكذا هي إيران.

قد تبدو أمام البعض متأخّرة عن لهاث العالم، لكنها تعرف كيف تختزن القوّة، وتطلقها حين يكون الوقت قد نضج؛ من علماء الحوزات إلى المفكّرين والفنّانين والأدباء وكل فئات الشعب الإيراني، كلهم ينتمون إلى الإيقاع ذاته، التأنّي أمام الزمن، لا الركوع له.

الفستق... ونكهة الخصوصية

قد لا يعرف الجميع؛ أنّه حين تسافر في إيران لن تجد بيتًا يخلو من الفستق الحلبي، ولا محلًا يخلو من الشاي الثقيل الممزوج بالزعفران. قد يظن البعض أنّ هذه التفاصيل عابرة، وليست بذي أهمية، لكنّها في الحقيقة تمثّل الارتباط العميق بـ"الذائقة الخاصة" لشعب لا يريد أن يُؤكل على مائدة الآخرين.. يعني؛ حتى في الطعام، يصرّ الإيراني أن يكون له بصمته، فكيف بوطنه؟ وبلغته؟ وبحضارته الممتدّة آلاف السنين؟ وبحضوره وعزمه وتصميمه الذي لا يقبل الإنكسار.

سؤال يُطرح: هل تمتلك إيران مصادر قوّة حقيقية؟ أم أن ذلك كله وهم رمزي؟

مما لا شك فيه أن إيران تمتلك منظومة صلبة، تتمثّل بركائز أساسية، ليس أوّلها عقيدتها العسكرية المستقلّة التي لا تخضع للغرب ولا لأي مرجعية غير مرجعيتها الوطنية، وليس آخرها صناعاتها التكنولوجية المتصاعدة، على الرغم من كل أنواع الحصار، وبالتأكيد حاملها ينضوي تحت مظلة جهاز تعبئة اجتماعية هائل، قادر على تدوير الأزمات وتحويلها إلى فرص. ومع ذلك أرى أنّ قوّة هذه الجمهورية الإسلامية الأهم ليست في الصواريخ ولا في التكنولوجيا… بل في شيء آخر، إيران لا تعيش لتربح... بل تعيش لتبقى، وهذا منطق حضارات قديمة، وليس منطق دول وظيفية عابرة.

مع ذلك؛ الوقائع كلها التي تشهد على قوّة هذا البلد وعزمه على المواجهة، يتساءل البعض قائلين: "لماذا لا تستسلم إيران؟ ولماذا ينهض الإيرانيون، وحتى معارضوهم، للدفاع عنها؟

الإجابة ببساطة شديدة، هم يعرفون أنّ الهويّة ليست قابلة للتأجير، وأنّ الاحتلال يبدأ حين يُفرَغ القلب من الانتماء، وأنّ العدوّ الخارجي مهما كان مسوّغًا في عيون البعض، يبقى عدوًا حين يستبيح التراب.

الملفت في الأمر ربما، أنّنا  في زمن تعوم فيه الدول على السطح، بينما نجد أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران تغوص في الجذور.. فما يجري، اليوم، ليس مجرد نزاع جيوسياسي كما يُحاول البعض ترويجه، ما يجري اليوم هو امتحان لمدى صمود فكرة "الدولة الحضارية" أمام نموذج "الدولة الهشة القابلة للتفكيك".

قد تختلف مع نظام تعارض قراراته، أو تنتقد بنيته، لكن، حين ترى السماء تمطر صواريخ فوق مدينتك، تدرك أن هناك ما هو أقدس من الخلاف. تُدرك أنّ هذا النظام خاض الصعاب، وغلب التحدّيات كي تبقى حرّا عزيزًا مصانًا في وطنك. تنظر إلى هذا النظام الذي فعل وصنّع وأنتج منظومة متكاملة ليحميك ويحمي أولادك، عندها تُوقن أنّه حتى ولو استشهدت، يصبح استشهادك عزيزًا يصون إنسانيتك ويحمي أجيال وطنك.

في المحصّلة، مما لا شكّ فيه أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران ليست دولة سهلة؛ لأن ذاكرتها ليست قصيرة. وهي بالتأكيد ليست لقمة سائغة؛ لأن مذاقها لا يُشبه مذاق أحد. وإذا كانت الحضارات العظيمة تُقاس بقدرتها على النجاة من الخطر، فإنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد ردّ على عدوان، هو إعلان أنّ الكرامة، مهما اختلفنا فيها، لا تُقصف من دون مقاومة.. والشعوب النابضة لا تموت، والحضارة لا تُمحى، وهنا مربط الفرس.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد