سامي حداد/ جريدة الأخبار
فجأة، اكتشف سكّان السوشال ميديا في العالم السيد علي خامنئي الذي اشتغل الإعلام الغربي على أبلسته وشيطنته طوال عقود. ذهبوا إلى حسابه على إكس، لينبشوا تغريدات تطال المرأة ومواقفه من قضايا سياسية، كانت تنحاز دومًا إلى المستضعفين. لقد بات المرشد الأعلى محبوب الجماهير!
في المخيال الغربي، لا يُولد البطل من الظلال، بل من وهج.
البطل، كما رسمته الثقافة السياسية الغربية وصدّرته إلى العالم، يجب أن يكون ناطقًا بالإنكليزية بطلاقة، حسن الهندام، طويل القامة، عريض الكتفين، لبقًا في الحوارات، متقنًا لفنون الإقناع الجماهيري، محاطًا بكاميرات الإعلام وفرق العلاقات العامة.
رجلٌ يملك القدرة على أن يبدو واثقًا في المؤتمرات، قويًا في الصور، وصاخبًا بالوعود حين تتطلب اللحظة.
بعيد عن التغيير الحقيقي
هو ذاك الذي يَظهر أكثر مما يَفعل، ويتقن لغة الرمز أكثر مما ينخرط في عمق التغيير الحقيقي. تُصاغ صورته بعناية بحيث لا خدش في ابتسامته، ولا تردّد في كلماته، ولا مساحة للغموض في ظهوره. حتى ضعفه إن وُجد، يُدار ويُسوّق بطريقة تخدم سردية «البطل الإنسان».
في هذا السياق المصطنع، تصبح الزعامة مسرحًا، والبطولة دورًا مُعدًا مسبقًا، والجمهور شريكًا في التصفيق لا في الفهم. لا يُفترض بالقائد هنا أن يكون محبوبًا لأنه قدّم حلولًا، بل لأنه قدّم صورة مريحة للعقل الغربي: صورة تُماثله، تفكّر بلغته، وتتصرف كما يريد.
البطل الجديد على إكس
لكن، ماذا لو أعاد تطبيق إكس اكتشاف بطل خارج هذه القوالب؟ ماذا لو أن البطولة لم تكن في المظهر، بل في الرؤية؟
القصة الحقيقية، لا عن «رجل خارق» على الطريقة الأميركية، بل عن رجلٍ تدرّب على الصمت، واستثمر في العمق، وبنى مشروعه حجرًا فوق حجر، حتى حين كانت أعين العالم تستهين به. ليس مصادفة أن يكون هذا الرجل، اليوم، محط أنظار الجميع بعد حرب كبرى، تعيد صياغة كل شيء من جديد بما في ذلك تعريفنا لمعنى البطولة.
البدايات: ما بعد الثورة وحرب الوجود
بعد انتصار الثورة الإسلامية والإطاحة بالنظام الملكي في العام 1979، غرقت إيران في أتون حرب استنزاف قاسية مع العراق اندلعت في أواخر العام 1980. وبين الحصار الدولي الخانق والنقص الحاد في الموارد، كانت تبحث عن نمط جديد للبقاء والسيادة.
كان المشهد السياسي الإقليمي آنذاك يضجّ بالمشاريع الغربية التي تتسلل تحت عباءة «إعادة الإعمار» أو «التعاون الاقتصادي»، فيما كانت الأنظمة المحلية تهرول لتوقيع اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي أو لاستقطاب الشركات المتعددة الجنسيات. إلا أن القيادة الإيرانية، بزعامة الإمام الخميني وبدعم مباشر من رجاله الموثوقين، اختارت طريقًا مغايرًا: الاعتماد على الذات. وكان خامنئي، بعقليته المنظّرة والميدانية في آنٍ معًا، من أبرز أولئك الذين أسّسوا لهذه المقاربة.
المصافي: القرار الذي لم تفهمه الصحافة
حين بدأ خامنئي بطرح ملف إصلاح مصافي النفط، لم يكن الأمر ملفًا اقتصاديًا بالمعنى الضيق. في عزّ الحرب، ومع القصف، والنقص، وتهاوي العملة، كان من الأسهل تجاهل مشاريع الطاقة الثقيلة والتركيز على الجبهات الملتهبة. لكن خامنئي رأى في ملف الطاقة حجر الزاوية في أي مشروع سيادي. لم يكن الأمر مجرد تكرير نفط، بل تحصين الاستقلال الوطني من أي ابتزاز مستقبلي. طلبَ إصلاح المصافي، لا استيراد المشتقات وبناء الخبرات، ولا استجلابها من الخارج. أراد بنية تحتية تنمو مع الزمن وتُنتج رجالًا، وليس فقط وقودًا. كان المشروع غير شعبي، ولا إعلامي، ولم يجلب التصفيق في حينه، لكنه كان مشروعًا إستراتيجيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
حصاد الرؤية: من طهران إلى كاراكاس
بعد ثلاثة عقود، بدا كأن تلك اللحظة البعيدة قد عادت، لكن على مسرح آخر: فنزويلا في العام 2020. الدولة التي تملك أكبر إحتياطي نفطي في العالم، وجدت نفسها غير قادرة على إنتاج المحروقات. المصافي تعطّلت تحت وطأة العقوبات والفساد، والغرب الذي دائمًا ما تغنّى بالديموقراطية لم يرسل سوى الحصار. في تلك اللحظة، كانت إيران — الدولة المحاصَرة بدورها — هي التي أرسلت الحل: خبراء ومهندسون إيرانيون، تدربوا في منشآت داخلية منذ الثمانينيات، هم الذين أعادوا الحياة إلى مصافي فنزويلا.
لم يكن الدعم الإيراني شحنةً من المحروقات، بل شهادة على نجاح نهج طويل الأمد. هؤلاء المهندسون الذين تربّوا في ظل نظام علمي وتربوي مستقلّ، هم ثمرة مباشرة لقرارات اتخذها خامنئي يوم كان العالم يستخف بقدرة إيران على النهوض.
عندما تساءلت الصحافة الغربية: «كيف لدولة تخضع لعقوبات قاسية أن تُنقذ دولة أخرى محاصَرة؟»، كان الجواب يتلخص في كلمة واحدة: الرؤية.
في قلب الحرب: حين يعود الصوت القديم لقيادة المستقبل
في 13 حزيران (يونيو)، شنّ الكيان الصهيوني واحدة من أعنف الضربات على إيران، واندلعت على إثرها حرب مفتوحة. بين ألسنة اللهب ونشرات الأخبار العاجلة، ظهر مشهد غير متوقع: تغريدات قديمة للمرشد علي خامنئي تعود للتداول المكثف، لكن هذه المرة ليس بين جمهوره التقليدي فقط، بل بين أوساط متنوعة من الناشطين والمفكرين في العالم.
كلمات عن المرأة، عن العدالة، عن النظام العالمي غير المتوازن، عن الهيمنة الإعلامية والسياسية الغربية، عادت لتُقرأ بصيغة الحاضر لا الماضي.
كثيرون، حتى ممّن اعتادوا على انتقاد إيران، وجدوا أنفسهم أمام نصوص ذات طابع إنساني وفلسفي عميق، كتبت ببساطة لا تخفي عمقها، وبمنهجية لا تتوسّل الإعجاب.
لم يكن هذا مجرد تريند على اكس، بل بدا كما لو أنّ الرأي العام الغربي أعاد اكتشاف رجلٍ طالما نظر إليه الإعلام الغربي بعدسات مشوهة. خامنئي الذي صُوّر طويلًا كـ «رجل دين متشدد»، ظهر فجأة بعيون جديدة: مفكر صبور، ومخطط بعيد النظر، ورجل لم يستبدله الزمن رغم تبدّل أوجه الخصوم والضغوط.
على هامش المعايير الغربية... وصُلب القيادة الفعلية
الرواية الغربية في صناعة الأبطال واضحة المعايير: رجل أبيض، طويل، فصيح بالإنكليزية، تظهر عليه الكاريزما منذ أول مشهد. لكن خامنئي لا يشبه هؤلاء.
لم يُخرَج من مختبرات الإعلام، بل خرج من رحم الثورة، ومن ساحات القتال الثقافي والاجتماعي، ومن جلسات طويلة مع العلماء والمجاهدين والطلاب.
لم يكن نجمًا على الشاشة، بل عقلًا هادئًا في غرفة القيادة. لم يسعَ إلى خطب ودّ الغرب، ولم يركض نحو الموائد العالمية، لكنه بنى نظامًا صامدًا تحت أقسى أنواع الحصار.
الأهم من ذلك، أنه قدّم نموذجًا مغايرًا عن القيادة: قيادة تُبنى على الثقة، والاستمرارية، لا على الأضواء.
كثيرون من المغردين الذين أعادوا نشر كلماته لم يفعلوا ذلك لأنه «قائد مسلم»، بل لأنه طرح أفكارًا لا يمكن تجاهلها، ولأنه أثبت — على مدار عقود — أنه لا يتكلم عبثًا.
الرجل الذي لم يغادر طهران لكنه غيّر المعادلة
ليس سهلًا على الغرب أن يعترف ببطولة لا تنبع من ثقافته. لكن الواقع أقوى من التمنّيات. فالرجل الذي طالما نُظر إليه كجزء من «محور الشر»، بات اليوم في نظر كثيرين صوتًا للعقل وسط الجنون، ورمزًا للثبات في زمن الارتباك، وصورة عن القيادة التي لا ترتكز على الكاميرا بل على المبدأ.
لم يكن علي خامنئي زعيمًا يبحث عن لحظة تألق، بل رجلًا يقاتل من أجل مشروع طويل النفس، يعرف أنّ المعارك لا تُربَح بلقطات الفيديو، بل بالصبر وبالإيمان بما تبنيه يدك لا بما تصفّق له أيدي الجماهير.
في لحظة نادرة من الصراحة، أدرك الشباب الغربي ربما أن خامنئي «الرجل الذي غيّر صورة الشرق في ذهن الغرب من دون أن يغادر طهران».