الشيخ سامر عباني/ باحث إسلامي
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
هكذا يبدأ المشهد القرآني الذي يخلّد لحظة تاريخية من القهر الإلهي لأعتى قوى الغزو. لحظةٌ تختزل فلسفة الصراع بين المستكبرين الذين يحسبون أن الفيلة والجيوش تضمن لهم النصر، وبين أولياء الله الذين يُمدّون بما لا يُحسب في موازين القوى الأرضية.
اليوم، يقف كيان الاحتلال الإسرائيلي في موضع يشبه حال أصحاب الفيل: غطرسة عسكرية، دعم إمبراطوري، توسّع عدواني لا يرى في المقدسات إلا أهدافًا مباحة. كما كان "أبرهة" في ذلك الزمان يدّعي إصلاحًا في بيت الله لهدم رمزيته، ها هو الاحتلال يقتحم المسجد الأقصى، ويهدم في غزّة، ويغتال القادة، ظنًا أنه يحفظ أمنه بالحديد والنار.
لكن التجربة القرآنية تقول لنا: من يستخدم الفيل لهدم المقدسات، سيتكفّل الله بإهلاكه بطيور لا تُرى في موازين القوة التقليدية.. "فجعلهم كعصف مأكول"… هذه ليست صورة شعرية فقط، هي عقيدة في مصير الطغاة حين يمسون المقدس ويفتحون أبواب السماء عليهم.
السردية الصهيونية.. وقف إطلاق النار مشروطٌ بكسر محور المقاومة
في الرواية الإسرائيلية، يُطرح "وقف الحرب" كأنه صفقة مشروطة: إذا توقفت إيران – بمعناها الرمزي والعسكري – عن دعم المقاومة، فسنوقف عدواننا. وهذه محاولة مكشوفة لسلخ المعركة من بعدها الإلهي والإنساني، وتفريغها من رمزيتها العقائدية.
لكن الجواب الإيراني، كما أُعلن بصيغ متعددة، هو أن: "الوقت لمّا يحن بعد".. ليس لأنه توقيت "مناسب للحرب"، بل لأن الحرب لمّا تستكمل غايتها الكبرى في إعادة رسم المعادلة الإستراتيجية وتحقيق ما يشبه انقلابًا في توازن الردع في المنطقة.
الاختراق الأمني.. ضربة في قلب النظام لا يمكن تجاهلها
الهجوم الأمني الأخير الذي طال قيادات أمنية ووجوهًا حساسة داخل إيران، أعاد ترتيب أولويات الدولة العميقة هناك. لم يعد الملف النووي أو العقوبات هو الأولوية، بل "صمام الأمان" الذي ضُرب من الداخل، والذراع العسكري الشعبي الذي تمثلّه "قوات التعبئة" (الباسيج) وُجهت إليه ضربة واضحة ومدروسة. وهنا نقف أمام خيارين تراهما إيران:
الخيار الأول: الذهاب إلى المفاوضات، لا لحماية التخصيب النووي، بل لحماية رأس النظام بحد ذاته. وهذا معناه تقديم تنازلاتٍ غير معلنة في سبيل إعادة تحصين الداخل.
الخيار الثاني: الاستمرار في الحرب، وهو خيار مكلف لكنه الوحيد القادر على إعادة ترميم هيبة النظام، وتثبيت سردية النصر، خارجيًا وداخليًا. ولتحقيق هذا، يجب الصبر على كلفة المواجهة الطويلة.
ما بعد الحرب.. سرديتان متنازعتان على رواية النصر
كل طرف يصوغ "رواية نصره" بما يتناسب مع جمهوره:
- الإسرائيلي يصوّر وقف الحرب "نصرًا تكتيكيًا"؛ حقق فيه تدميرًا للمقاومة ورسالة ردع لإيران.
- محور المقاومة، على رأسه إيران وحزب الله، يُظهر الحرب معركةً كسرت هيبة الكيان وفضح هشاشته.
لكن الأهم أن الشعوب لا تقرأ السرديات الرسمية، هي تنظر إلى التحوّل في ميزان الرعب وحركة الشارع الفلسطيني وواقع المستوطن في الشمال، وأخيرًا مصير الخطوط الحمراء.
في الختام.. لا اتفاق يُعقد مع "أبرهة" من دون أن يُجثى
الدرس من سورة الفيل، لا ينحصر في قهر المستكبر، إنما الطريقة التي يهلك فيها:
- لا حرب تنتهي باتفاق مشروط مع الظالم إلّا إذا فُرض عليه أن يرى نفسه "كعصف مأكول".
- أي اتفاق لا يضمن كسر غطرسة الكيان وإعادته إلى حجمه الحقيقي هو هدنة، تسمح له بتجهيز فيلة جديدة لهدم الكعبة من جديد.
القيادة.. عندما تُبنى الخيارات وفقًا للبصيرة لا ردّ فعل
وسط هذا كله؛ لا يمكن فهم ثبات محور المقاومة ولا التماسك في خياراته، من دون الإشارة إلى مركز القرار الأعلى في طهران.. إذ كل ما نشهده من صمودٍ وإعادة بناءٍ للردع وارتقاء في منسوب العزة في وجوه المحور، إنما يتمّ في ظلّ توجيهٍ مباشر من القيادة العليا في الجمهورية الإسلامية المتمثّلة بسماحة السيد القائد الإمام علي الخامنئي - دام ظله- هذه القيادة لا تخوض المعارك بناء على ردّ الفعل، هي تبني المواجهات بناء على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تمتزج فيها قراءة الواقع بعين البصيرة والإيمان بعاقبة الأمور.
ما كان لهذا المحور أن يصمد هذه السنوات كلها، وأن يتحول من رديفٍ في المعادلة الإقليمية إلى قطبٍ مؤثر، لولا هذه المرجعية الثابتة في طهران.