اوراق خاصة

إيران ومراحل المواجهة الضارية في الحرب المفروضة

post-img

د. عبدالله عيسى/ كاتب وباحث لبناني

طرحت عمليّة "طوفان الأقصى"، بوصفها المرحلة الأولى من المواجهة الأخيرة، "النظرية الأمنيّة الإسرائيليّة" على بساط البحث، بعد أن ضربت صميم "القلعة الغربيّة المتقدّمة"، أي الكيان الصهيونيّ، فارتسمت بوضوح هشاشة "الملاذ الآمن" لهذا الكيان الغاصب، ما جعل من "التطبيع ومسار التسوية" وبكلمة أدق "التتبيع" عرضة للتراجع والتأخير.

مع المرحلة الثانية، أي شنّ الحرب العالميّة الغربيّة بيدٍ إسرائيليّة على غزّة، أُجهِضت "السرديّة الإسرئيليّة" وانكشف خداعها أمام الرأي العام العالميّ، ولا سيّما فئة الشباب وفي الجامعات الأميركيّة والأوروبيّة وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ، فحجزت القضية الفلسطينيّة مكانها المتقدّم في وسائل الإعلام خبرًا أوّليًا، وفُضِحت بالإجرام الصهيونيّ والإبادة الجماعيّة وبالعزم الغربيّ على تهجير أبناء الأرض الفلسطينيّين ونشر المزيد من المستوطنات، موقعةً "أطروحة الغرب" ودعواه المتهافتة في حقوق الإنسان والنيوليبراليّة والديموقراطيّة والهيمنة التوسّعيّة في شِرك الممارسات الظالمة المُدانة وازدواجيّة المعايير.

برزت، في هذه المرحلة، عمليّات الإسناد من لبنان والعراق واليمن لإيقاف الحرب على غزّة، في مقدّمة لسريان روح المقاومة في الأمّة، تصدّرها "السيّد حسن نصراللّه" قائدًا وملهمًا وحكيمًا، وموجّهًا للخطاب الثقافيّ والسياسيّ والقيميّ، عاملًا على ضبط إيقاعها بحكمته وشجاعته إلى جانب قيادات الجبهات المشاركة بتنسيق تام مع المقاومة الفلسطينيّة وفصائلها المؤثّرة، وعلى اطلاع ودعم متنوّع من الحرس الثوريّ الإسلاميّ في إيران، محاولًا تقييد أهوال الحرب بالمعركة على النقاط وديناميّة الردع الناشِط تلازمًا مع تطوّرات الميدان واللياليّ والأيّام.

تلقّت الجمهوريّة الإسلاميّة، في هذه المرحلة، هجومًا عدوانيًّا إسرائيليًّا على قنصليّتها في دمشق (الأوّل من نيسان/أبريل 2024م)، كاسرًا خطوط الحمر، ارتقى بموجبه "أبو مهدي زاهدي" شهيدًا مع آخرين على طريق القدس، فسجّل انخراطًا إيرانيًّا رمزيًّا مباشرًا، في ليل 13 و14 نيسان/أبريل 2024، مع عمليّة "الوعد الصادق الأولى"، وجاءت بالتساند مع صليات صاروخيّة أطلقت من لبنان أيضًا.

بعد ذلك؛ أعلنت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة شهادة رئيسها ووزير خارجيّتها ومسؤولين آخرين، في 19 أيّار/مايو 2024؛ لتتلقّى تفجيرًا إسرائيليًّا على أراضيها باغتيال ضيفها رئيس المكتب السياسيّ لحركة المقاومة الإسلاميّة- حماس "إسماعيل هنيّة"،  بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2024، فتوعّدت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بعمليّة "الوعد الصادق الثانية".

تطوّرت الأحداث، فبدأت عمليّة "أسهم الشمال" بتسمية العدو الصهيونيّ أي الحرب العالميّة على لبنان بيد إسرائيليّة، وهي مرحلة عمليّة "أولي البأس" التي اجتذبت فرق النخبة الإسرائيليّة الخمس إلى نارها، واستطاعت إشغال العدو وإرهاق قيادته واستنزافه، وفرضت عليه تهجير مستوطني الشمال وكبّدته الخسائر في الممتلكات والأرواح، وحالت دون تحقيق أغلب أهدافه بالقضاء على المقاومة أو احتلال الأراضي اللبنانيّة. وكانت شهادتي السيّد نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدين وكوكبة من القادة الجهاديّين علامة فارقة، في تاريخ المواجهات ضد العدو الصهيونيّ، فنفّذت إيران "وعدها الصادق الثاني"، وجاء توقيته في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بعد مرور أيّام على شهادة السيّد نصرالله واللواء في الحرس الثوريّ "عباس نيلفروشان"، وقد فاق هذا الرد ما سبقه من عمليّة "الوعد الصادق الأولى".

هذا؛ وتوعّدت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بعمليّة "الوعد الصادق الثالثة"، بينما امتدت المرحلة الرابعة من تجميد معركة "أولي البأس" إلى لحظة العدوان على إيران. وهي من أخطر المراحل التي حملت معها فك مسار الإسناد اللبنانيّ والعراقيّ عن غزّة، وتعديل السلطة اللبنانيّة لناحية انتخاب رئيس الجمهوريّة وإعادة تشكيل الحكومة وفقًا لهوى أميركيّ غالب، وإحداث الانقلاب في سورية وتدمير مقدّرات الدولة واحتلال بعض أراضيها، وقطع خط إمداد جبهة المقاومة، والتهيئة لمباشرة العدوان على إيران.

العتبتان الأخطر في مراحل المواجهة

لقد شكّل العدوان الإسرائيليّ على إيران، وهو الأميركيّ بيدٍ إسرائيليّة، إعلان حرب وافتتاح المرحلة الخامسة، في فجر يوم الجمعة 13 حزيران 2025، مع اغتيال القادة العسكريّين والأمنيّين والعلماء واستهداف المنشآت والمراكز النوويّة والعسكريّة والقدرات الصاروخيّة، وتحريك الشبكات المنظّمة والخلايا النائمة العسكريّة والأمنيّة داخل الأراضي الإيرانيّة، من جنسيات إيرانيّة وغير إيرانيّة. مع الإشارة إلى بعض المعطيات عن العمل على تغيير "النظام"، ما فرض تنفيذ "الوعد الصادق الثالث"، في موجات ودفعات، جاءت أقوى ممّا وعدت به الجمهوريّة الإسلاميّة.

تعدّ المرحلة الخامسة أخطر مراحل المواجهة المفتوحة وذروتها على الإطلاق، مع قابليتها للتدحرج المتسارع ما قد يزعزع استقرار المنطقة، لكن رياح المقاومة لا تجري كما يشتهي وحوش الهيمنة. إذ بلغ التماسك المجتمعيّ الإيراني أعلى درجات لحمته وانسجامه، وهو المعتدى عليه، وعلى قدراته السلميّة في أثناء انخراطه بالمفاوضات، فكان الرد، بعدما نال العدوان من رموزه وقادته وعلمائه، عسكريّين ومدنيّين، تكبّد معه كيان العدو الصهيونيّ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من الخسائر والإصابات للأهداف الحسّاسة ولمشاهد الدمار وفشل منظومات الردع الصاروخيّة. 

كما يمكن التنويه في أن العدو الصهيونيّ استطاع استئناف استهدافه لكلّ من اتصل بدور ما في مواكبة "طوفان الأقصى"؛ فقد جاء اغتيال اللواء محمّد سعيد إيزدي (الحاج رمضان)، يوم السبت الفائت 21 حزيران، أحد أبرز قادة "فيلق القدس"، في سياق تصفيته لقادة حركات المقاومة وحلقات الارتباط والتنسيق بينها. وعدّ وزير الحرب الإسرائيليّ "يسرائيل كاتس" اغتيال هذا اللواء أنّه نقطة محورية في الحرب الحاليّة، حيث كان الشهيد يؤدي دورًا مباشرًا في تنسيق الدعم الماليّ واللوجستيّ والإشراف العمليّاتيّ على مختلف فصائل المقاومة الفلسطينيّة، ويحظى بموثوقيّة عالية به من قياداتها.

تدحرجت المرحلة الخامسة مع تطوّر لم يخالف التوقّعات، بإعلان "دونالد ترامب"، فجر يوم الأحد 22 حزيران، إتمام الهجوم على المواقع النوويّة الثلاثة (فوردو ونطنز وأصفهان)، والذي رأى أنه: "لحظة تاريخية للولايات المتحدة وإسرائيل والعالم"، لتُنذر بافتتاح مرحلة سادسة في طبيعة الصراع  ومسرحه وعتبته ومساراته، بناء على الرد ورد الرد. 

مع هذه الضربات الأميركيّة المعلنة، دخل العالم والمنطقة منعطفًا خطيرًا، لكن الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وضعت مواقع إقلاع الطائرات المشاركة في الهجوم تحت المراقبة، والقواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة للخطر، معلنةً خيارات كثيرة للرد على الاعتداء الأميركيّ، في ظل مشاورات جدّية أجراها وزير خارجيّتها مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، بوصفه عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي ومن باب الشراكة الاستراتيجية. ثم انتخبت هدفها بعناية، فضربت ًقاعدة العيديد"، وهي أكبر قاعدة أمريكيَّة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط)، متخذةً القرار المناسب في التوقيت المناسب والمكان المناسب؛ ثم استهدفت الكيان المؤقت بالطلقة الأخيرة بسلسلة ضربات صاروخيّة على مناطق مختلفة من شمال كيان الاحتلال إلى جنوبه، وأعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بأنّ القوات المسلحة الإيرانية يدها على الزناد، ومستعدة للرد الحاسم والقويّ على أي عدوان.

لقد سجّلت "إيران الدولة الثوريّة" أن يد المقاومة هي العليا، وهي تدرك أن الحرب لمّا تنتهِ بعد، وأن أشكالًا وتحدّيات أخرى تنتظرها وجبهة المقاومة، وأن العدو لا يؤمن جانبه.

هذه المراحل تنبئ عن سياق متصل متداخل ومتفاعل، متنقّل بين الساحات، ويمهد ما قبله إلى ما بعده، إذ لا يصح قراءة المراحل بنحو تفكيكي بين "إسرائيل" وأميركا، والمرجعية تبقى للقرار الأميركيّ، لا لكونه قدرًا؛ بل لنفي وهم التباين والتناقض بين صدارة الغرب وقلعته المتقدّمة.

كما أن قراءة المراحل تساعد في التريث في قراءة دقيقة معمّقة وشاملة لا تستعجل نتائج كل مرحلة بذاتها؛ بل تستشرف مع الآتي إعادة إنتاج النهاية بخواتيمها، على أمل وقوع العدو في الهاوية وفي الخراب الثالث.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد