د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأثنروبولوجيا والإعلام
المشاركة المدنية في لبنان زمن الأزمات والتحدّيات
في أحد أزقة حي باب التبانة في طرابلس، كان علي ذو الأربعة عشر عامًا يوزّع وجبات ساخنة على من هجّروا قسرًا من منازلهم وأرضهم بعد الاعتداءات الصهيونية الوحشية على وطننا. لقد تحوّل سطح منزلهم إلى مطبخ صغير لمئة شخص... كل هذا بدأ بعد أن اشتدت الأزمة، وهجّر آلاف الأشخاص قسرًا بسبب هذه الاعتداءات، عندها قرّر هو وأصدقاؤه أن يفعلوا شيئًا بدل الانتظار.
ما قام به علي ليس عملًا خيريًا فحسب، هو يُجسّد ما يُعرف بـ المواطنة الفاعلة أي المشاركة التطوّعية والمسؤولة في الحياة العامّة، خصوصًا عندما تعجز المؤسسات عن أداء دورها.
كما في حي التبانة، كذلك في ضواحي بيروت، وفي مناطق من الساحل والجبل، ومناطق أخرى حيث شكّلت النساء والجماعات شبكات طبخ جماعية خلال الحرب. وفي مناطق أخرى، أنشأ الشباب وحدات إسعاف أهلية في الأحياء الأكثر أمنًا، أو تجمّعات لتأمين ما يُمكن تأمينه من مساندة نفسية وصحّية وترفيهية وسواها. فالمواطنة الفاعلة تولد غالبًا في قلب الأزمات.
لكن، هل تساءلت أو فكرت يومًا في أن تعليقًا صغيرًا على مبادرة محليّة قد يفتح بابًا للتغيير؟ وهل حدث أن تكلّمت مرّة مع بلديتك عن وضع الحيّ؟ أو هل فكّرت من هو جارك الذي يمكن أن تبدأ معه مبادرة؟
هكذا تبدأ القصة... وهكذا يبدأ تعريف جديد للمواطنة.
لبنان دولة في العناية الفائقة ومجتمع يعيش إنعاشًا ذاتيًا
منذ العام 2019، دخل لبنان نفقًا من الأزمات المتراكمة: انهيار اقتصادي، تفكّك مؤسذسي، شلل سياسي، انهيار العملة الوطنية، جائحة عالمية. ومع كل أزمة، كانت الدولة تغيب أكثر، والخدمات تتراجع، والثقة تضمحل.
إلاّ أنّ هذا الغياب، كان يستحضر في كثير من الأحياء مشاهد مغايرة، مشاهد تشبه ما قام بفعله علي، شباب ينظّمون حملات تنظيف، نساء يفتحن مطابخ جماعية، أساتذة يعلّمون تطوّعًا، ومبادرات تقف في وجه العجز العام... مع هذه المبادرات لم تعد الوطنية مجرد شعار في ورش العمل، لقد صارت ممارسة مقاومة، ووسيلة بقاء، بل أداة لإعادة تعريف المواطنة من القاعدة إلى القمة.
المواطنة الفاعلة ليست انتظارًا لعطاءات مطلبية محقّة
لنتوقف لحظة ونسأل: ما معنى أن تكون مواطنًا في بلد تغيب فيه العدالة، وتنهار فيه الخدمات الأساسية؟
ندى لها قصّة أخرى، فقد أطلقت خلال جائحة كورونا كوفيد 19 مبادرة باسم “جارك سندك” بالتعاون مع ثلاث نساء من حيّها. أنشأن قاعدة بيانات لأكثر من 300 عائلة محتاجة. لم ينتظرن وزارة الصحة أو الداخلية. وإنّما نظّمن حملات توعية، وجمعن تبرعات صغيرة من الجيران، ونظّمن توزيع كمّامات وصابون ومعلّبات. "كنا نشتغل بصمت، لكننا حسّينا إنو لأول مرة إلنا دور واضح، محسوس، وإنو الناس ما ناطرين الدولة بقد ما ناطرين بعض"، تقول ندى.
من الدولة الغائبة إلى الدولة المُساءلة
في أواخر العام 2020، وبينما كانت شوارع بيروت لا تزال تلتقط أنفاسها بعد انفجار المرفأ، كانت ميرا، شابة لبنانية تبلغ من العمر 27 عامًا، تقف على حافة الرصيف في شارع مار مخايل، توزّع الماء والكمامات على عمال التنظيف، وتجمع التبرعات لإعادة ترميم البيوت. لم تكن تعمل في منظمة دولية، ولا تحمل صفة رسمية. كانت مجرد مواطنة شعرت أنّ الصمت جريمة.
قالت يومها في مقابلة مع صحافي أجنبي: "لم أنتظر الدولة. هذه المرة، نحن الدولة." بهذه الجملة، تختصر ميرا جوهر ما يُعرف بـ"المواطنة الفاعلة" ذلك الفعل الجماعي، الطوعي، الموجّه نحو الصالح العام، والذي ينبثق من الناس لا من المؤسّسات.
المشاركة المدنية ليست بديلًا عن الدولة، لكنها ليست أيضًا مجرّد حل مؤقت. إنها تقول: نحن هنا، نراقب، نتذكّر، ونبني. والمواطنة الفاعلة، كما تتجلى في مبادرات مثل "مخيم العدالة البيئية في عكار" أو "مبادرة لولاد الحي في طرابلس"، تؤكّد أنّ الناس ليسوا مجرد ضحايا للأزمة، بل شركاء في الحياة العامة.
وعندما أنشأ طلاب جامعيون خلية صغيرة لحماية البحر من التلوّث في مدينة مثل صيدا، كانوا يغوصون أسبوعيًا لإزالة النفايات من المياه، ويوثّقون كل ذلك على منصّات التواصل. ثم ضغطوا على البلدية، فاضطرت إلى تخصيص جزء من الميزانية لدعم معداتهم. هذه ليست مجرد مبادرة بيئية... إنها درس في المواطنة النشطة والمساءلة المحلية. فالمواطنة الفاعلة هنا ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية.
لكن، ما الذي يجعل هذه المشاركات المدنية ممكنة؟
هي عوامل كثيرة تجتمع لتكمل الحكاية، وتحيك المسار الفعّال، ويمكن أن نوجز بعضًا منها، وتتمثّل في:
1. الثقة المجتمعية الصغيرة: قد لا يثق الناس بالدولة، لكنهم يثقون بجارهم أو رفيق الجامعة أو أختهم في الحيّ. هذه العلاقات الاجتماعية الصغيرة تُبنى عليها أشياء كبيرة.
2. الخيال الجماعي: لا يتحرك الناس فقط بدافع الحاجة، أيضًا لأنهم يتخيلون واقعًا أفضل. ندى لم تكن تحلم بدولة مثالية، لكنها كانت تؤمن أن الحيّ يمكن أن يكون أكثر أمانًا وتنظيمًا.
3. الشعور بالكرامة لا الشفقة: معظم المبادرات لا تقوم على منطق "مساعدة الضعيف"، بل على منطق "الشراكة في المصير". نحن في الأزمة معًا، وعلينا أن نخلق أجوبة جماعية.
من لبنان.. تجارب مشابهة، دروس متقاطعة
كلها تقول الشيء نفسه: حين تختفي الدولة، لا يختفي الناس. بل يتقدّمون.
لتشجيع المشاركة المدنية في زمن الانهيار: ما العمل؟
إذا كنا نؤمن بأن المواطنة الفاعلة ليست خيارًا نخبويًا، بل واجبًا جماعيًا، فثمة مسؤولية على كل من:
• الجامعات: بتدريب طلابها على العمل المدني لا الحفظ الأكاديمي فقط.
• وسائل الإعلام: بتسليط الضوء على المبادرات المجتمعية بدل تكرار خطابات الانهيار.
• البلديات: بالانفتاح على المجتمعات، ودعم المبادرات الناشئة.
• الأفراد: بعدم التقليل من قيمة الفعل اليومي البسيط (نشر وعي، تنظيم لقاء، تنظيف شارع، فضح فساد).
ختامًا.. من الحي إلى الوطن... خطوة بخطوة
كثيرة هي القصص التي تستعرض تجاوز التحدّيات التي نعيشها في هذا الوطن، أو بالأحرى في أوطان متعدّدة، في حارة حريك ضاحية بيروت الجنوبية على سبيل المثال، أنشأ شبان مبادرة لإعادة تدوير النفايات في ظل إهمال الدولة ومؤسساتها لهذا الأمر البيئي المهم، وفي عكار الواقعة شمال لبنان، نظّمت سيدات مطبخًا جماعيًا لتأمين الوجبات لكبار السن. وفي صيدا بوابة الجنوب اللبناني وعاصمته، تحوّل كاراج قديم إلى مكتبة ومكان نشاط شبابي... وغيرها وغيرها من المبادرات التي نرى أنّ ما يجمع بينها ليس فقط حاجتها الاجتماعية، بل كونها تعبّر عن وعي جماعي بدور المواطن شريكًا لا متلقيًا.
قد يقول قائل، لا تستطيع ندى أن تحلّ أزمة الكهرباء، أو أن تنقذ الاقتصاد، صحيح هذا الطرح، إلاّ أنّ ندى استطاعت أن تعيد لجيرانها الثقة بأنهم ليسوا وحدهم، وبأن مثل هذا التحرّك مما لا شك فيه سيشكّل فارقًا إيجابيًا شاء من شاء وأبى من أبى. وبالتالي، في كل حيّ في لبنان، هناك نسخ من علي وندى وميرا ... نساءً، ورجالًا، وشبابًا، وطلابًا، ومتقاعدون وغيرهم يبنون من فتات الأمل جدارًا ضد اليأس.
مما لا شك فيه أنّ البدايات لا يجب أن يعرقلها شح التمويل أو حتى انعدامه.. انّها تحتاج حُكمًا إلى روحٍ معطاءة، وإلى رغبة وعزمٍ وإقدام. والمبادرات الصغيرة تَعدِي بالأمل، والأمل مقرون بالبقاء والاستمرار، فالأزمات تولّد شبكات اجتماعية جديدة، والشجاعة المدنية على تنوّعها وتعدّد مساراتها، تحفظ الوطن وتصون حدوده وأراضيه وشعبه ومصالحه، وتقيه من الانهيار والرضوخ والاستسلام أمام من سلبه حقوقه أو يسعى لهذا الفعل.
تاليًا، لا تحتاج هذه المبادرات على تنوّعها تصريحًا من الدولة، وإنّما تفرض علينا أن نكون فاعلين، لنبحث عن سبل لسد الثغرات والعثرات التي تواجهنا . إذ إنّ المواطنة، في أوقات الأزمات، ليست فقط احتجاجًا ولا مجرد مبادرة. إنها إعلان: "نحن لسنا متفرجين، نحن صانعو المستقبل، ولو بمصباح يدوي في ليلٍ طويل".