علاء الحلو/ جريدة العربي الجديد
في أحد مفترقات حي الرمال وسط مدينة غزة، تتصاعد أعمدة الدخان من فرن بدائي صغير، تديره الجدة الفلسطينية إلهام السرساوي النازحة من حي الشجاعية شرقي المدينة نحو وسطها الذي كان منطقة راقية وتجارية من الطراز الأول قبل أن تحوله إسرائيل لمنطقة مدمرة ومكان نزوح لعشرات الآلاف من الفلسطينيين. وتجد الجدة الفلسطينية في صناعة الخبز على الحطب وسيلة لمواجهة ضيق الحال وظروف النزوح القاسية، والتي اضطرت بفعلها للنزوح نحو المحافظات الجنوبية، ومن ثم إلى محافظات الوسطى، وصولًا إلى العودة إلى منزلها والنزوح منه مجددًا بعد تجدد الحرب قبل أربعة أشهر.
تعمل السرساوي برفقة ابنها وأحفادها في صناعة الخبز والمعجنات وما تيسر من مأكولات، على أمل توفير لقمة العيش لعائلتها الممتدة، وسط ظروف معيشية قاهرة، تسبب فيها العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
نار تُشعلها الحاجة إلى العمل
وتقول الجدة إلهام السرساوي، التي تبلغ من العمر 52 عامًا، وقد خط الزمن تجاعيده على وجهها: "منذ تهجيرنا من الشجاعية وأنا أحاول العمل من أجل عائلتي، حُرمنا من بيتنا، وكل ما نملك، بفعل النزوح القسري والمتكرر منذ الأيام الأولى للحرب". وبدأت حكاية السرساوي مع صناعة الخبز مبكرًا، إلا أنها كانت تصنعه داخل بيتها قبل الحرب على خبازة كهربائية مريحة، إلا أن اضطرار العائلة للنزوح جنوبًا، وفقدان مختلف مصادر الدخل، دفعها لمواصلة العمل، ولكن بطريقة أكثر قسوة وإرهاقًا، عن طريق فرن طين.
صنع الفرن بمساعدة ابنها عُمر، من حجارة مهدمة وصفيح قديم، يشعلان فيه الحطب الذي يجمعانه من بقايا الأشجار أو يتم شراؤه بأسعار مرتفعة، ليخبزا أرغفة بسيطة للجيران والنازحين القريبين مقابل ثمن رمزي لقاء عدد الأرغفة المخبوزة.
يبدأ نهار الجدة مبكرًا مع أول خيوط الشمس، لتجهيز الفرن والحطب وجمع الأوراق وما تيسر من مواد لازمة لإشعال النار، والتي تزيد حرارتها مع اشتداد الشمس خلال ساعات النهار، إلا أن الأسرة لا تملك خيارًا آخر للعمل وتوفير المال لمواجهة الظروف القاسية التي فرضها العدوان المستمر.
تراقب الحاجة إلهام الأرغفة وهي تنتفخ داخل الفرن الحار ومن ثم تعيدها إلى فرش خشبي تحضيرًا لتسليمه إلى صاحب الوجبة، فيما يضطر الناس لخبز أرغفتهم داخل أفران الطين نظرًا لإغلاق المخابز الآلية، بسبب منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال المواد الخام اللازمة لعملها.
تقول السرساوي إن صناعة الخبز باتت وسيلتهم الوحيدة للعيش بكرامة، بدلًا من انتظار المساعدات الإنسانية أو مد اليد للناس، "على الرغم من الإرهاق الشديد الذي يصيبني وباقي أفراد أسرتي، إلا أننا مضطرون لذلك من أجل توفير لقمة عيشنا بكرامة". وتصنع السرساوي إلى جانب الخبز أصناف المعجنات، أو تطهو الطعام وأصناف اليخني، إلى جانب صناعة الحلويات كالكعك والمعمول والعوامة والكيك والحلبة والغريبة والبسبوسة والكنافة، وهي مأكولات يقوم الأهالي بتجهيزها، بينما تقوم الجدة بطهيها بحب وحرص واهتمام.
يعيش ابنها عمر معها في نفس الخيمة المؤقتة، وهو من يساعدها بجمع الحطب وإشعال النار، ويقول: "نعمل لكفاف يومنا من خبز وماء، أمي هي قوتنا وصبرنا، بعد أن أفقدتنا الحرب كل شيء، إلا أنها لم تفقدنا أملنا في الغد الأفضل". ولا تملك الأسرة أي مصدر دخل آخر، في ظل شح المساعدات وتعطل الكثير من الخدمات الإنسانية، فيما تعتمد الجدة على الأجرة البسيطة من الزبائن مقابل صناعة الخبز أو طهي الطعام، ومع ذلك فإن الأجر الزهيد لا يمكنها من مواجهة الأسعار الخيالية لمختلف المواد الغذائية والمستلزمات اليومية.
العدوان والحر والحطب.. لهيب ثلاثي يواجه نساء غزة
تحلم السرساوي التي واصلت حديثها وهي تراقب الأرغفة داخل التنور بالرجوع إلى بيتها الدافئ والآمِن، وأن تصنع فرنًا أكبر، وتخبز لكل الجيران بلا مقابل. وتقول: "رغم صعوبة هذه الأيام وقسوتها إلا أن كل الألم يهون لحظة رؤية بيتنا ومنطقتنا". وتحولت الجدة إلهام إلى رمز في محيطها، يضرب بها المثل في الصبر والكفاح، فبينما ترتقي أرواح كثيرة تحت وطأة الحرب والنزوح، لا تزال هذه المرأة تنفث من يديها الدقيقَ والدفءَ، وتنشر حولها رائحة الخبز الممزوجة بالحياة. وتعكس الأزمة العميقة في إغلاق المعابر ومنع دخول المواد الأساسية وقطع التيار الكهربائي بشكل تام معاناة حقيقية لمئات آلاف العائلات في غزة ممن يحاولون النجاة بإبداعهم وكرامتهم، وسط كارثة إنسانية لا تزال مستمرة.