د. زينب الطّحان/ كاتبة وأستاذة جامعية
تُعدّ شخصية بنيامين نتنياهو من أكثر الشخصيات الصهيونية- الإسرائيلية إثارةً للجدل، في التاريخ المعاصر، وذلك لما تنطوي عليه من أبعاد نفسيّة معقّدة وسلوكيّات سياسية متكررة تنمّ عن استراتيجيات تتقاطع مع اضطرابات غير شعورية دفينة. لقد شكّل نتنياهو حالًا استثنائية في السياسة الصهيونية؛ إذ ظلّ طوال العقود الماضية يحكم أو يتحكّم بالمشهد السياسي، سواء من موقع القيادة أم من خلف الكواليس.
تتبدّى أهمية تحليل شخصية نتنياهو من زاوية نفسية في ضوء تأثير تلك السمات على قرارات الحرب والسلام، وعلى إدارة الصراع مع محور المقاومة، وعلى خطابه السياسي المتشنّج، لا سيّما في ما يخصّ الجمهورية الإسلامية في إيران والملف النووي.
تكمن فرضيّة هذه المقالة بأنّ شخصية نتنياهو ليست مجرد انعكاس للنزعة الصهيونية التقليدية، هي امتداد متضخّم لتلك النزعة المتمظهرة في بنية نفسية تتّسم بالقلق الوجودي والنرجسية الدفاعية والعدمية السياسية. ونفترض أنّ ممارساته السياسية تعكس مسارًا نفسيًا طويلًا من التكوين العائلي والتنشئة الأيديولوجية إلى التعرّض المبكر للصدمات العاطفية وفقدان الأخ، وصولًا إلى التماهي العميق مع دور "المنقذ التاريخي" للكيان الصهيوني الكيان المؤقت.
أولًا- خلفية شخصية بنيامين نتنياهو النفسية
1. النشأة الأسرية والتكوين الأيديولوجي
وُلد بنيامين نتنياهو، في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1949، لأسرة ذات خلفية يمينية صهيونية، كان والده "بن صهيون نتنياهو" مؤرخًا متخصصًا في شؤون "محاكم التفتيش الإسبانية" ومعروفًا بنزعته العرقية، فقد آمن بتفوق اليهود وضرورة بقائهم في صراع دائم مع محيطهم العربي والإسلامي. هذا التكوين الأبوي لم يكن عاديًا، لقد أدى دورًا أساسيًا في تشكيل البناء النفسي للطفل بنيامين، والذي تلقّى منذ صغره رسائل متكرّرة مفادها أنّ اليهود "ملاحقون دائمًا"، وأنّ الخطر العربي/الإسلامي هو تهديد وجودي بالنسبة إليهم، ما أسّس فيه مركّبًا نفسيًا قائمًا على الشك والخوف، والتعلّق المتطرّف بفكرة الأمن وسيلةً للبقاء.
يقول نتنياهو في إحدى مقابلاته الصحفية: "لقد كبرت في بيت؛ كان الحديث فيه عن صراع الحضارات، وعن التاريخ المأسوي، وعن العالم الذي لا يتسامح مع الضعفاء... والدي لم يسمح لي يومًا بأن أرى العالم بريئًا".
2. الأثر النفسي لتجربة فقد الأخ
كان لمقتل شقيق بنيامين نتنياهو الأكبر "يوناتان" في عملية "عينتيبي"، في العام 1976، أثرٌ نفسي بالغ في شخصيته. وكان يوناتان قد تحوّل، والذي قُتل في أثناء قيادته وحدة النخبة "سييريت متكال"، إلى "رمز بطولي" داخل العائلة وجماعات المستوطنين في فلسطين المحتلة. وبدل أن يتحوّل الحزن إلى طاقة عاطفية علاجية، شكّل فقدان الأخ صدمة نرجسية دفعت بنتنياهو إلى التماهي مع شخصية "الشهيد البطل"، ساعيًا لتعويض الفقد مع إنجازات سياسية وأمنية تغذّي صورته الداخلية امتدادًا لشقيقه الراحل. هذا؛ وقد أشار محللون نفسيون إلى أن هذا النوع من التماهي الدفاعي يولّد رغبة غير واعية في التضحية بالآخرين، سواء من الجنود أم من المدنيين، في سبيل تحقيق "أسطورة الذات". وهذا ما يُفسّر اندفاعه نحو المواجهات العسكرية، وتعنّته في "مفاوضات السلام"، أو مفاوضات وقف الحروب وإطلاق النار.
3. الملامح النرجسية والسلوكية
تتّسم شخصية نتنياهو بملامح نرجسية واضحة، ومنها:
• التمركز حول الذات والرسالة الشخصية: يتحدّث عن نفسه بوصفه المنقذ الوحيد للكيان الصهيوني، ويتعامل مع أي انتقاد كخيانة وطنية.
• البارانويا السياسية: يميل إلى الشك المفرط في نوايا الآخرين، ويفسّر الوقائع بمنطق المؤامرة، سواء من خصومه في الداخل أم من الفلسطينيين والعرب.
• الرغبة في السيطرة والإبهار: يُظهر سلوكيات دعائية صارخة، ويميل إلى استخدام الإعلام لصناعة صورة ذهنية جذّابة ومرعبة في آن.
يتجلّى، في خطاب نتنياهو، ما يسمّيه علماء النفس بـ"النرجسية الدفاعية" (Defensive Narcissism)، حيث يُظهر ذاته كمنقذ وحيد يعي ما لا يعيه الآخرون. وهذا يتجلّى في استعارات مثل: "أنا من حمى إسرائيل"، "أنا أفهم التهديد الإيراني أكثر من العالم"، "التاريخ سيبرّئني".
هذه السمات تُشير إلى بنية نفسية تميل إلى العظمة الذاتية (Grandiosity) المصحوبة باحتقار خفي للآخرين ورفض الانتقاد، ما يجعل الخطاب انعكاسًا لصورة القائد المُخلّص الذي يقف وحيدًا في وجه الخطر. وقد شبّه بعض المحللين نتنياهو بشخصيات سلطوية أخرى؛ مثل دونالد ترامب خصوصًا، لجهة التماثل في الصفات النرجسية واللغة الشعبوية.
ثانيًا - خطاب نتنياهو السياسي بين التحريض والبارانويا
1. النزعة البارانوية (Paranoid Style)
البارانويا في الخطاب السياسي، كما يُعرّفها المؤرخ الأميركي ريتشارد هوفستادتر (Richard Hofstadter)، تُشير إلى حالٍ من الشكّ المبالغ فيه تجاه نوايا الآخر، واعتقاد مستمرّ بأنّ هناك مؤامرة تُحاك ضد الذات أو الجماعة. ونتنياهو، في هذا السياق، يُعيد إنتاج بارانويا وجودية موروثة من تجربة "الهولوكوست"، ويُسقِطها على الواقع السياسي المعاصر، مستخدمًا تعبيرات مثل: "تهديد وجودي"، "لن نُمحى"، "عدو يريد إفناءنا". وهذا نمط يُغذّي شعورًا بالاضطهاد الجماعي، يوفّر تسويغًا مسبقًا لاستخدام القوّة تحت عنوان "الدفاع الوجودي".
2. آليات الإسقاط النفسي (Projection)
يعتمد نتنياهو على آلية نفسية دفاعية تُعرف بـ"الإسقاط"، وهي أن يُسقِط على الآخر صفات نابعة من داخله، مثل: العنف، أو الحقد، أو النية في الإبادة، فينسبها إليه ليسوّغ أفعاله. مثلًا: في اتهامه المستمر للفلسطينيين أو الإيرانيين أنهم المبادرون إلى العنف المطلق، بينما يتجاهل مبادرات العنف البنيوي من طرف كيانه. والإسقاط هنا يخدم غرضًا مزدوجًا: تسويغ المظلومية من جهة، وتعبئة جماهير المستوطنين من جهة أخرى.
3. ثنائية الخير والشر (Manichean Thinking)
الخطاب محكوم بمنطق "نحن" الأخيار مقابل "هم" الأشرار، وهو ما يُعرف بالمنظور المانوي (Manicheanism)، وهو سمة كلاسيكية في الخطابات الشعبوية القومية التي تميل إلى التبسيط الثنائي للعالم. نحن الضحية/الأنقياء مقابل هم القتلة/الهمج. هذا التقسيم يُلغي التعقيد، ويعزّز الانغلاق على رواية واحدة، تُرضي جمهور المستوطنين وتسوّغ سياساته العنيفة.
4. الإثارة العاطفية المتعمّدة (Affective Mobilization)
خطابه يعمد إلى إثارة الخوف الجماعي في صور كارثية: "هولوكوست جديد"، "إبادة وشيكة"، وهذا يشكّل نوعًا من التحريض العاطفي المدروس الذي يستخدم المشاعر لإغلاق العقل النقدي، وهي تقنية فعّالة في تعبئة الجماهير وخلق تلاحم داخلي في لحظة الخطر. وخطاب نتنياهو السياسي ليس مجرد خطاب نخبوي عقلاني، هو امتداد لبنية نفسية تدمج بين النرجسية والبارانويا، وتمثيل الذات ضحيةً بطولية. هذه البنية تنعكس في استراتيجياته السياسية والإعلامية، وتؤدي دورًا محوريًا في صياغة القرار الصهيوني العام، وخاصة أزاء مقاومة الفلسطينيين واللبنانيين وإيران.
كما يتسم خطاب نتنياهو السياسي بلغة هجومية مشبعة بالتخويف والتهديد، إذ يتعمّد تصوير "إسرائيل" ضحيةً دائمة في محيط عدائي، بتضخيم "الخطر الفلسطيني" و"التهديد الإيراني"، وهي أساليب تعبئة داخلية وخارجية. هو، وإن كان محقًا في هذا الادّعاء، قوى المقاومة والجمهوري الإسلامية هدفهم النهائي إزالة "إسرائيل" من الوجود، إلّا أنه يستعين في خطابه السياسي بنظرية "الفرد البطولي المحاصر"، ويُظهر نفسه القائد الذي يرى ما لا يراه الآخرون. وهو خطاب مشبع بالرؤية النرجسية، إذ لا يتردد في الادّعاء بأن "التاريخ سيحكم على قراراته بوصفها إنقاذًا للدولة اليهودية". وهو يستخدم عبارات ذات شحنة عاطفية عالية مثل: "لن نُمحى من على وجه الأرض"، "نحن أمام تهديد وجودي"، "هولوكوست جديد يلوح في الأفق"، ما يعكس نزعة بارانوية دفينة.
5. صناعة العدو وتوجيه الرأي العام
يؤدي نتنياهو دورًا بارعًا في إنتاج "عدو دائم"، يعيد تشكيله بحسب المرحلة، فقد يكون العدو:
• فلسطينيًا (حماس، فتح، عرب الداخل)
• لبنانيًا (المقاومة الإسلامية- حزب الله)
• إيرانيًا (المشروع النووي، الحرس الثوري)
• أو حتى داخليًا (القضاء، اليسار، الإعلام)
هذا النمط يعكس دينامية نفسية تُعرف بـ"الإسقاط" (projection)، حيث يُسقط الفرد صفاته الداخلية، مثل الخوف أو الرغبة في الهيمنة، على الآخر، ليسوّغ سلوكياته القمعية أو العدوانية. و"عدو نتنياهو الأساسي ليس إيران، بل أي كيان يهدّد صورته السياسية المهيمنة، سواء أكان قاضيًا أم صحفيًا أو حتى حليفًا سابقًا"؛ كما يقول ألون بنكاس، وهو دبلوماسي سابق في "الخارجية الإسرائيلية".
ثالثًا- إيران في عقل نتنياهو السياسي
1. الهوس بالملف النووي الإيراني
يشكّل الملف النووي الإيراني عقدة نفسية وعقدية عند نتنياهو، وقد تحوّل إلى محور خطاباته الدبلوماسية منذ تسعينيات القرن الامضي؛. ففي كل محفل دولي، لا سيما في الأمم المتحدة، يحمل لوحات بيانية ورسومًا توضيحية يشرح فيها مدى اقتراب إيران من إنجاز "القنبلة النووية" مستخدمًا لغة إنذارية غير مسبوقة. وهذه النزعة تُظهر قلقًا وجوديًا دفاعيًا يتجاوز الحقائق العسكرية. إذ وفقًا لتقارير أمنية إسرائيلية سابقة، كان نتنياهو يبالغ عمدًا في توصيف الخطر الإيراني، حتى بعد تقارير استخباراتية كانت تنفي وجود قرار إيراني بإنتاج سلاح نووي.
2. إيران مرآة للتهديد الوجودي
في الخطاب النفسي التحليلي، يمكن فهم صورة إيران في عقل نتنياهو وكأنها "المرآة غير الشعورية" التي تعكس خوفه من الزوال. إذ يحمّلها صفات الخطر المتخيَّل كافة، ويستثمرها لترسيخ سردية أن "إسرائيل" مهددة، وتحتاج تاليًا إلى قائد "استثنائي" يحميها. هذا الهوس دفعه إلى معارضة الاتفاق النووي الأميركي–الإيراني، في العام 2015، بشكل مثير للاستغراب، حتى إنه خرق البروتوكول الأميركي وذهب ليخاطب الكونغرس الأميركي مباشرة ضد إدارة أوباما، ما يدلّ على أولوية "الرؤية الذاتية" على حساب التحالفات الاستراتيجية. إذ إنّ "نتنياهو لا يرى في إيران دولة، بل فناءً محتملًا قادمًا... لذلك يتعامل معها من منطق شعوري لا عقلاني"، كما يقول "روبرت مالي" المستشار الأميركي السابق لما يسمّونه منطقة "ألشرق الأوسط".
رابعًا- نتنياهو وصناعة الأزمات في التحكّم خلال الفوضى
1. افتعال الأزمات آلية للبقاء
يتقن نتنياهو لعبة صناعة الأزمات السياسية أو الأمنية، لا سيما عندما تتهدده محاكمات داخلية أو أزمات ائتلافية. إذ كلما ضاق الخناق القضائي عليه، بادر إلى التصعيد العسكري، كما حصل في قطاع غزة في العام 2021، أو اللعب بورقة القومية اليهودية، أو إثارة ملفات خارجية، مثل الخطر الإيراني وحزب الله على الحدود اللبنانية.. هذا السلوك يُفسَّر نفسيًا أنه نوع من التحوّل "الدفاعي" من الشعور بالذنب أو الفشل إلى الهجوم والاستعراض. وهو سلوك مألوف عند الشخصيات النرجسية المصابة بالبارانويا الخفيفة.
2. توظيف الدين والرموز التوراتية
يتعمّد نتنياهو إحياء رموز دينية توراتية وهي من الأساطير؛ مثل: "هيكل سليمان" و"يهودا والسامرة" و"شيلوح"، لإضفاء طابع "مقدّس" على مشاريعه الاستيطانية أو قراراته السياسية. وهو ما يُظهر تماهيًا غير شعوري مع أدوار أنبياء أو قادة تاريخيين، واعتقادًا داخليًا بأنّه في "مهمة سماوية" لحماية "شعب الله المختار"؛ الأسطورة التي تحوّلت إلى شعار دعائي للحفاظ على الوجود اليهودي المهدد بالاندثار في المجتمعات التي كانوا يُطرون منها.
خامسًا- أثر ملامح شخصية نتنياهو في مستقبل الصراع مع محور المقاومة
1. لا أفق للحل في ظل "البارانويا السياسية"
تشير معظم تحليلات الخبراء إلى أن وجود نتنياهو في الحكم يُغلِق إمكانات حل الصراع السلمية كافة، مع الفلسطينيين أولًا، قبل المقاومة في لبنان. ونتنياهو لا يؤمن بما يسمّونه "حلّ الدولتين"، ويرفض وقف الاستيطان الاستعماري، ويشرعن قوانين التمييز العرقي، ويُصرّ على تعريف "إسرائيل" أنها "دولة يهودية صافية"، ما يعني نفيًا ممنهجًا للحقوق الفلسطينية.
2. اندفاع نحو الحروب وغياب التوازن.. دافع نرجسي أم اضطراب في تقدير العواقب؟
يُظهر بنيامين نتنياهو نمطًا متكررًا من اللجوء إلى المواجهات العسكرية تحت مسمى "التصعيد المحسوب"، إلا أنّ سلوكياته في هذا المجال تكشف، في أحيان كثيرة، عن غياب واضح لتوازن التقدير السياسي والعسكري، يُعزى إلى بُنية نفسية قلقة تُعاني نزعة لإثبات الذات في وجه الشعور المتكرر بالتهديد أو التشكيك في الزعامة. إذ إن نتنياهو لا يتعامل مع المواجهات المسلحة بصفتها وسيلة أخيرة ضمن استراتيجية "دفاعية عقلانية"، بل بصفتها منصة تعبوية تعيد تصدير صورته قائدًا "لا يهاب الخطر"، ما يجعله عرضة لتكرار الأخطاء أو الاستهانة بردود الأفعال المتوقعة.
هذا الاندفاع يُفسّر نفسيًّا من زاويتين:
• الحاجة النرجسية إلى تعزيز الهيبة الذاتية: هي نزعة تظهر جليةً عند تعرضه لأزمات داخلية أو تراجع شعبيته، فيلجأ إلى التصعيد العسكري في "تعويض نفسي" يُعيد التماسك لصورة القائد المحاصر.
• آلية دفاعية تقوم على "إزاحة التهديد": إذ يسقط نتنياهو ضغوطه الشخصية أو السياسية على "عدو خارجي" يقدمه بصورة مهدد وجودي، ما يسوّغ سلوكياته المؤيضة والمتطرفة. ومن الناحية الواقعية، يتغافل، في أحيان عديدة، عن تقديرات جيش الاحتلال والمؤسسة الأمنية، أو يوظفها جزئيًّا بما يخدم أجندته الخاصة، لا سيّما في ظروف انتخابية أو تحوّلات دولية، كما حصل في عدّة موجات تصعيد سابقة في قطاع غزة أو الضاحية الجنوبية في لبنان.
3. علاقات عربية سطحية مبنية على التوظيف السياسي لا الرؤية الاستراتيجية
تنكشف فلسفة نتنياهو في مقاربته العلاقات العربية في ما يسمى "البراغماتية القصوى"، فهو لا ينظر إلى الدول العربية المُطبّعة بصفتهم شركاء استراتيجيين حقيقيين أبدًا، إنما يراهم أوراقًا وظيفية تُستخدم ظرفيًّا لغايات أمنية أو انتخابية. فهو لا يُخفي، لا في تصريحاته ولا في ممارساته، اعتقاده بأنّ العالم العربي في حال من "الانحلال السياسي"، وأنّ بإمكان "إسرائيل" استغلال هذه المرحلة لتطبيع يُراكم القوة ويُضعف الجبهة المعادية.
هذه المقاربة تتسم بعدّة خصائص:
• غياب الثقة البنيوية: لا تُبنى علاقات نتنياهو مع الأنظمة العربية على أسس احترام متبادل أو تطلّع لمستقبل إقليمي مشترك، هو يتعامل بنظرة ورؤية فوقية يرى فيها "إسرائيل" الطرف الأقوى و"الآخر" العربي تابعًا أو محتاجًا.
• سلوك تلاعب سياسي: يُوظف نتنياهو هذه العلاقات لأهداف ظرفية، مثل تحقيق اختراق دبلوماسي يُسوّقه في الانتخابات، أو لتطويق إيران عبر بناء اصطفافات إقليمية متوترة.
سادسًا- انعدام البعد القيمي أو الثقافي:
لا حديث عن شراكات حضارية أو تعاون في الملفات الجوهرية، هو يريد تطبيعًا اقتصاديًا أمنيًا قائمًا على مبدأ "نأخذ ولا نعطي". ومن زاوية نفسية، تنبع هذه الرؤية من شعور متضخم بالتفوّق الحضاري ونزعة عميقة إلى العزل الثقافي، حتى استثمار عقدة الرفض العربي لخلق فجوة استراتيجية تُضعف أي فرصة لنشوء تحالف حقيقي. وقد ترافق ذلك مع غياب أي خطاب صهيوني ثقافي أو ديني حقيقي للتقارب، إذ يُبقي نتنياهو التطبيع في مربّعه الصهيوني، من دون أي تنازلات رمزية في قضايا مثل القدس أو القضية الفلسطينية، ويستثمر كل تقارب في تثبيت وقائع احتلالية على الأرض.
نتنياهو الأكثر شراسةً بعد "طوفان الأقصى"
لا يمكن قراءة شخصية بنيامين نتنياهو ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بالمنظور نفسه الذي كانت تُفهم قبل هذه المحطة المفصلية. لقد شكّلت عملية "طوفان الأقصى" صدمة كبرى ضربت عمق المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وهزّت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وهو ما كان له أثر بالغ في شخصيته من الناحية النفسية والسياسية. لقد أدّى انكشاف "إسرائيل" الأمني والعسكري إلى مضاعفة هواجسه ومشاعر العجز والتهديد، فانعكس ذلك في تصعيد غير مسبوق على الصعيدين العسكري والخطابي. لقد تضخّمت "الأنا القتالية" بشكل لافت، حتى بات يقود الكيان الصهيوني بمنطق الثأر الوجودي، مسوّغًا ارتكاب المجازر والإبادات الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين تحت ذريعة "استعادة الردع" أو "حماية وجود إسرائيل".
نتنياهو في نسخته الجديدة لا يكتفي بتسويغ العنف، هو يسعى إلى شرعنته وتطبيعه، وقد نجح مع آلة إعلامية قوية في إفراغ مفردة "الإبادة" من محتواها الإنساني والأخلاقي لتُصبح في خطابه السياسي مجرد عملية عسكرية ضمن "حرب متعددة الجبهات"، وهي المصطلح الذي يُكثر من استخدامه، في إشارة إلى إيران، العراق، اليمن، سوريا، لبنان، غزة، والضفة الغربية، في محاولة لصناعة مناخ من الرعب الاستراتيجي وتعبئة المستوطنين حول "القائد المخلّص" الذي سيحميهم من هذا الطوق الناري. واللافت أنّ المحكمة الجنائية الدولية التي صنّفته مجرمًا مطلوبًا للعدالة الدولية أصبح قضاتها أنفسهم هدفًا لحملات التشهير والضغط الصهيونية والغربية، في مفارقة تُجسّد بوضوح الإفلات الدائم من العقاب نتيجة شبكة النفوذ المعقدة التي يمتلكها.
إن اختزال شخصية نتنياهو، بما كانت عليه قبل العام 2023 يُعدّ تبسيطًا مخلًّا؛ فالرجل اليوم بات يعبّر عن نزعة تدميرية أكثر وضوحًا من السابق، وما يزال يطيل من أمد الحرب أكثر من التوقّعات كلها، وما يزال في منصبه، ويزداد تمكينًا، بعدما استثمر الزلزال الأمني الناتج عن "طوفان الأقصى"، بشكل ذكي ومدروس؛ فحوّل الخسارة العسكرية إلى فرصة للبقاء السياسي، إذ كانت المؤشرات كلها تذهب إلى اقتراب نهايته السياسية والقضائية، بعد سلسلة من ملفات الفساد والاحتجاجات الداخلية، ولكنّه، بفضل عناده ودهائه السياسي استطاع عكس اتجاه المسار، حتى عزّز من مكانته وسلطته.
المراجع والمصادر العربية
1. تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي: "نتنياهو وإيران: الأوهام والمصالح"، 2023.
2. تحليل Alon Pinkas في "Jerusalem Post"، عدد يناير 2024.
3. قرارات الكنيست حول يهودية الدولة، 2018.
4. وليد عبد الحي، الدراسات النفسية لشخصية بنيامين نتنياهو، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2021.
المراجع والمصادر الأجنبية
1. Yehuda Ben Meir, Psychological Profiles in Israeli Leadership, Haifa University Press, 2019.
2. Netanyahu, Benjamin. A Durable Peace: Israel and Its Place Among the Nations. Warner Books, 2000.
3. Robert Satloff, "Bibi and the Bomb: Israel’s Obsession with Iran", Foreign Affairs, Vol. 92, No. 4, 2013.
5. Haaretz, various articles (2015–2024) on Netanyahu’s speeches and behavior.
6. Robert Malley, interview with The Atlantic, September 2015.