اوراق مختارة

جيوفاني أريغي.. مرحلة أخيرة من الرأسمالية الأميركية

post-img

محمود منير/ جريدة العربي الجديد

يصف أستاذ علم الاجتماع والمنظّر الاقتصادي الإيطالي جيوفاني أريغي في كتابه "القرن العشرون الطويل – المال والسلطة وأصول عصرنا"، سقوط الاتحاد السوفياتي في اللحظة الرائعة بالنسبة للبرجوازية الأوروبية تذكّر بـ"العصر الجميل" الذي عاشته في العشرينيات، لكنها لم تدرك أن هذا الازدهار المفاجئ وغير المسبوق لم يحلّ تراكمات الأزمات الاقتصادية، بل ينقلها من شكل إلى شكل أكثر إزعاجًا في المستقبل.

الكتاب الذي نُشر في منتصف التسعينيات، وصدرت نسخته العربية حديثًا عن الهيئة العامة السورية للكتاب بترجمة عدنان حسن، جاء ضمن موجة أدبيات استمرت حتى اليوم، وضع معظمها اقتصاديون من خلفيات ماركسية مثل أريغي، الذي اعتبر أن الدورة الرأسمالية الرابعة وهي الأميركية تعيش مرحلة أخيرة كما حدث مع سابقاتها البريطانية والهولندية وجنوة الإيطالية، يُستبدل فيها الإنتاج بالمضاربة المالية ومن ثم يصبح تبادل القيمة على نحو مجرد.

المرحلة الأخيرة التي لم تنته منذ أكثر من ربع قرن، يحللها المؤلف انطلاقًا من كون الاقتصاد هو محرّك التاريخ، حيث لا يتأتى توسّع الرأسمالية  بشكل خطي سلس، بل عبر تراكم سلسلة من الخطوات المتدرجة. وبما أن "دورة نيويورك" دخلت غالبًا في أزمتها النهائية فسيكون هذا أقصر فترة لهيمنة رأسمالية، قياسًا بالدورات السابقة، لكنه يخلص إلى أنه لا يزال من غير الواضح أن يحدث تغييرٌ في قيادة الاقتصاد العالمي، وبداية مرحلة جديدة من التطور الرأسمالي، أي إزاحة أميركا من قبل شرق آسيا بوصفها المركز الأكثر ديناميكية لسيرورات التراكم الرأسمالي.

قبل رحيله بأربعة أعوام، عاد أريغي لتأكيد خلاصته هذه في مقابلة أجريت معه، بقوله إنه ليس لدى الصين ما تكسبه بالنفوذ العسكري بل إنها ستخسر كل شيء، وليس أمامها سوى الصعود السلمي لقوتها الاقتصادية وعدم فرض الهيمنة وهي المسألة الوحيدة التي يخشاها الغرب. وذهب أبعد من ذلك حين دعا بلدان الجنوب إلى تعزيز الروابط في ما بينها من دون فك الارتباط مع بلدان الشمال، وسيكون الجنوب في وضع أفضل مع عالم متعدد الأقطاب، الذي يعني التقليل من التدخلات العسكرية للولايات المتحدة في العالم، فضلًا عن استقرار الأسواق وانتعاشها.

لم يبن المنظّر الإيطالي مقولاته إلا بعد فحص معمّق لتاريخ الرأسمالية في سبعة قرون، حيث السمة الرئيسية المشتركة بين جميع دورات تراكم رأس المال الأربع هي أن كل دورة كانت لها مرحلتان، في المرحلة الأولى يكون هناك توسع هائل في إنتاج السلع والتجارة، ثم يبدأ معدل الربح الناتج بالانخفاض في المرحلة الثانية التي تشهد تركيزًا على التمويل والمضاربة كما يحدث اليوم تمامًا، وهو يقدّم شروحات غنية بالتفاصيل والشواهد التاريخية ويقارن بين النظريات والاستنتاجات التي وضعت حولها.

السؤال حول إمكانية ظهور قوة رأسمالية مهيمنة جديدة لتحل محل الولايات المتحدة، انشغل به أريغي في مؤلفاته اللاحقة مثل "الفوضى والحوكمة في النظام العالمي الحديث" (مؤلف مشترك، 1999) وكتابه الأخير "آدم سميث في بكين" (2007)، وفيها يرجح أن يعيش النظام العالمي فترة طويلة من الفوضى ليس فيها غلبة جلية للولايات المتحدة أو الصين، من دون أن يتنبأ كم ستطول هذه الفوضى وماذا سيُسفر عنها، أو أنها تستقر نظامًا لأجلٍ غير مسمى.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد