اوراق خاصة

"سيّد الحرب" في التوقيت الدقيق لـــ"أولي البأس"

post-img

د. عبدالله عيسى/ كاتب لبناني

افتتح "مسرح رسالات"، في مركز بلديّة الغبيري الثقافي موسمه الصيفيّ بعرضه الخاص لفيلم "سيّد الحرب"، في 22 تموز/ يوليو 2025، حضره شخصيّات فنيّة وثقافيّة ودبلوماسيّة لبنانيّة وإيرانيّة، ما يُظهر أهمية الحدث ثقافيًا وسياسيًا، ويستكمل سلسلة عروضاته، بينما عُرِض أيضًا في بعلبك والهرمل وسط إقبال لافت من الأهالي، بعد تأجيل قسريّ فرضه العدوان الإسرائيليّ التدميريّ الأخير على الضاحية الجنوبيّة لبيروت (يوم الخميس 5 حزيران 2025) طال العديد من الأحياء السكنيّة، مخلّفًا دمارًا كبيرًا في الأبنية والمؤسّسات وأضرارًا جسيمة في الممتلكات (9 أبنية تدميرًا كليًا، كما تضرّر 71 مبنى و177 مؤسّسة)، بالإضافة إلى 50 سيارة.

علمًا أنّه لم يكن الاعتداء الأوّل على الضاحية، ولا الأخير على غيرها من تراب الوطن لبنان، منذ دخول ما سمي باتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024، وما ذِكْرُ التفاصيل المرتبطة بالعدوان إلا لحفظ الذاكرة وملابساتها يبنما يتجاهلها مسؤولون في سدّة الرئاسات اللبنانيّة على سبيل الإنكار أو التواطؤ، بينما تتسارع الأحداث في حركة من ديناميّات المرحلة وتفاعلاتها الأمنيّة والمجتمعيّة من أجل تحقيق مجموعة أهداف مُركّبة  ميدانيّة وسياسيّة ونفسيّة، تحصد في نهاية المطاف تقويض البيئة الحاضنة للمقاومة، عبر تلازم التهويل بين الإملاء الأميركيّ والعدوان الإسرائيليّ والانصياع المحليّ داخل السلطة وخارجها والإيعاز لتوتير الحدود الشماليّة الشرقيّة بعد الانقلاب السوري على الدور الممانع.

 تسعى تلك الحملة المسعورة بوتائرها المتسارعة إلى تبديل صورة المقاومة من كونها رصيدًا للبنان إلى عبء عليه، وصولًا إلى محاولة إحداث فتنة داخلية تستنزف المقاومة، وتطيح بالاستقرار اللبنانيّ، عبر المطالبة بخطوات أكثر جدّيّة ودراماتيكيّة ضدّ حزب الله، من أجل إعادة تشكيل التوازنات في لبنان والمنطقة، واستئناف المخطط الشيطانيّ للقضاء على الإرادة في أي مكان يصدح بالمقاومة.

 "العدو" والجبهة الثقافيّة المضادة

تلقّف القائمون على مسرح "رسالات" البرقيّة السياسيّة والإستراتيجيّة للعدوان الأميركيّ الإسرائيليّ على الجمهوريّة  الإسلاميّة في إيران (13 حزيران 2025) بأكثر من اتجاه؛ وأبرقوا للمقاومة ومجتمعها في لبنان إثر كل ما تقدّم ذكره، إشارة معبّرة في التوقيت والمكان والزمان والمحتوى، ومساحة من الفن العابر للحدود النابض بقيم الإصرار والعزيمة والصمود، في إجابة صلبة على مواجهة تطوّر الحرب المستمرّة نوعيًا بجبهاتها كافة، فالعدوان عبّر عنه رئيس الأركان الإسرائيليّ "إيال زامير"، في قوله إن "الحرب لم تنتهِ"، والعمليات ضّد حزب الله ستستمر لـ"إضعافه وصولًا إلى انهياره".

 وهنا لا بد من التأكيد، بأنّ العدو المهيمِن والمخادع لا يكفّ عن تحريك جبهاته الثقافيّة الناعمة من الفن إلى أنماط الحياة، فمحاولات القضاء على نبض الحريّة بشعار التحرّر، وإبادة الناس والفتك بهم بلسان الديموقراطيّة، واختراق هويّتهم وعاداتهم وأعرافهم بمزاعم حقوق الإنسان ونواتج الدراسات الانثروبولوجيّة والسوسيولوجيّة والسيكولوجيّة، وسلب عناصر قوّتهم في اجتماعهم السياسيّ تحت مسمّيات مقتضيات الدولة وما هي إلا أوهام تعادل الإذعان لأوامر خارجيّة على حساب الوحدة والمصلحة الوطنيّة ضاربةً بعرض الحائط الرضا والقبول ومنطق التوافق بين المكوّنات المجتمعيّة الأهليّة.

بإزاء هذه الاستراتجيّات العدوانيّة، تشخص الأبصار إلى جبهة ثقافيّة مضادة، مؤتمنة على حفظ الأصالة والتراث، وترشيد صلات الحاضر بين الأمصار وتعزيز أواصر ولحمة مجتمعات جبهة المقاومة على أسس قيميّة نحو حياة طيّبة، ما يستدعي تعويم الفن الملتزم  بالقضايا العادلة في جزء حيويّ من الفعل المقاوم.

إذًا، هذا العرض يتناغم مع الصمود الإعجازي الشجاع للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وللمقاومين في لبنان، وهو جواب على الطبيعة والسلوك العدوانيّ تجاه دول وحركات جبهة المقاومة، بل على الإنسان، فردًا وجماعة، وإنسانيّة الإنسان كقيمة.

 "سيّد الحرب" ضمن باقة فنّيّة متنوّعة

في هذا الإطار، يأتي الاختيار لهذا العمل السينمائيّ الإيرانيّ "سيّد الحرب"، ضمن باقة فنيّة تنتمي للسياق الأوسع للسينما الإيرانية، المشتملة على المقاومة والاجتماع والتاريخ. واستنادًا إلى محتواه الفنّيّ والسياق الثقافيّ والسياسيّ، يركّز على تصوير القوّة الصاروخيّة والقدرة العسكريّة الإيرانيّة ضمن قالب درامي مؤثّر في الأداء التمثيليّ والتقنيّات السينمائيّة وبناء الحبكة الدراميّة وكذلك في المحتوى السياسيّ والرسائل القيميّة في تمجيد الروحيّة الثوريّة والإصرار على الإنجاز والإلتزام الدقيق بأمر القائد الأعلى، وحماية الناس على طرفي خط القتال، فالإنسانيّة مقوّم من مقوّمات اتخاذ القرار في عقيدة الثورة الإسلاميّة ورسالتها الحضاريّة، وهكذا يتم توظيف السينما كأداة لمقاومة الهيمنة حيث تستفيد منها كل حركات ودول جبهة المقاومة.

ويُعتبر فيلم "سيّد الحرب" بمشاركة الممثل اللبناني "عمّار شلق" بدور أحد أبطاله، جزءًا من تعزيز التبادل الثقافيّ بين إيران والدول والشعوب العربيّة، خاصة بعد النجاح الملحوظ لأفلام إيرانيّة سابقة مثل فيلم "هناس" الذي تناول قضية اغتيال عالم نوويّ إيرانيّ، فيما يُظهر الإقبال على العروض تفاعلًا جماهيريًا مع تلك الأفلام ذات المضامين الإنسانيّة والسياسيّة، رغم اختلاف السياقات المحليّة.

يصنَّف الفيلم ضمن أفلام "المقاومة البصريّة"، ويُسلّط الضوْء َكـ"سينما دفاعيّة واستراتيجيّة" على جانب من جوانب معقّدة من القدرات العسكريّة الإيرانيّة، خصوصًا في مجال الصواريخ، عبر تصوير قصّة إطلاق أول صاروخ إيرانيّ بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، بإطار درامي يخدم الترويج لهيبة إيران الصاروخيّة، إبان الدفاع المقدّس في الحرب العراقيّة_الصدّاميّة المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 لم تكن المعركة فقط على الجبهات، بل في عمق مراحل التصنيع العسكريّة. وهي مسألة ضروريّة في وعي سياقات الصراع القائم، وموقع كل من سوريا وليبيا على خارطة تفاعلات تلك الأحداث، في الوقت الذي بدأت فيه إيران بتدريب كوادرها الفنيّين، وبتطوير قدراتها الصاروخيّة، سعى أعداؤها ومنافسوها أو أصدقاؤها المصلحيّون إلى إيقاف هذا التقدّم عبر سرقة أجزاء حيويّة من أنظمتها والتحكّم بالإحداثيّات والتقنيات، فتجسّدت الخيانة والترف العربي الغائب عن القضايا الكبرى والغارق في مستنقع اللذّات.

ما يبيّن أهميّة الاعتماد على القدرات الذاتيّة، والحاجة الماسّة والمستدامة للاستقلال، وأهميّة المعرفة والتقدّم بوصفهما مفتاحًا لإيقاف الحرب وويلاتها.

وهو ما يؤشر إلى حدود الرهان على الدول الصديقة، وربما يسهّل على المشاهد ومخيّلته، نسج تصوّرات أكثر واقعيّة حول مواقف باكستان وروسيا والصين من الحرب الأخيرة.

تغمز مجريات الفيلم إلى تاريخيّة العلاقة مع سوريا، وأن المهمّة لم تنته مع بلوغها العقدة والحبكة، فقد تسلّم فريق من الخبراء، مسؤولية استعادة القدرة، وتحويل الأزمة إلى انطلاقة جديدة، مما يروي فصلًا حساسًا من تاريخ معاصر، حين قرّر أبناء الوطن أن يحموه بأي ثمن!

ويبقى مشهد الموت بيدٍ إجراميّة مستتبعة، تغالبه موسيقى الحب، حيث تلتقط اليد الناعمة نبض القلب في زجاج الحياة، وتكون الكلمة الفصل لمن آثر غياب ابنته مع نكران الذات، وبسمته مجبولة بدموع العزّة، لا يروي قصة معركة، بل لحظة تحوّلت فيها إرادة الوطن إلى فعل، والخطر إلى إصرار على النهوض، لتبقى الراية خفّاقة، تشعّ أصداءها في أرجاء المعمورة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد