زينب الموسوي/ جريدة الأخبار
منذ الإطاحة بالديكتاتورية في خمسينيات القرن الماضي وبدء عهد الديموقراطية، ظلّت الولايات المتحدة الأميركية تسعى إلى ضمان نفوذها في فنزويلا، ودعم الحكومات التي تخدم مصالحها. وظهرت في المقابل حركات شعبية وقيادات معارضة لهذا النفوذ، كان أبرزها هوغو تشافيز، وخلَفِه نيكولاس مادورو، الرئيس الفنزويلي الحالي، اللذين تبنيا خطابًا معاديًا للهيمنة الأميركية.
في مواجهة هذه المقاومة للهيمنة الأميركية، فرضت أميركا جملة من العقوبات ضد فنزويلا ورئيسيها الأخيرين، لتضييق الخناق عليهم اقتصاديًا وسياسيًا. وقد وصل التصعيد حدّ مضاعفة أميركا للمكافأة المخصّصة لِمن يقدّم معلوماتٍ تؤدّي إلى اعتقال مادورو، من 25 مليون دولار إلى 50 مليونًا، مدّعيةً ضلوعَه في شبكات تهريب المخدرات. وهكذا، عادت سردية «مكافحة المخدرات» لحماية الأمن القومي الأميركي من التهديد إلى الواجهة. لفهم دوافع هذه التهمة «المعلّبة»، واستنتاج صحتها من عدمها، لا بدّ من العودة إلى الجذور التاريخية للعلاقات الأميركية-الفنزويلية التي يشكّل مادورو محورها الحالي، وحيث تتشابك مصالح الطاقة والسياسة والأمن ضمن لعبة نفوذ إقليمية معقّدة.
من النفط إلى التحالف السياسي (1900–1950)
بين 1900 و1920، كانت فنزويلا دولة زراعية تصدّر البن والكاكاو، وتتجه تجاريًا نحو أوروبا، فيما كانت واشنطن تراقبها ضمن مبدأ «مونرو» الذي يعتبر أميركا اللاتينية مجال نفوذ أميركي، لصد أي تدخل أوروبي. عام 1902، وقعت فنزويلا في أزمة ديون كبيرة، ففرضت بريطانيا وألمانيا وإيطاليا حصارًا بحريًا لتحصيل ديونها، فتدخلت أميركا ديبلوماسيًا، بصورة «الوسيط»، لتسوية الأزمة، مثبتة استعدادها لحماية نفوذها.
شكّل اكتشاف حقل «لا روسا» النفطي، عام 1922، منعطفًا مهمًا في اقتصاد فنزويلا وفي علاقتها بأميركا، فدخلت شركات أميركية، خاصة ستاندرد أويل (إكسون لاحقًا)، بقوة في الاستثمار، لتصبح واشنطن في نهاية العشرينيات أكبر مستورد للنفط الفنزويلي، الذي أصبح بدوره أحد أهم مصادر الطاقة للصناعة الأميركية. وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبح النفط الفنزويلي مصدرًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة وحلفائها، ومُنع عن دول المحور. من جهتها، عززت واشنطن وجودها العسكري والاستخباراتي في الكاريبي لحماية خطوط إمداد النفط من أي تهديد ألماني.
بعد الحرب، دعمت الولايات المتحدة التحديث الصناعي مقابل استمرار امتيازات شركاتها، وبلغت العلاقات ذروتها في عهد ماركوس بيريز خيمينيس (1952–1958) مع استثمارات أميركية واسعة ودعم سياسي وعسكري متبادل، لتصبح واشنطن الشريك الاقتصادي الأول والمستورد الأكبر للنفط الفنزويلي، وأضحت العلاقات أكثر ودية مع وجود نفوذ اقتصادي أميركي واسع، وبوجود حكومات فنزويلية مؤيدة بمعظمها للغرب.
الحرب الباردة:
خلال الحرب الباردة، شكّلت فنزويلا حليفًا إستراتيجيًا لواشنطن في النفط والأمن ومواجهة المدّ اليساري. فبعد الإطاحة بماركوس بيريز خيمينيس في 1958 بانقلاب شعبي–عسكري مشترك وتخلّي أميركا عنه، رعت واشنطن اتفاق «بونتو فيخو» لترسيخ ديموقراطية رأسمالية مضادة للنفوذ السوفيتي.
ولكن، مع نجاح الثورة الكوبية (1959)، ظهرت حركات تمرد يسارية مسلحة في فنزويلا متأثرة بها، فتلقت الحكومة الفنزويلية دعمًا عسكريًا واستخباراتيًا أميركيًا لقمعها، ضمن إستراتيجية «احتواء الشيوعية» في نصف الكرة الغربي. وهكذا أبدت الحكومة الفنزويلية ولاءً واضحًا للمعسكر الغربي.
في بداية السبعينيات، ارتفعت أسعار النفط عالميًا بعد أزمة 1973، وعلى إثر ذلك، أصبحت فنزويلا دولة غنية نسبيًا. فقامت الحكومة الفنزويلية برئاسة كارلوس أندريس بيريز بتأميم صناعة النفط عام 1976. ورغم قرارها السيادي، واصلت كاراكاس تزويد واشنطن بالنفط وتعويض الشركات الأميركية بسخاء.
في الثمانينيات، أدى انهيار أسعار النفط إلى أزمة ديون وبطالة حادة ربطت فنزويلا بسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ما عمّق النفوذ الاقتصادي الأميركي عبر سياسات التقشّف والخصخصة. هذا لم يمنع استمرار الدعم السياسي والاقتصادي الأميركي لفنزويلا والتعاون الأمني بينهما لمكافحة الأنشطة اليسارية المتبقية، فقد ظلّت واشنطن ترى في كراكاس «الديمقراطية النموذجية» في قارة مليئة بالانقلابات العسكرية.
مرحلة التمهيد لتشافيز (1989-1998):
في مدة ما قبل تشافيز، وبالتحديد من أواخر الثمانينيات وحتى أواخر التسعينيات، شهدت فنزويلا تقلبات اقتصادية واجتماعية متزايدة انعكست مباشرة على علاقتها بالولايات المتحدة. رغم أنها كانت لا تزال حليفًا اقتصاديًا مهمًا لواشنطن بفضل صادرات النفط الكبيرة، ولكنّ تدهور أسعار النفط العالمي في الثمانينيات تسبب في أزمة مالية حادة وأزمة ديون دفعت الحكومة الفنزويلية إلى تبني سياسات تقشّف قاسية وفقًا لتوصيات صندوق النقد الدولي، ما أدى إلى تراجع مستويات المعيشة وزيادة الاحتجاجات الاجتماعية، مثل أحداث «كاراكازو» عام 1989 التي شهدت قمعًا دمويًّا للمتظاهرين.
في هذه المرحلة، استمرت الولايات المتحدة بدعم الحكومات الفنزويلية التي تبنت الإصلاحات النيوليبرالية، وكان تركيز واشنطن منصبًّا على الحفاظ على استقرار إمدادات النفط ومنع انتشار النفوذ اليساري الذي كانت تعزّزه ثورة كوبا. مع ذلك، بدأ ينمو في صفوف قطاعات واسعة من الشعب الفنزويلي شعور بالإحباط من النمو الاقتصادي المحدود والفساد المستشري، ما مهّد الطريق لصعود هوغو تشافيز، الذي كان نقطة تحوّل جذريّ في العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة.
عهد هوغو تشافيز (1999-2013):
شهد عهد تشافيز تحوّلًا جذريًا في مسار فنزويلا السياسي والاجتماعي، إذ أسس لنمط جديد من الحكم قائم على «الثورة البوليفارية»، مستلهمًا أفكار القائد التحرري سيمون بوليفار. أصبح رئيسًا لفنزويلا في انتخابات 1998، فقام بعدد من الإصلاحات، منها تعديل الدستور في 1999 لتعزيز السلطة التنفيذية وتوسيع المشاركة الشعبية عبر إنشاء مجالس شعبية ومؤسسات ديموقراطية مباشرة، كما أطلق سلسلة من البرامج الاجتماعية الطموحة التي استهدفت محاربة الفقر والأمية وتحسين الرعاية الصحية والإسكان للمواطنين الأكثر فقرًا، معتمدًا في تمويلها على إيرادات النفط الوطنية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد اتخذ تشافيز موقفًا معاديًا للولايات المتحدة، ورفض هيمنتها الإقليمية، مكرّسًا تحالفات قوية مع دول مثل كوبا وروسيا وإيران، ومؤسسًا تحالفات إقليمية مثل التحالف البوليفاري لشعوب أميركا اللاتينية (ALBA) لتعزيز التكامل الإقليمي المستقل. هذا الخطاب والسياسات المعادية للهيمنة الأميركية أدت إلى توترات شديدة بين فنزويلا وواشنطن، وشكلت نقطة تحول في العلاقات الثنائية التي استمرت في حالة توتر متصاعد طوال مدة حكمه. وهنا استخدمت الولايات المتحدة شتى الوسائل للتحريض على حكومة تشافيز، ومنها زعمها أنه يرعى منظمات جريمة منظمة، أي ما يُسمّى «الإرهاب».
عهد نيكولاس مادورو (2013-الآن):
بعد وفاة هوغو تشافيز في 2013، تولى نيكولاس مادورو الحكم في فنزويلا، في ظل تحديات سياسية واقتصادية عميقة، متابعًا نهج «الثورة البوليفارية» المناهضة للهيمنة الأميركية في المنطقة. على مدار حكمه، واجه مادورو ضغوطًا متزايدة من الولايات المتحدة التي رأت في سياسته وحلفائه تهديدًا لمصالحها الإقليمية. فبدأت منذ 2015، فرض سلسلة عقوبات اقتصادية مستهدفة قطاع النفط، الذي يعد العمود الفقري لاقتصاد فنزويلا. وتصاعدت هذه العقوبات بصورة كبيرة في 2019، عندما دعمت الولايات المتحدة زعيم المعارضة خوان غوايدو الذي أعلن نفسه رئيسًا مؤقتًا، معترفة به رسميًا، وقطعت العلاقات الديبلوماسية مع حكومة مادورو.
سعت واشنطن عبر هذه العقوبات إلى تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على كاراكاس، وعرقلة قدرتها على تمويل برامجها الاجتماعية وحشد الدعم الشعبي. في المقابل، استند مادورو على دعم قوي من الجيش وحلفاء دوليين مثل روسيا، الصين، وكوبا، الذين قدموا له دعمًا سياسيًا واقتصاديًا مهمًا ساعده على الصمود في وجه الضغوط الأميركية.
وفي السنوات الأخيرة، ومع أزمة الطاقة العالمية واحتياجات واشنطن إلى الطاقة نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية، بدأت محادثات غير رسمية بين الطرفين لتقديم تسهيلات ورفع العقوبات عن فنزويلا مقابل وعود بـ«إصلاحات سياسية». ونتيجة تعرقل المحادثات عام 2024، عادت أميركا إلى سياسة الضغط الأقصى. وكان آخر تجلياتها الخطوة الأخيرة بمضاعفة المكافأة المخصصة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو بتهمة ضلوعَه في شبكات تهريب المخدرات.
ثنائية أميركا و«المخدرات»:
نجح الأميركيون على مدى عقود في ربط تهمة الإتجار بالمخدرات والضلوع في شبكات تهريبها بالأمن القومي الأميركي، عبر الزعم بأن هذه التجارة تتيح للمنظمات تمويل عملياتها وتسمح لها ببناء تواجد أمني في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، أميركا اللاتينية، كما إنها تهدد المجتمع الأميركي عبر ضخ المخدرات إلى داخل الولايات المتحدة، وفقًا لكتاب «تحت قبّة الكابيتول». ولذلك، تلقي الولايات المتحدة هذه التهمة ضد أعدائها بهدف تحويلهم إلى تهديد داهم ومباشر للأراضي الأميركية والمواطنين الأميركيين.
رغم أنّ دعم الولايات المتحدة ورعايتها، المباشرة أو غير المباشرة، لتجارة المخدرات موثق في عدد كبير من التقارير الصحافية والكتب وشهادات مسؤولين سابقين، وهو يرتبط غالبًا بعمليات الاستخبارات الأميركية (CIA) وحروبها بالوكالة في مناطق مختلفة.
إذ في الثمانينيات، دعمت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) متمردي «الكونترا» في نيكاراغوا ضد الحكومة الساندينية. وأشارت تقارير، منها تقارير غاري ويب في سلسلة Dark Alliance، نشرتها San Jose Mercury News 1996) إلى أن شبكات مرتبطة بالكونترا هرّبت كميات ضخمة من الكوكايين إلى الولايات المتحدة، خاصة إلى لوس أنجلوس، حيث تم تصنيع «الكراك» وبيعه في الأحياء الفقيرة، وأن الـCIA غضّت الطرف وسهّلت ذلك مقابل تمويل غير قانوني لـ«الكونترا». كما إن تقرير المفتش العام للـCIA عام 1998 أقرّ أن الوكالة كانت على علم بأن شركاء «الكونترا» متورطون بالمخدرات، ولم توقفهم.
من جهة أخرى، كشفت وثائق «ويكيليكس» أن الولايات المتحدة كانت على علم بعمق اختراق كارتيلات المخدرات للأجهزة الأمنية المكسيكية. كما أشارت تقارير صحافية مكسيكية نُشرت في 2014 إلى أن «إل تشابو» كان يتعاون مع أجهزة المخابرات الأميركية بين عامي 2000 و2012 ضمن صفقة بينه وبينها قضت بإسقاط الملاحقة القانونية الأميركية للكارتيل الذي كان يديره (كارتيل سينالوا) مقابل تقديمه معلومات عن كارتيلات مكسيكية منافسة له، وتتضمن الصفقة تغاضي المخابرات الأميركية عن إدخاله أطنانًا من المخدرات إلى داخل الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، أشارت تقارير VICE News وEl Universal عام 2014 إلى اتفاقات غير معلنة بين وكالة مكافحة المخدرات DEA وبعض قيادات الكارتيل.
في أفغانستان، لفتت تحقيقات مثل كتاب «Opium Wars» لـ Alfred W. McCoy إلى أن بعض زعماء الميليشيات الأفغانية المتحالفة مع القوات الأميركية كانوا من كبار تجار الأفيون، وأن القوات الأميركية وفّرت لهم الحماية ضمن إستراتيجية «شراء الولاءات» ضد طالبان.
وفي شهادات مسؤولين سابقين، صرّح مايكل ليفين، عميل سابق في DEA، بأن الوكالات الأميركية كانت تستخدم تجارة المخدرات كأداة تمويل للعمليات السرية خارج رقابة الكونغرس. ووثّق ألفريد مكوي، أستاذ التاريخ، منذ السبعينيات في كتابه The Politics of Heroin أن الـCIA استخدمت شبكات تهريب الهيروين في جنوب شرق آسيا أثناء حرب فيتنام.
بناء على هذا السياق التاريخي الطويل من العلاقات المتأرجحة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، يعكس التصعيد الأميركي الأخير ضد مادورو، أن القضية لم تكن يومًا قضية «إرهاب» أو «شبكات تهريب مخدرات»، فأميركا هي الراعي الرسمي لهما كما توضح وثائق التاريخ كلها.
جوهر القضية أن مادورو، هو من الرؤساء القلائل الذين استطاعوا أن يقفوا في وجه الهيمنة الأميركية بنديّة، رافضين التدخلات الخارجية، وساعين إلى استعادة السيادة الوطنية عبر تحالفات إقليمية ودولية مضادة لمصالح واشنطن. ومن هنا، تبرز هذه المكافأة كحلقة في سلسلة صراع تاريخي يعكس محاولات أميركا المتكررة للهيمنة على ثروات فنزويلا، خصوصًا النفط، وإضعاف الحكومات التي ترفض الخضوع لمصالحها.