اوراق خاصة

الجيش اللبناني .. العقيدة التي تحمي الوطن

post-img

د. ليلى شمس الدين/باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام وأستاذة جامعية

  • على إيقاع العزّة والكرامة

لم يكن ذاك الصباح من شهر تموز عاديًا، فمن على تخوم أرضٍ ما تزال رائحة الاحتلال عالقة بترابها، وقف ضابط لبناني شاب اسمه محمد حسين قرياني ببدلته العسكرية على تخوم الأرض التي دنّسها الاحتلال الإسرائيلي. لم يكن هذا الضابط الوطني يحمل سلاحًا نوعيًا ولا يحتمي بترسانة متطوّرة ليواجه بهما مدرّعات العدو، وإنّما حمل في قلبه وعقله وروحه ما لا يّقدّر بثمن، حمل" كرامة جيش بأكمله".

واجه الضابط قرياني الجنود الصهاينة المدجّجين، ورفض أن ينحني.  وفي تلك اللحظة أصبح مرآة وطن بكامله، ولم يعد مجرّد جندي في الجيش، بل تحوّل إلى صورة تختصر معنى الجيش اللبناني، صورة حيّة لعقيدة جيش يختار أن يقف بصدور أبنائه العارية، قبل أن يختبئ خلف دباباته. موقف حوّل هذا الضابط الذي اختار المواجهة وصولاً إلى الشهادة على أن يفرّط بشبر واحد من تراب الوطن، موقف جعله أيقونة تختصر معنى الجيش اللبناني برمّته " أن تموت واقفًا دفاعًا عن هذا الوطن لا أن تتغاضى أو تنحني مهما عظمت التحدّيات".

لحظات تاريخية حُفرت في وجداننا جميعيًا نحن أبناء في وطن حر ومقارم، لحظات لم تعد مجرد ذكرى، وإنّما هي  اليوم بوصلة اللبنانيين في لحظة دقيقة، موقف تاريخي استحضرناه مع قول قائد الجيش الحالي العماد رودولف هيكل عبارته التي دوّت في القلوب "أستقيل ولا أسفك الدماء".

أبعاد يتردّد صداها في ضمير وطن، لترسّخ عقيدة الجيش التي لم تتبدّل. عقيدة تبقى صمّام أمان السلم الأهلي، وملاذ وطن يجد في مؤسسته العسكرية حبل نجاة في مرحلة من أدق وأخطر لحظات وطننا.

  • حين تأسّس الجيش.. وطن يبحث عن أعمدة

وُلد الجيش اللبناني، في العام 1945، حلم صغير في دولة خارجة من عباءة  الاحتلال (الانتداب)، منذ إنشائه حمل على كتفيه إرثًا صعبًا في بلد موزّع بين طوائف وولاءات، لكنه في الوقت نفسه كان رمز الدولة الحديثة.

بانت ولادته محاولة جريئة لصياغة هوية وطنية جامعة في بلدٍ ما يزال يتلمّس طريقه وسط فسيفساء الطوائف. صحيح أنّه لم يكن جيشًا كبيرًا بالعدد ولا مدجّجًا بالعتاد والسلاح، لكنه حمل من اللحظة الأولى رسالة ووعدًا، ليسا بالسهل أبدًا، بأن يكون جيش اللبنانيين كلهم، على تنوّع طوائفهم وأحزابهم، في محاولة لبناء مؤسّسة وطنية جامعة وسط نسيج طائفي هشّ.

  • من الولادة إلى الانقسام

في العقد الثالث بعد نشأة الجيش اللبناني، ومع اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، تعرّض وعد الجيش إلى زلزال كبير، حيث تلقّى الضربة الأقسى عندما انقسمت بعض وحداته، عندما انشقّ العميل سعد حداد في الجنوب ليشكّل ما سُمّي بـ"جيش لبنان الجنوبي" تحت رعاية الاحتلال الإسرائيلي.

كان ذلك بمثابة طعنة في قلب العقيدة الوطنية، إذ كيف يتحوّل جيش الوطن إلى أداة في يد العدو؟ بدا المشهد كابوسيًا مع مشروع لحد التآمري، وشكّل نموذجًا لِما قد يعنيه سقوط الجيش في فخ الانقسامات،جيشٌ في خدمة الاحتلال بدلًا من أن يكون حارسًا للوطن.

عندها أدرك اللبنانيون بمرارة سقوط جيشه في فخ التآمر والانقسام، وهو ما يعني تحوّله من حارس للوطن إلى أداة في يد المحتل المجرم، ومن رمز وحدة إلى عنوان انهيار. لم يندمل جرح هذه الخيانة العظمى بسهولة، لكنّه بقي في ذاكرة الضباط والجنود وجميع الأحرار في هذا الوطن تحذير أبدي من خطورة الانقسام. مؤامرة ما زالت منطلقاتها وتبعاتها تُستعاد كلما هبّت ريح الفتنة، فقد رأى اللبنانيون بأم أعينهم كيف يمكن أن يُسلب الجيش من معناه ويتحوّل أداة في يد المحتل المجرم والمغتصب.

  • القائد الذي أعاد توجيه البوصلة

في العام 1989، تسلّم العماد إميل لحود قيادة الجيش، في وقت كانت البلاد تترنّح على حافّة الهاوية، بين رماد الحرب وضغط التسويات، وفي لحظة تشبه السير على حبل مشدود فوق فراغ سحيق. لم تكن التحدّيات عادية، فالبلد ممزّق بعد حرب أهلية وصراعات أنهكت البشر والحجر، إضافة إلى ضغوط داخلية وخارجية تسعى إلى جرّ الجيش وزجّه في لعبة المصالح.

في تلك الليالي الحالكة التي غزت اليرزة، وغرقت مكاتب وزارة الدفاع في صمت ثقيل يشبه ثقل البلاد،الخرائط مفتوحة على مصراعيها، وأخبار الانقسامات تتوالى، وضباط مترددون بين ولاءات الطوائف وضغط الشارع.

أمام هذا الواقع، وبصلابة رجل يعرف أن أي تهاون قد يعني انهيار ما تبقّى من وطن، اختار لحود أصعب الخيارات، وقال بلهجة حاسمة "إذا دخلت السياسة إلى الجيش، انتهى لبنان. مهمّتنا أن نبقى جيش لبنان، لا جيش أي فريق".

لم يكن هذا القرار تنظيريًا، بل فعل مقاومة بحد ذاته، إختار لحّود أن يحفظ الجيش كونه قلب الوطن وعماده. ففرض الانضباط يوم كانت الفوضى قاعدة، وأغلق أبواب المؤسّسة أمام رياح الاستغلال السياسي فعمل على حمايتها، واختار أن يرفع جدارًا حول المؤسّسة العسكرية، ليحميها من التفكّك ويمنعها من الانجرار إلى دماء جديدة. وأرسى بوضوح معادلة صارت عقيدة "إسرائيل هي العدو الذي لا يُهادن، والجيش ليس طرفًا في نزاعات الداخل، لا الجار ولا الشريك في الوطن ".

رأى البعض أنّ إرساء هذا المشهد هو مقامرة وطنية، ولكن لحّود راهن على بناء جيش لا ينحني للانقسامات، ولا يساوم على العدو، ولا يسمح أن يُستغل في الداخل، وبذلك استطاع أن ينجح في جعل الجيش مظلة فوق الجميع،

في إخراج لبنان من دوّامة الانقسامات. وبهذا التحديد، خرج الجيش من الحرب أكثر تماسكًا، وأكثر إصرارًا على أنّ السلم الأهلي هو خط أحمر. وبهذا الثبات، لم ينقذ لحود الجيش من الانقسام وحسب، بل صاغ هويته الحديثة، جيشٌ يعلو فوق الطوائف، ويقف على مسافة واحدة من الجميع، ليُبقي لبنان على قيد الحياة في أحلك الظروف. لقد كان إدراكه حاسمًا، لحظة مفصلية حمت هذا الوطن ولا زالت. لقد كتب لحود في تلك السنوات قواعد صارت بمثابة «دستور غير مكتوب» للجيش اللبناني: جيش يحمي الوطن حتى من جنون بعض أبنائه.

المخاطر الماثلة.. هل ينحني الجيش أو يتفتّت؟

بين تجربة الانقسام المريرة مع حدّاد، ورؤية لحود للعقيدة الوطنية، وموقف هيكل قائد الجيش الحالي لسفك الدماء، يستجر هذا الوضع أكثر من طرح وسؤال، لا يتناول أوّلها حيادية الجيش في خضم كل هذه الضغوط؟ ولا يتوقّف آخرها عن البحث في كيفية وإمكانية دعم عقيدة الجيش لحماية السلم الأهلي؟

صحيح أنّ الخطر قائم نظريًا، خصوصًا في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية، وأيضًا مع وجود محاولات بعض القوى في الداخل والخارج لجرّ المؤسّسة العسكرية إلى محاور متنازعة. ولكن حتى الآن، يبدو أنّ دروس التاريخ ماثلة أمام ضباط الجيش وقياداته، فالزلزال المر  لما سُمّي بــ "جيش لبنان الجنوبي" شكّل ردعًا أخلاقيًا وسياسيًا ممانعًا لأي محاولة جديدة لتكرار سيناريو مماثل. ناهيك عن التماسك الداخلي حول عقيدة الجيش الأساسية، والمتمثّلة في حماية الوطن من العدو الإسرائيلي والإرهاب، والحفاظ على السلم الأهلي، يشكّل عامل حصانة أمام أي مشاريع تفكيكية.

لهذا يكتسب هذا الجواب أهمية استثنائية، إذ يذكّر اللبنانيين بأنّ المؤسّسة العسكرية لم تُبنَ لتكون طرفًا في الصراعات، بل لتكون الحاجز الدائم والصلب والمتصدّي أمام تفتيت الوطن ودفعه للانهيار الكامل. موقف ترجمه التصريح الأخير لقائد الجيش العماد هيكل بإعلانه التنحّي عن دوره إذا ما زُجّ بالجيش لسفك دماء المدافعين عن هذا الوطن والشركاء في حمايته.  

في هذه اللحظات الدقيقة واحسّاسة والمصيرية، يأتي تصريح قائد الجيش ليعيد تأكيد أنّ الجيش ليس قوة للبطش أو لإدارة الحسابات الداخلية، وأنّ العقيدة ليست مجرد تكتيك عسكري، بل هي بوصلة أخلاقية. وإنّ رفض إراقة الدماء، حتى لو كان الثمن الاستقالة، يرسل رسالة واضحة تستبطن أكثر من اتجاه.

لقد أعاد قائد الجيش إرساء قاعدة أساسية تؤكّد أنّ الجيش هو ضمير لبنان الحي، وأنّ وحدة النسيج الوطني أهم من أي منصب، وأنّ السلاح موجود لحماية اللبنانيين، لا لمواجهتهم أو قتلهن، وأنّ العقيدة الوطنية ليست نصوصًا على ورق، بل دمٌ يسيل ليحمي لبنان من أي اعتداء أو انتهاك أو موت.

في كل مرّة ترتفع الأصوات وتلوح الفتنة، يتذكّر اللبنانيون أنّ من يقطع الليل على الطرقات هو جندي بلباس بسيط، راتبه بالكاد يكفي، لكنه يصرّ أن يضع جسده حاجزًا أمام نار المواجهة. وحين يتساءل البعض: ما الذي يميّز الجيش اللبناني عن غيره؟ الجواب يُختصر بابتسامة ذلك الجندي ليلة الحاجز عندما واجه العدو وجهًا لوجه بكرامة تتجاوز حدود الرتبة والسلاح .

هي هواجس وأسئلة تطفو كلما تصاعد التوتر. لكن حتى اللحظة، صمدت المؤسّسة العسكرية، والفضل يعود إلى توازن دقيق بين ذاكرة الماضي وإرادة الحاضر. فثمة أمل معقود على جيش يختار أن يحمي الحياة، حتى لو كان الثمن، الحرمان والمواجهة، وصولاً إلى الشهادة ليبقى الوطن حرًا، سيّدًا ومستقلًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد