خضر المصري (جريدة الأخبار)
«العدو قرر ألا يقتل المستهدفين بتفجير جهاز البيجر، أراد أن يصابوا بتشوّهات وإعاقات واضحة لا يمكن إخفاؤها في الوجه، لتصبح هذه الإصابات قيمةً سلبيةً في المجتمع، ووصمة سلبيةً في حياة المستهدفين ومحيطهم، وهذا في المفهوم يندرج تحت الفكر الاستعماري الذي يتعمّد كيّ الجسد ليكوي الوعي من خلاله»...
هكذا رأى الدكتور الفلسطيني، غسان أبو ستة، المشهد الذي حصل في السابع عشر من أيلول 2024، وهو جرّاح التجميل المتخصص في طب النزاعات والحروب، والذي جاء من بريطانيا إلى لبنان، على عجل، بعد ليلة واحدةٍ من الحادثة، ليشارك في إحدى أكبر المناورات الطبية الجراحية على مستوى المنطقة، حيث جرى العمل على إسعاف وإيقاف نزيف أكثر من ثلاثة آلاف شخص، تعرضوا جميعاً لإصابةٍ متشابهةٍ في وقتٍ واحد!
البحث عن مصطلح
خلال عامٍ على حادثة البيجر، أُطلقت مصطلحاتٌ وتوصيفاتٌ متعددة على ما جرى. العدو اعتبر ما جرى «عملية» استخبارية أمنية ناجحة، افتخر فيها حداً بلغ إهداء نتنياهو لترامب بيجراً ذهبياً، في دلالةٍ واضحةٍ على تعظيم الحدث واعتباره إنجازاً وبراندينغ Branding يستحق الاحتفال والتخليد. وقد وصف ترامب الأمر بالـ «عملية الرائعة» وهو مصطلحٌ لم يسبق في التاريخ ربما أن يطلقه أحدٌ على حدثٍ دامٍ بهذا الشكل.
من جانب المقاومة وهي الجهة المستهدفة بالحدث، فقد جاء البيان الرسمي ليصف ما حدث بـالاعتداء الآثم والعدوان الإجرامي. قبل أن يطلّ سماحة الأمين العام لاحقاً في كلمة متلفزة معتبراً ما جرى «عملية إرهابية كبرى»، معتمداً مصطلح «المجزرة» للتعبير عن الحدث.
المنظمات الحقوقية والدولية، اعتبرت ما حدث هو «جريمةٌ» و«انتهاكٌ» صارخ للقانون الدولي، أما إعلامياً، فقد استخدم الإعلام المؤيد للعدو أو المعادي للمقاومة مصطلحات تقنية مباشرة مثل «هجوم» و«تفجيرات»، فيما استخدمت وسائل الإعلام المؤيدة للمقاومة مصطلحات إنسانية مثل «العدوان» و«الجريمة» و«المجزرة».
الحاجة إلى مصطلح جديد
يمكن اعتبار ما سبق نتيجةً لا نحتاج فيها إلى البحث عن مصطلح جديد، يمكن عبرها فهم التسميات والمصطلحات واختيار الأنسب منها بحسب الغاية والوظيفة والموقف، ولكنّ هناك خللاً مهماً في ما سبق: كل المصطلحات السابقة كانت ترتبط بالفعل نفسه، توصّف الفاعل أو ما نتج منه، وتُبقي الحدث في إطار الآخر، ولا مصطلح منها كان يعبّر عن الطرف المستهدف ودلالة الحدث بالنسبة إليه. المصطلحات ليست مجرد كلمات، بل هي جزء أساسي ومهم في الحروب الناعمة، فلا مناص من البحث في ما جرى للوصول إلى المصطلح الأمثل الذي يمكن أن يعبّر عما جرى.
وبما أن القانون الثالث لنيوتن ينصّ أنه: «لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه»، فلا بد للباحث الذي يريد الإحاطة بالموضوع أن ينظر إلى رد الفعل، وما جرى في المقلب الآخر من الحدث.
تلبية العناصر
أجهزة البيجر هي أجهزة نداء. ترسل إشارات إلى العناصر، ليقوم كل منهم بتلبية الأمر وفقاً للترميز المتفق. وبحسب الاستخدام، كانت هذه الأجهزة في الحالة الأكبر ترافق العناصر في حالتي الإجازة والجهوزية، بانتظار أوامر الالتحاق، وبالتالي فإن المستهدفين الأساسيين من هذه العملية هم العناصر في بيوتهم وأشغالهم المدنية قبل أن يكون المستهدفون هم العناصر في الجبهات.
لكن ماذا لو لم يكن الجهاز مع صاحبه مرافقاً له وقريباً جداً منه دائماً؟ ماذا لو كان جرى إطفاء الجهاز أو إهمال الرد على الاتصال الوارد إليه؟ ماذا لو تهرّب العنصر من الإجابة تهرباً من الالتحاق بالخدمة نتيجة الوضع العسكري الخطر؟ ماذا لو تهرب من الرد تجنباً لأداء مهمة قد يكون مصيرها الجرح أو القتل؟
ماذا لو تحجج العنصر بانشغاله في متابعة أمور عائلته ومعيشته لعدم الرد؟ النتيجة ستكون محدودة. لم يكن لكل هذه العملية الأمنية الطويلة الدقيقة الاستخبارية أي أثر سوى أبواب خزائن خشبية مكسورة وحقائب منزلية ممزقة!
غير أن ما حدث أنّ أكثر من 95% من حملة هذه الأجهزة كانوا في حال جهوزية. الآلاف منهم كانوا مؤمنين بما يقومون به مندفعين إليه ومستعدين لتحمل آثاره، فلبوا النداء فوراً وأمسكوا بأجهزتهم في ثوانٍ قليلة، ولولا ذلك لم تكن المستشفيات لتمتلئ، واقتصر الحدث على عدد محدود صغير من المصابين.
استجابة المجتمع
لم يكن الحدث مقتصراً على العناصر، بل امتد للمجتمع. ماذا لم يكن المجتمع متماهياً مع المقاومة؟ ماذا لو ترك الناس المصابين في أعينهم وأيديهم على الطرقات وفي المنازل والمحلات من دون أن يبادروا إلى إسعافهم؟ ماذا لو كان الناس منفصلين عن المقاومة غير داعمين لها، ألم نكن نراهم يتركون الجرحى ليلاقوا مصيرهم وحدهم؟
ماذا لو كان الأهالي من نساء ورجال جبناء وخائفين، هل كان أحدهم ليتقدم ويحمل يداً وإصبعاً وعيناً ويلحق بصاحبها إلى طوارئ المستشفيات عله يمكن إنقاذها أو الاستفادة منها؟ هل كنا لنرى مشهد الدراجات النارية والسيارات المغطّاة بالدماء والثياب الحمراء تتنقل بالمستهدفين من مشفى إلى مشفى في محاولةٍ لإنقاذهم وإيقاف نزيفهم؟ هل كنا لنرى النساء يحملن البطانيات والأغطية وعلب الطعام والمياه يوزعونها مجاناً على الجرحى ومرافقيهم؟
وماذا لو كان الطبيب أو الممرض أو المسعف مادياً ولم يقم بما يجب القيام به قبل أن يُدفع له، أو اعتبر نفسه موظفاً يعمل وفقاً لقدرته وساعات عمله فقط، هل كنّا لنرى عيونهم تحيطها الهالات السوداء وأيديهم مغطاة بآثار الدم والأشلاء على مدى يومين كاملين ليل نهار؟ هل كان أحدهم ليترك بيته أو سفره أو إجازته ليقضي أصعب الساعاتفي مقابل موجةٍ عنيفة جداً من المصابين والجرحى وتحت النار؟
لولا ذلك كله، ولولا تلبية هذا المجتمع لنداء الواجب والأخلاق والإنسانية والدين، لما رأينا هذه اللوحة ولا هذه النتيجة، ولكانت المستشفياتُ خالية إلا من العدد القليل من الجرحى الذين أسعفهم الحظ، في حين فارق الآخرون الحياة نزفاً على الطرقات، نعم لقد لبى المجتمع النداء بالدم حين تبرع فيه، ولكنّه تبرع أن يكون جزءاً من التلبية في ميدان المعركة.
أيقونة المشهد
العودة إلى مشهد ذلك اليوم، تُظهر أنه كان يوماً طويلاً، مؤلماً، وقاسياً جداً، ولكنّه كان في الوقت نفسه تحدياً واستحقاقاً مهماً جداً. عناصر المقاومة لبّوا نداء الجهاد باقتدار العارفين، والناس لبّوا نداء الإنسانية بجدارة عالية، والكوادر الطبية لبّت نداء الواجب بمحبة ومسؤولية.
وعلى امتداد عامٍ كامل برز الجرحى وعوائلهم كأيقونةٍ للمشهد، وهم الذين ذُهل الأطباء من صبرهم وإيثارهم وتحملهم يوم الإصابة، واليوم يشهد العالم كله على اقتدارهم وبصيرتهم وثباتهم وعطائهم وإصرارهم.
ومن هنا، وكما إنّ التئام الجراح أخفى مشهد الدم، وصبر الجرحى وإشراقهم خفّف مشهد الألم، فإنّنا اليوم في البحث عن مصطلح ينصف الحدث ويثبت رواية القلم وينقل الفعل من خانة السلبية والقتل والتشويه التي أرادها العدو إلى خانة الإيجابية عبر الاستجابة والصبر والتضحية، لن نجد أفضل من أن نقول: لقد كان حقاً «يومَ التلبية».