فراس الشوفي (الأخبار)
لم يترك الرئيس السوري المؤقّت، أحمد الشرع، الكثير ليقوله اليوم في كلمته في أثناء الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حيال العلاقة مع "إسرائيل". فمن قناة "سي بي أس"، إلى منصة كوكورديا، إلى اللقاء مع عدد من أبناء الجالية السورية في الولايات المتحدة، استبق العضو البارز السابق (ربما) في تنظيم "القاعدة"، خطابه بسلسلة مواقف حول الشؤون السورية، ضمن حملة العلاقات العامة والـ"white washing" المعدّة والمدفوعة من "الراعي الرسمي" في قطر.
تتّسم المواقف التي أطلقها الشرع في أثناء اليومين الماضيين من زيارته إلى الولايات المتحدة، بالكثير من التناقض حتّى في المناسبة نفسها، والاختلاف الجوهري عن مواقف سابقة أطلقها في أثناء الأشهر العشرة الماضية من وصوله إلى حكم الأمر الواقع في دمشق. لكن، إن كانت سريالية مواقف الشرع في نيويورك، تطغى على الصورة العامة للمشهد السوري، فإنّ وجوده بحدّ ذاته، هو ورئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو، على منصّة الأمم المتحدة، للحديث عن العدالة والأمن، يشكّل الهزيمة الكبرى للمنظمة الأممية في عصر أفولها.
الشرع، الذي ترك خلفه بلادًا ممزّقة و11 ألف قتيل في مذابح طائفية وانتقامية متنقلّة منذ وصوله إلى السلطة، وسيادةً مفقودة لا سيّما مع التوغّل "الإسرائيلي" اليومي في الجنوب السوري، قدّم تصوّرًا غير واضح حيال الاتفاق الأمني "الموعود" مع "إسرائيل"، خصوصًا في مقابلته مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، الجنرال ديفيد بتريوس.
إذ سحب القائد السابق للفرقة 101 في الجيش الأميركي، والتي احتلت بغداد في نيسان 2003، من فم الرئيس السوري المؤقّت، جملة مواقف حول سعيه إلى عقد اتفاق مع "إسرائيل"، وصفه الشرع، بأنه وشيك ويشبه اتفاق 1974 الموقّع بين سورية و"إسرائيل". وذهب الشرع، بعيدًا في شرح فكرته، معتبرًا أنّ "الاتفاقات السابقة بين الأنظمة العربية و"إسرائيل" لم تكن جيّدة وقد تمّ خرقها"، في إشارة إلى الأردن ومصر، مؤكّدًا أنه مستعدّ لعقد اتفاق مختلف مع "إسرائيل" وضمان حاجاتها الأمنية، وأنّ هناك حاجة إلى ضمان التعايش بين السوريين والإسرائيليين، ليكون هناك اتفاق بحسب ما نقلت عنه قناة "العربية" السعودية.
لكنّ الشرع، في الوقت نفسه، ورغم تأكيده أنّ الاتفاق "شبه جاهز" مع "إسرائيل"، طرح شكوكًا حول الموقف "الإسرائيلي" الحقيقي، حين سأل ما إن كانت "إسرائيل" تريد ضمانات أمنية أم أنّ لديها مشروعًا توسّعيًا؟ علمًا أنه هو نفسه أكّد قبل مدّة قصيرة، أنّ "إسرائيل" تسعى إلى تقسيم سورية، واصفًا إيّاها بأنها "إحدى الدولتين - إلى جانب إيران - التي تشجّع الفوضى في سوريا".
كيف يمكن للشرع، أن يتقدّم في التفاوض الأمني مع "إسرائيل"، إن كان لا يملك إجابة عن هذا التساؤل الجوهري؟ لعلّ الإجابة الأبرز لفهم مقاربته تجاه الاتفاق، تتمثّل بسعيه إلى صفقة بحدّ ذاتها، من دون أي تعمّق في التكلفة السيادية التي ستدفعها سورية أو المعاني السياسية لمثل هذه الطروحات.
فالاتفاق الذي يتحدّث عنه الشرع، لا يشبه بأي شكل من الأشكال اتفاق 1974، لا من حيث النصوص التقنية والمعاني السياسية، ولا لناحية الظروف المرافقة لسورية و"إسرائيل" بين 1974 و2025. إذ إنّ الاتفاقية التي وقّعتها دمشق، بعد أشهر على حرب أكتوبر 1973، لم تكن لتحصل لو لا حرب الاستنزاف التي شنّتها القوات السورية على قوات الاحتلال على مدى أكثر من 80 يومًا، بعد أن استطاعت الأخيرة أن تحدِث جَيبًا يصل حتّى سعسع، في عمق الجنوب السوري، في اندفاعتها المرتدّة ضدّ الهجمة السورية في أكتوبر.
ثم إنّ الاتفاقية حدّدت بشكل واضح المنطقة المنزوعة السلاح والتي تسيطر عليها قوات "الأندوف"، ومنطقة العشرة كيلومترات الخالية من الانتشار العسكري الثقيل شرق منطقة "الأندوف" وغربها. لكن الأساس أنّ اتفاقية 1974، حافظت على الحقّ السيادي لسورية على الهضبة المحتلة، باستنادها إلى القرارات الدولية الصادرة قبلها تجاه الصراع بين سورية و"إسرائيل"، لا سيّما القرار 242، الذي يؤكّد أنّ الجولان عربي سوري وأنّ على "إسرائيل" الانسحاب منه.
الشرع، الذي أسقط الجولان المحتلّ من خطاباته وخطابات عناصر دولته والمقرّبين منه ومن المفاوضات السرّيّة حتّى، لم يقدّم أي تعليق حول تصريح نتنياهو قبل يومين، الذي أكّد فيه أنّ أي اتفاق لا يمكن إلا أن يتضمّن نزع السلاح من الجنوب السوري و"تأمين الحماية للدروز". أمّا وزير الحرب ال"إسرائيلي"، يسرائيل كاتس، فقد نشر صورًا مع "قوات القتال الجبلي" في جبل الشيخ - حيث ظهرت في الخلفية بقع الثلج الأخيرة المتبقّية، ما يدلّ على أنّ الصورة ملتقطة في أعلى مرتفع في الجبل -، مؤكّدًا أنّ "إسرائيل" لن تنسحب من هذه القمة الإستراتيجية جدًّا في المنطقة.
ورغم المواقف "الإسرائيلية" المتطرّفة، إلّا أنّ انتقاد الشرع، للاتفاق مع مصر، لا يمكن تصريفه في المقارنة مع سورية. إذ إنّ "إسرائيل"، فعلًا لم تخرق "اتفاقية كامب ديفيد" مع مصر، واضطرّت إلى أن تنسحب من طابا (عام 1989) لتوقيع "اتفاق السلام النهائي". بل على العكس، قام الجيش المصري بخرق الاتفاقية عبر نقل قوات إلى شبه جزيرة سيناء قبل عشر سنوات في إطار الحرب ضدّ تنظيم ""داعش"".
ورغم توقيع "اتفاق السلام"، لا يحظى الإسرائيليون بأمان زيارة القاهرة، في ما برز الرفض الشعبي المصري للتطبيع مرات عدّة في عهود الرئيس حسني مبارك، والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وحتّى في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، الذي اعترض المصريون بشكل كبير على إحدى رسائله الدبلوماسية إلى "إسرائيل" (إلى رئيس الكيان آنذاك، شمعون بيريز).
أمّا الشرع، فيطرح تعايشًا بين السوريين والإسرائيليين، ما يعني أنه سيقدّم لـ"إسرائيل" ما لم تحصل عليه من أي نظام عربي لناحية التطبيع الشعبي، بالإضافة إلى تفكيك الهواجس الأمنية، مقتنعًا بأنّ "إسرائيل"، من الممكن ألّا تخرق الاتفاقيات معه، وأيضًا بأنها خرقتها مع غيره. ومع ذلك، لا تزال احتمالات توقيع الاتفاق في نيويورك، وفق ما يطمح إليه الأميركيون والشرع، وحتّى في أثناء الأسابيع المقبلة، مسألة غير أكيدة إن لم تكن مستبعدة، في ظلّ نشوة القوّة التي تستشعرها "إسرائيل" حاليًا، بشكل عام، وتجاه سورية وحال الشرع خصوصًا.