فادي الحاج حسن / كاتب لبناني
تبرز أحيانًا، في تاريخ الحركات السياسية والعسكرية، علاقات شخصية عميقة بين قادتها، تتجاوز حدود الزمالة التنظيمية لتصبح رباطًا فكريًا وروحيًا ومصيريًا. من أبرز الأمثلة في تاريخ لبنان المعاصر، العلاقة التي جمعت بين الأمين العام سيد شهداء الأمة لحزب الله السيد حسن نصر الله ورئيس المجلس التنفيذي الراحل والأمين العام الشهيد السيد هاشم صفي الدين. لم تكن هذه العلاقة مجرد ارتباط تنظيمي بين الرجلين في الحزب، كانت رحلة مشتركة بدأت من روابط القرابة والنشأة، وتعمّقت في حوزات العلم الديني، وتجسّدت في خنادق العمل المقاوم، وانتهت برحيل مشترك على درب الشهادة. هذا المقال يسعى لضبط المحطات التاريخية الرئيسة في مسيرتهما، مصححًا بعض المعلومات الشائعة، ومسلطًا الضوء على طبيعة هذه العلاقة المتجذرة التي شكلت جزءًا أساسيًا من هوية حزب الله وقيادته لعقود.
البدايات المشتركة ومسارات الدراسة المتباينة
وُلد السيد حسن نصر الله في بلدة البازورية الجنوبيةـ في العام 1960، ووُلد السيد هاشم صفي الدين في بلدة دير قانون النهر في العام 1964. نشأ كلاهما في بيئة متدينة تأثرت بالصحوة الإسلامية التي قادها في لبنان الإمام موسى الصدر. وخلافًا لما قد يُعتقد، لم تكن مسيرتهما الدراسية متطابقة تمامًا. انطلق الشاب نصر الله في رحلته لطلب العلوم الدينية مبكرًا؛ ففي ربيع العام 1976، توجه إلى النجف الأشرف في العراق. هناك، وفي ظل مرجعية السيد محمد باقر الصدر، نهل من العلوم الحوزوية، وتتلمذ على يد السيد عباس الموسوي، والذي أصبح لاحقًا معلمه ورفيق دربه. كانت مرحلة النجف حاسمة في تكوين شخصية السيد نصر الله الفكرية والسياسية، لكنها لم تدم طويلًا، فقد أجبرته مضايقات النظام العراقي آنذاك على مغادرة العراق في صيف العام 1979.
أما السيد هاشم صفي الدين، فقد كانت وجهته الدراسية هي مدينة قم في إيران، حيث أمضى سنوات طويلة في التحصيل العلمي. هذا الاختلاف في مكان الدراسة أثّر في طبيعة تكوين كل منهما؛ فبينما تأثر السيد نصر الله مباشرة بأجواء النجف وتحدياتها السياسية، انغمس السيد هاشم في البيئة العلمية والثورية لمدينة قم، والتي كانت مركز الثورة الإسلامية الناشئة.
حوزة الإمام المنتظر.. نقطة تحول في بعلبك
بعد رحيله من العراق، حاول السيد حسن نصر الله إكمال دراسته في قم، لكنّ خططًا أخرى كانت تُعد له في لبنان. في تلك المرحلة، كان السيد عباس الموسوي، والذي عاد هو الآخر من النجف، يعمل على تأسيس مشروع علمي جهادي في منطقة البقاع. وفي العام 1979، أسس السيد عباس "حوزة الإمام المنتظر (عج)" في بعلبك لتكون مركزًا للطلاب الذين لم يتمكّنوا من إكمال دراستهم في العراق.
ألحّ السيد عباس الموسوي على السيد حسن نصر الله ومجموعة من رفاقه العودة من قم للمساعدة في هذا المشروع الوليد. استجاب السيد حسن ورفاقه لهذا النداء، تاركين مقاعد الدراسة في قم ليلتحقوا بركب أستاذهم في بعلبك. لم تكن الحوزة مجرد مؤسسة تعليمية، كانت نواة لمشروع مقاوم أكبر، حيث جمعت بين التحصيل الديني والتربية الجهادية، وشكلت اللبنة الأولى التي انبثق عنها لاحقًا حزب الله. كان السيد حسن نصر الله من أبرز طلاب هذه الحوزة ومدرّسيها، حيث واصل دراسته وتدريسه فيها، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من المشروع الذي أسسه معلمه السيد عباس الموسوي.
الثمانينيات.. عمل السيد نصرالله الجهادي وانغماس السيد صفي الدين الحوزوي في قم
خلال الثمانينيات، بينما كان السيد حسن نصر الله منخرطًا بشكل كامل في تأسيس وتطوير بنية المقاومة في لبنان، كان السيد هاشم صفي الدين ما يزال في إيران، منغمسًا في الدراسة، بالإضافة إلى توليه مسؤوليات تخص اللبنانيين في المجالات الجهادية داخل إيران. كان حضوره في لبنان يقتصر على أوقات متقطعة، مثل مواسم التبليغ الديني أو الزيارات العائلية القصيرة.
العودة إلى لبنان والتدرج في سلم المسؤوليات
شكّل استشهاد الأمين العام السيد عباس الموسوي، في العام 1992، وتولي السيد حسن نصر الله منصب الأمانة العامة نقطة مفصلية في تاريخ الحزب ومسيرة الرجلين. وجد الأمين العام الجديد نفسه بحاجة إلى فريق عمل متجانس وقادر على مواكبة تحديات المرحلة الجديدة. وفي العام 1993، استدعى سماحته مجموعة من الكوادر من قم، وكان من بينهم السيد هاشم صفي الدين، ليساعدوه في تحمل أعباء المسؤولية. عند عودته، لم يتول السيد هاشم منصبًا قياديًا مركزيًا على الفور، بل بدأ مسيرته العملية بتولي مسؤوليات في منطقتي الجنوب وبيروت، ما أتاح له الاحتكاك المباشر بقواعد الحزب وبيئته الشعبية.
جاءت النقلة النوعية في المؤتمر العام للحزب، والذي عُقد في العام 1995. في هذا المؤتمر، انتخب السيد هاشم عضوًا في شورى القرار، وهي أعلى هيئة قيادية في الحزب. بعد ذلك، عُيّن معاونًا جهاديًا، قبل أن يتولى رئاسة المجلس التنفيذي في نهاية العام 1995، والذي حوله إلى ما يشبه "حكومة الحزب" المسؤولة عن إدارة مختلف شؤونه غير العسكرية.
رفيقا الدرب والشهادة
على مدى ثلاثة عقود، شكّل السيدان ثنائيًا قياديًا متكاملًا. كان السيد نصر الله هو القائد الاستراتيجي والواجهة الإعلامية والرمز الملهم، بينما كان السيد هاشم هو "رجل الدولة" الداخلي الذي يدير بهدوء وكفاءة عالية مفاصل الحزب التنفيذية والاجتماعية والمالية. هذه الشراكة العميقة، والمبنية على الثقة المطلقة والقرابة الدموية والمسيرة المشتركة، كانت أحد أهم عوامل الاستقرار والقوة في بنية حزب الله.
كما بدأت رحلتهما متشابكة، انتهت كذلك. في خريف العام 2024، وفي خضم معركة "طوفان الأقصى" التي امتدت إلى لبنان، استهدفت غارة إسرائيلية المقر العام للحزب في بيروت، فأدى إلى استشهاد الأمين العام السيد حسن نصر الله في 27 سبتمبر/أيلول 2024. وبعد أيام قليلة، وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024، استهدفت غارة أخرى السيد هاشم صفي الدين، والذي كان يُنظر إليه على أنه الخليفة الطبيعي للسيد نصر الله، ليرتقي شهيدًا هو الآخر ويلحق برفيق دربه.
إن قصة هذين السيدين هي قصة رفيقين بدآ معًا، وسارا على الدرب نفسه، واجتمعا في المصير نفسه، لتُختتم مسيرتهما الحافلة بالتضحيات كما بدأت: معًا في الفكر، ومعًا في الجهاد، ومعًا في الشهادة.
**المصادر والمراجع**
مركز الإتحاد للأبحاث والتطوير / ufeed
مقابلة مع السيد حسن نصر الله، برنامج "التجربة"، قناة الميادين، 2016. (أشار فيها إلى تأسيس حوزة الإمام المنتظر ودور السيد عباس الموسوي).
"هاشم صفي الدين: 'رجل الظل' الذي أدار 'دولة حزب الله'". *BBC News عربي*، 4 أكتوبر 2024.
"من هو هاشم صفي الدين الذي يوصف بأنه 'الرجل الثاني' في حزب الله؟". *فرانس 24*، 4 أكتوبر 2024.
"حزب الله يؤكد مقتل أمينه العام حسن نصر الله في غارة إسرائيلية على بيروت". *الجزيرة نت*، 28 سبتمبر 2024.
"إسرائيل تعلن مقتل هاشم صفي الدين القيادي البارز في حزب الله". *سكاي نيوز عربية*، 23 أكتوبر 2024. (إعلان الجيش الإسرائيلي الرسمي جاء بعد تأكيدات سابقة).