اوراق مختارة

ظاهرة "الإنفصال العاطفي" بين الزوجين تجتاح البيوت... أسبابها وطرق المعالجة

post-img

ربى أبو فاضل (جريدة الديار)

تعتبر العائلة نواة المجتمع اللبناني، لكنها تواجه اليوم تحديات كبيرة متأثرة بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة. فالعديد من الأزواج يعانون من أزماتٍ تؤثر على استقرارهم العاطفي والنفسي، لتبرز في هذا السياق ظاهرة "الطلاق العاطفي" أو "الانفصال العاطفي" بين الزوجين، كأحد أبرز التحديات التي تهدد تماسك الأسرة اللبنانية.

وقد أصبحت هذه الظاهرة أكثر وضوحا في السنوات الأخيرة، إذ يستمر الزوجان في العيش معا شكليا، بينما تفتقر علاقتهما إلى التواصل العاطفي والحميمية، وهذا النوع من الطلاق لا يتجسد في أوراق قانونية، بل في مشاعر الانفصال والبرود العاطفي بين الشريكين، ما يترك آثارا سلبية عميقة على جميع أفراد الأسرة، ويمتد أثره إلى المجتمع ككل.

يذكر أن الطلاق النفسي أو العاطفي، هو انفصال عاطفي وروحي بين الزوجين، رغم استمرارهما في العيش معا تحت سقف واحد كزوجين قانونيين، ويتميز بفقدان التواصل العميق والمودة والرحمة، ويحل محلها الصمت واللامبالاة. هذه الظاهرة المؤلمة تدمر العلاقة بصمت تدريجيا، وتبقي الزوجين في ارتباط شكلي قد يؤدي في النهاية إلى الطلاق الفعلي إذا لم يعالج.

الأسباب

تتعدد الأسباب التي تقف خلف تفاقم ظاهرة الطلاق العاطفي في لبنان، ويعتبر الخبراء أن أبرزها تتلخص في الضغوط الاقتصادية، وغياب التواصل الفعال، وتبدل التوقعات من العلاقة الزوجية:

1- الضائقة المعيشية المتفاقمة : أظهرت دراسة ميدانية صادرة عن منصة Democraticac أن نحو 73% من الأزواج اللبنانيين أقروا بأن الضائقة المعيشية المتفاقمة ،كانت العامل الأول في تصاعد الخلافات داخل الأسرة، إذ دفعتهم إلى انفصال غير معلن لتخفيف الأعباء المادية والنفسية، فحين يتحول الهم اليومي إلى هم تأمين الحاجات الأساسية، تتراجع لغة المودة لتحل محلها لغة القلق واللوم، ما يخلق فجوة يصعب ردمها.

2- غياب التواصل العاطفي: أشار تقرير صادر عن Motmaina إلى أن الصمت أصبح السمة الغالبة في كثير من البيوت، حيث يستبدل الحوار بالتجاهل، ويجد كل من الزوجين راحته في الانعزال ، أو في تمضية الوقت خارج الإطار العائلي. هذا الانقطاع في التواصل لا يعني بالضرورة وجود كراهية، لكنه يعكس تآكل الرابط العاطفي، الذي يفترض أن يشكل جوهر الحياة الزوجية.

3- تغير التوقعات من الزواج في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية الحديثة، إذ لم يعد الشريكان يكتفيان بالقيام بالواجبات التقليدية، بل يسعيان إلى علاقة تقوم على الانسجام النفسي والتفاهم العميق. ومع غياب هذه المقومات، يصبح استمرار الزواج شكليا، خاليا من الدفء والمشاركة الحقيقية، ما يدفع العديد من الأزواج إلى البقاء معا تحت سقف واحد، لكن بقلوب منفصلة.

آثار قانونية واجتماعية

أخصائي بالطب النفسي والاجتماعي، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد إلى أن "الطلاق النفسي غالبا ما يكون نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال، وسوء التواصل، والعنف اللفظي أو المعنوي، أو الخيانة العاطفية، وصولا إلى انعدام الاحترام المتبادل"، مضيفا "في السنوات الأخيرة، تزايدت هذه الحالات في لبنان بسبب الضغط الاقتصادي، إذ يشعر الزوجان بالعجز واليأس، فتنكسر لغة الحوار، ويحل الصمت مكان التفاهم".

واشار إلى "أن القيود الاجتماعية والدينية تلعب دورا كبيرا في بقاء كثير من الأزواج معا، رغم الانفصال العاطفي، فالمجتمع لا يزال ينظر إلى الطلاق كـ"وصمة"، خصوصا بالنسبة للمرأة، ما يدفعها إلى الصبر على علاقة منهكة، حفاظا على "صورة العائلة" أو من أجل الأطفال".

ويشير هذا الواقع أيضا إلى البعد القانوني، إذ لا يعرف القانون اللبناني مصطلح "الطلاق النفسي"، إلا أن المحاكم تتعامل مع نتائجه عبر دعاوى الهجر أو التفريق. وهنا ، يؤكد مصدر قانوني إلى أن "كثيرا من الأزواج يعيشون منفصلين نفسيا دون طلاق رسمي، ما يخلق آثارا قانونية واجتماعية، خصوصا حول النفقة والحضانة".

شهادات حية

الطلاق الصامت بات شائعا في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، إذ يجد كثيرون أنفسهم عالقين في زيجات ميتة عاطفيا بسبب العادات، وصعوبة الانفصال الرسمي، والخوف من نظرة المجتمع، خاصة النساء.

 تروي سمر (38 عاما)، وهي أم لولدين، أن العلاقة بينها وبين زوجها "لم تعد كما كانت"، "نعيش في بيت واحد، لكننا غريبان، لا مشاكل كبيرة بيننا، ولا حب أيضا، نتشارك المسؤوليات كزملاء في سكن مشترك، لا أكثر"، وتضيف " الوضع الاقتصادي زاد من هذا البرود، إذ بات كل حديث بيننا يدور حول المصروف والفواتير والغلاء، حتى فقدنا القدرة على التحدث عن أي أمر آخر".

يرى نادر (42 عاما)، وهو موظف في شركة اتصالات، "أن الانفصال العاطفي ليس دائما نتيجة الفقر أو الضغط، بل أحيانا بسبب الاختلاف في التطلعات والقيم ، زوجتي تعيش في عالم مختلف، تهتم بالسوشيال ميديا والمظاهر، بينما أنا أبحث عن البساطة والاستقرار، لم نعد نلتقي لا فكريا ولا عاطفيا".

سارة وهي أم لطفلين تشير إلى أنها وزوجها يعيشان كالغرباء منذ سنوات، "هو في عالمه وأنا في عالمي، حاولت مرارا التحدث معه، لكن دون جدوى"، مضيفة " الأولاد يشعرون بالبرود بيننا، وأنا أشعر بالعجز".

جورج وهو أب لثلاثة أطفال يصف الوضع بالصعب ، ويقول "أعلم أن الوضع ليس طبيعيا، لكننا نعيش في مجتمع لا يتقبل الطلاق بسهولة، أحيانا أتمنى لو كانت لدينا الشجاعة لاتخاذ خطوة حاسمة، لكننا نكتفي بالصمت".

تعكس هذه الشهادات واقعا متناميا في المجتمع اللبناني، حيث يعتبر الطلاق النفسي تحديا اجتماعيا ينعكس بعمق على بنية الأسرة والمجتمع، فهو يؤدي إلى تفكك العلاقات الأسرية وتراجع التماسك العائلي، ما يضعف الروابط الاجتماعية ويزيد من احتمالات العزلة والانفصال داخل البيت الواحد، كما يسهم في ارتفاع معدلات العنف الأسري، نتيجة تراكم المشاعر السلبية والاحتقان بين الزوجين، ويترك آثارا اقتصادية ملموسة، إذ يضطر الطرفان إلى تحمل أعباء مالية إضافية، بسبب الانفصال العاطفي واستمرار الحياة المشتركة شكليا دون انسجام أو تعاون فعلي.

الأطفال يدفعون الثمن

ولا تقتصر آثار الطلاق النفسي على الزوجين فحسب، بل تمتد لتطال الأطفال الذين يعيشون في بيئة يسودها الصمت والتوتر، إذ تشير الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن هؤلاء الأطفال يعانون اضطرابات نفسية عميقة تؤثر في نموهم وسلوكهم. فغياب الدفء الأسري وتحول العلاقة بين الأبوين إلى توتر دائم ينعكسان على توازنهم العاطفي، فيصابون بالقلق والاكتئاب وضعف التركيز، ما ينعكس على تحصيلهم الدراسي وعلاقاتهم الاجتماعية.

كما قد تظهر لديهم أعراض جسدية مرتبطة بالحالة النفسية مثل الصداع المزمن، اضطرابات النوم، وفقدان الشهية، إلى جانب انخفاض الثقة بالنفس والشعور بالذنب، إذ يظن بعضهم أنهم السبب وراء الخلافات بين والديهم، فتترسخ في نفوسهم جروح خفية قد ترافقهم حتى مراحل متقدمة من حياتهم إن لم تُعالج في الوقت المناسب.

العلاج

أمام هذا الواقع المتفاقم، يشدد الأخصائيون الاجتماعيون والنفسيون على ضرورة التعامل مع ظاهرة الطلاق النفسي، كقضية أسرية ومجتمعية في آن واحد، لا كمشكلة خاصة تترك للزمن، إذ يرون أن الوقاية تبدأ من التوعية، عبر حملات إعلامية وورش عمل وجلسات حوارية تعنى بتثقيف الأزواج، حول أهمية التواصل الفعال والحوار الصريح في بناء علاقة سليمة ومستقرة، وتشجيعهم على التعبير عن احتياجاتهم العاطفية ، بدل اللجوء إلى الصمت أو الانسحاب.

كما يؤكد الخبراء على دور الاستشارات الزوجية، التي يمكن أن تشكل مساحة آمنة للأزواج لمعالجة خلافاتهم بطرق مهنية، بإشراف مختصين في العلاقات الأسرية يساعدون على فهم جذور المشكلات، وإعادة بناء الثقة بين الشريكين. ولا يقل أهمية عن ذلك الدعم النفسي للأطفال، الذين غالبا ما يكونون الضحايا الصامتين في مثل هذه الحالات، إذ يحتاجون إلى متابعة نفسية تساعدهم على التعامل مع مشاعر الخوف والارتباك، وفهم أن ما يحدث بين والديهم لا يعد خطأهم أو مسؤوليتهم.

الطلاق النفسي في لبنان ليس مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل يمثل أزمة حقيقية تمس الأفراد والعائلات والمجتمع ككل، ومن هنا، يصبح من الضروري أن نعمل جميعا، كأفراد ومؤسسات، للتصدي لهذه الظاهرة وهذا الجرح الصامت داخل الأسر اللبنانية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد