سعيد محمد (الأخبار)
في تحوّل إستراتيجي لافت، قطعت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كافة قنوات الاتّصال الديبلوماسية مع حكومة فنزويلا، لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المواجهة المباشرة، التي انتقلت من العقوبات الاقتصادية إلى استخدام القوّة العسكرية الموجّهة. وتزامنت هذه الخطوة، التي تمثّلت في إيقاف مهمّة المبعوث الخاص ريتشارد غرينيل، مع سلسلة هجمات شنّتها البحرية الأميركية على قوارب قبالة السواحل الفنزويلية، ما أسفر إلى الآن، عن مقتل أكثر من 20 شخصًا.
ويأتي هذا التصعيد النوعي ليتوّج سنوات من الضغط الاقتصادي والديبلوماسي والفشل في تغيير النظام عبر الوسائل السياسية؛ وهو يبرَّر لدى واشنطن، بأنه جزء من "نزاع مسلح" ضدّ كارتلات المخدرات، في ما يُقرأ في كاراكاس وعلى الساحة الدولية، كمقدّمة لمرحلة أكثر خطورة من الصراع.
وكانت القوات الأميركية المنتشرة في البحر الكاريبي، والتي تشكّل أكبر حشد عسكري في المنطقة منذ غزو بنما عام 1989، نفّذت هجمات على أربع سفن على الأقلّ في أثناء الأسابيع القليلة الماضية، أسفرت عن مقتل العشرات ممَّن وصفتهم واشنطن بـ"مهرّبي مخدرات وإرهابيين". وسرعان ما تبنّى الرئيس دونالد ترامب، هذه الضربات، معلنًا أنه: "بناءً على أوامري، أمر وزير الحرب بشنّ ضربة عسكرية مميتة"، مرفقًا منشوراته بمقاطع مصوّرة تُظهر استهداف القوارب وتدميرها.
ولتوفير غطاء شرعي لهذه الأعمال القتالية، أخبرت الإدارة الكونغرس، بأنّ البلاد تخوض "نزاعًا مسلّحًا" مع كارتلات المخدرات، التي يمكن اعتبار أفرادها "مقاتلين غير شرعيين". ويمثّل التعريف المقدّم، وفق خبراء قانونيين، تحوّلًا خطيرًا، كونه ينقل المواجهة من إطار انفاذ القانون، الذي يضمن للمشتبه فيهم حقوقًا إجرائية، إلى إطار الحرب، الذي يبيح القتل كخيار أول.
وتفيد تقارير صحافية أميركية بأنّ "البنتاغون" يعُدّ بالفعل خططًا لتوسيع عملياته، لتشمل هجمات بطائرات من دون طيار ضدّ أهداف يُشتبه في ارتباطها بتهريب المخدرات، من مثل معامل تصنيع مزعومة، وأشخاص متّهمين بأنهم قادة عصابات، داخل الأراضي الفنزويلية. ويترافق هذا التصعيد العسكري مع تهويل إعلامي متنامٍ؛ إذ أبلغ وزير الحرب، بيت هيغسيث، البحّارة المشاركين في المهمّة، بأنّ ما يقومون به "ليس تدريبًا".
ومن جهته، نشر مارشال بيلينغسلي، المسؤول السابق في وزارة الخزانة، لقطات صوّرتها طائرة مسيّرة لِما قيل إنه مخبأ للرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو. لكن الضربة القاضية لأيّ أمل في التهدئة، تبدّت عندما كشفت "نيويورك تايمز" أنّ الرئيس الأميركي، أوعز إلى مبعوثه ريتشارد غرينيل، الذي كان يقود مفاوضات سرّية مع كاراكاس، بهدف التوصّل إلى صفقة تضمن الإفراج عن محتجزين أميركيين ووصول الشركات الأميركية إلى النفط، بوقف جميع أشكال التواصل الديبلوماسي، في خطوة بدا أنها رسّخت انتصار تيار الصقور المتشدّد داخل إدارته، الذي يقوده وزير الخارجية، ماركو روبيو.
أمّا في كاراكاس، فجاء الردّ الرسمي على التحرّكات الأميركية، عبر استعراض للقوّة العسكرية، وتأكيد للجاهزية القتالية. ونظّمت الحكومة استعراضات للدبّابات في العاصمة، وأجرت مناورات عسكرية واسعة النطاق تحت اسم "درع بوليفار" في جزيرة "لا أوركيلا" الإستراتيجية، شاركت فيها، 12 سفينة بحريّة و22 طائرة مقاتلة، بما في ذلك طائرات "سوخوي - 30" روسية الصنع، و2500 جندي من القوات الخاصة. وأعلنت وزارة الدفاع إطلاق صواريخ صينية مضادّة للسفن من طراز "C802"، وصواريخ إيرانية من طراز "CM90"، بالإضافة إلى استخدام أنظمة الدفاع الجوّي السوفياتية الطراز "ZU - 23". وأكّد وزير الدفاع، فلاديمير بادرينو، أنّ 36 ألف جندي في حال تأهّب قصوى.
لكنّ هذا الاستعراض الرسمي للقوّة، قابله مشهد مقلق على المستوى الشعبي. فعندما دعا مادورو، المواطنين إلى التطوّع في الميليشيات الشعبية لمواجهة غزو أميركي محتمل، كانت الاستجابة - بحسب تقارير ميدانية لوكالات أنباء عالمية - "فاترة" و"متفرّقة"؛ إذ تركّز الحضور بشكل أساسي على موظّفي القطاع العام، وعدد قليل من أنصار التشكيلات البوليفاريّة، في ما يعكس الأثر العميق للأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي فاقمتها العقوبات الأميركية، على معنويات المواطنين وقدرة الحكومة على الحشد خارج هياكل الدولة.
من جهتها، تراقب المعارضة الفنزويلية التطوّرات عن كثب، وتراهن على أنّ الضغط العسكري الأميركي قد يؤدّي إلى تصدّعات داخل القوات المسلحة، التي تُعتبر العمود الفقري لنظام مادورو. ووفقًا لزعيمة المعارضة الرئيسة، ماريا كورينا ماتشادو، فإنّ "الحقيقة التي اضطرّت مادورو، لخلق كلّ هذه الحملة حول الميليشيات، تُظهر أنه لا يثق بالقوات المسلحة". وأضافت أنّ النتيجة "كانت محرجة له"، معتبرة أنّ ضعف التعبئة الشعبية يكشف عن عزلته.
وتشير تقارير إلى وجود اتّصالات بين فريق ماتشادو، ومسؤولين أميركيين، ضمن إستراتيجية جديدة تفترض أنّ الضغط الخارجي سيشجّع فصيلًا من الجيش على التحرّك ضدّ مادورو، وهو رهان قديم يتجدّد منذ سنوات. وتأتي هذه المحاولة بعد الفشل الذريع للإستراتيجية السابقة في عهد ترامب الأول، والتي ارتكزت على فرض عقوبات قاسية، والاعتراف برئيس البرلمان آنذاك، خوان غوايدو، كرئيس شرعي للبلاد؛ علمًا أنّ تلك المقاربة انتهت بفشل غوايدو، في كسب ولاء الجيش وتفكّك "حكومته المؤقّتة"، وهروبه إلى ميامي. ويرى محلّلون أنّ ولاء الجيش هو مفتاح بقاء النظام البوليفاري في السلطة، وأنّ أيّ ضربات أميركية لأهداف في الأراضي الفنزويلية، قد تجعل من نظام مادورو ضعيفًا، إذا ما تزعزعت قبضته على الجيش.
على أنّ التحوّل اللافت في السياسة الخارجية الأميركية، يطرح تساؤلات جدّية حول الدوافع الحقيقية وراءه، خاصة وأنّ بيانات وكالة مكافحة المخدرات الأميركية نفسها، تشير إلى أنّ فنزويلا، تؤدّي دورًا ضئيلًا في تجارة الكوكايين المتّجه إلى الولايات المتحدة، ودورًا شبه معدوم في أزمة الفنتانيل. لذلك، يبدو أنّ الهدف الأقرب إلى الواقع هو تحقيق "تغيير للنظام بأقلّ كلفة ممكنة"، عبر دفع الجيش الفنزويلي إلى الانقلاب من الداخل، تحت وطأة التهديد بضربات عسكرية أميركية مباشرة. كما يضيف بعض المراقبين بعدًا آخر يتعلّق بالسياسة الداخلية الأميركية، ورغبة ترامب، في تحقيق "ثأر" أو "إثبات للذات" بعد فشل إستراتيجيته السابقة في إطاحة مادورو، وهو ما اعتبره "إهانة شخصية".
وبالطبع، لا يمكن فهم الإستراتيجية الأميركية العدائية تجاه فنزويلا، بمعزلٍ عن موارد الأخيرة الطبيعية الهائلة. ففنزويلا، لا تتوفّر فقط على أكبر احتياطي مؤكّد للنفط في العالم، متجاوزةً حتّى السعودية، بل إنّ هذا النفط يمثّل ورقة إستراتيجية للتحكّم بأسواق الطاقة العالمية. وتضاف إلى ذلك، مخزوناتها الضخمة من الذهب، والتي سعت حكومة مادورو، إلى استخدامها كأداة للالتفاف على العقوبات المالية، بالإضافة إلى معادن إستراتيجية نادرة مثل الكولتان والبوكسيت.
ومن المنظور الأميركي، تتمثّل "جريمة" الثورة البوليفارية، في أنها أمّمت هذه الموارد، وسعت إلى توجيه عائداتها نحو مشاريع اجتماعية، بدلًا من تركها لشركات الطاقة الأميركية متعدّدة الجنسيات وحلفائها من النخبة المحلّية. وعليه، فإنّ السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على تلك الثروات، وضمان تدفّقها بما يخدم مصالح رأس المال الأميركي، وحرمان الخصوم الجيوسياسيين مثل الصين وروسيا منها، يبدو هو المحرّك الحقيقي وراء كلّ ما تجري تغطيته بذرائع "الديموقراطية" و"الحرب على المخدرات".
والظاهر أنّ الإدارة الأميركية، وبعدما استنفدت خيارات العقوبات والاعتراف بالمعارضة، تعتقد بأنّ التهديد المباشر بالقوّة هو الورقة الأخيرة المتبقّية. لكنّ هذه الإستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فأيّ هجوم مباشر على دولة ذات سيادة، سيواجه إدانة واسعة في أميركا اللاتينية، حتّى من قِبل خصوم مادورو، وقد يؤدّي إلى صراع إقليمي واسع النطاق يصعب احتواؤه، وهو ما حذّر منه ديبلوماسيون ومحلّلون في واشنطن، وخارجها. وهكذا، يبقى الوضع الحالي في حال "حافة الهاوية": واشنطن، تستخدم القوّة المركّزة كأداة ضغط قصوى، بينما تردّ كاراكاس، بالحشد الشعبيّ والاستعراض العسكريّ والاعتماد على تماسك جيشها، في انتظار النقلة التالية من هذه المواجهة الخطيرة.